ما هي (اللغة)؟ وما هي مهمتها؟ وما هو منشأ (اللغة)؟
إن الإجابة التفصيلية والمقارنة والمحقَّقة، عن ذلك، تستدعي كتاباً مستقلاً، وسنكتفي هنا بالإشارة السريعة، بالقدر الذي يسهم في تأصيل مباحث هذا الكتاب.
اللغة في المعاجم وفي علم الألسنيات
عُرِّفت (اللغة) بتعريفات عديدة:
1ـ (كلام البشر المنطوق أو المكتوب)، إذ (اللغة ما يعبر بها كل قوم عن أغراضهم) (1)، ويعد هذا من التعريفات الضيقة.
وفي تعريف أكثر تفصيلاً:
(اللغة كل نسق قائم على إشارت ورموز (Signes" Symboles) لها وظيفة العناصر، وذوات عدد متناه2 وتكون قابلة للتركيب ولإنتاج إعلامات (أقوال، كلمات معلومية) بعددٍ لامتناهٍ، يستفاد منها في التعبير عن الأحوال وفي توصيل الأفكار، أو في صوغ المعارف وفق القواعد الخاصة بالنسق الرمزي أو الراموز المستعمل)(3)، وهذا التعريف مبني على التعريف الضيق للغة.
2ـ (أي نظام للإتصال، كإشارات المرور الضوئية، والإشارات الدخانية للهنود).(4)
وعلى هذا فإن اللغة تشمل لغة الجسد أيضاً، كتقاطيع الوجه وغمزات العين وحركات اليد وغيرها.
(لكن علماء النفس يوسعون معنى اللغة ويطلقونه على مجموع الإشارات التي يعبر بها عن الفكر؛ ولذا تنقسم إلى اللغة الطبيعية (الإشارات، الحركات، الأصوات التقليدية، الظواهر الجسدية)، واللغة الوضعية (الرموز والإشارات المتفق عليها كرموز الجبر والكيمياء وإشارات الموسيقي)، ولغة الكلام (وهي طبيعية ووضعية معاً، وهي ليست نتيجة وحي أو إلهام أو غريزة، ولا نتيجة تواطؤ أو اختراع، وإنما هي نتيجة تطور تدريجي أدى إلى انقلاب الإشارات الطبيعية إلى ألفاظ مفيدة)، (ولها عدة أنواع: لغة اللمس للعميان، ولغة البصر للصم والبكم، ولغة السمع أي الكلام).(5)
وهي على هذا التعريف، من التعريفات المتوسطة للغة اي: من القسم الثاني.
3ـ إن من الممكن تعميمها لمختلف أنظمة الاتصال بين كافة المخلوقات فتشمل حركات النحل الدائرية التي تحدد بنوع حركتها وسرعة دورانها إتجاه وموقع الأزهار بدقة بالغة.
4ـ (تعرف اللغة بأنها كل نسق علامات يصلح استعماله كوسيلة إتصال وتواصل بين الأفراد، وفي معنى أوسع يمكن الكلام على لغة حيوانية أو لغة ألوان...)(6)، ونجد ههنا تعمماً للغة لتشمل (لغة الحيوانات) ثم تعميماً آخر لتشمل لغة الطبيعة.
وقد أشار القرآن الكريم للغة الحيوان بقوله: ƒيَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ‚(7) و: ƒقَالَتْ نَمْلَةٌ‚(8)، و: ƒفَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ‚(9)، وفي الروايات تصريحات كثيرة بكلمات الحيوانات وكلامهم، كما إن قوله تعالى: ƒوَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ‚(10) يدل على وجود نوع لغة لكافة الموجودات، فإن الظاهر أن المراد بالتسبيح ليس فقط التسبيح التكويني بدلالة كل شيء بوجوده وصفاته على تنزيه المعبود عن كل نقص وقال تعالى: ƒ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‚.(11)
اللغة عند الأصوليين
وأما الأصوليون فقد ذكروا في منشأ اللغة كلا الوضعين: التعييني والتعيني، كما بحثوا عن حقيقة الوضع، وعن العلقة بين اللفظ والمعنى، وعن الواضع، في بحوث مفصلة نشير هنا لعناوين بعضها فقط:
* قال الآخوند الخراساني قدس سره (الوضع نحوُ اختصاص للفظ بالمعنى)12
* وقال السيد الوالد قدس سره ناقلاً تفصيلاً أكثر: (فبعضهم قال: كلاهما ـ اللفظ والمعنى ـ حقيقتان متلازمتان كالدخان والنار، وآخر: اللفظ أمر إنتزاعي من المعنى كالزوجية من الأربعة، فالجعل للمعنى وهو يبعث على اللفظ).(13)
* وقال الشيخ التبريزي قدس سره: (الوضع: تعيين اللفظ بإزاء معنى، سواء كان إبتدائياً أم مسبوقاً بالاستعمال المجازي.. وكما يحصل التعيين بإنشائه، كذلك يحصل بالاستعمال).(14)
* وقال المحقق الأصفهاني قدس سره: (الوضع أمر اعتباري يشبه وضع العَلَم على الأرض أو الحجر على الحجر لغرض ما، غاية الأمر الوضع في المثالين حقيقي يندرج تحت مقولة الوضع، وفي اللفظ اعتباري لا يندرج تحت أي مقولة، فلا يكون مما بإزائه شيء في الخارج، ولا محالة منشأ إنتزاع خارجي).(15)
* وقال المحقق الأيرواني قدس سره: (حقيقة الوضع في الألفاظ عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى وجعله عينه إدعاء، وهذه العينية الإدعائية يصححها ترتب غرض التفهيم والتفهم عليها).(16)
* وقال عباد بن سليمان الصيمري: (إن دلالة الألفاظ على المعاني ذاتية، ولا يحتاج في أصل دلالتها إلى الوضع، وإنما يحتاج إلى الوضع في تعيين المعنى وتمييز المراد من المعاني من غير المراد منها).
* وقال الميرزا النائيني قدس سره: (أن دلالة الألفاظ ليست بذاتية محضة بل بها وبالوضع معاَ؛ بدعوى أن كل لفظ يناسب معنى واقعاً وتلك المناسبة مجهولة عندنا، والله تعالى عيّن كل لفظ لمعناه المناسب له، وألهمنا بالتكلم بذلك اللفظ عند إرادة ذلك المعنى، فحقيقة الوضع: تعيين اللفظ لمعنى بمقتضى مناسبة له، وان هذا التعيين من الله تعالى).(17)
* وقد ذهب المحقق الرشتي(18) وتبعه المحققان الحائري والخوئي قدس سرهما إلى أن وضع الألفاظ في حقيقته (إلتزام من الواضع أنه متى أراد معنى وتعقلَّه، وأراد إفهام الغير، تكلم بلفظ كذا، فإذا التفت المخاطب لهذا الإلتزام، ينتقل إلى ذلك المعنى عند استماع ذلك اللفظ).(19)
* والمستظهر: إن (الوضع) هو (تعيين اللفظ بإزاء معنى، سواء كان لمناسبة حقيقيةٍ أم اعتبارية(20)، تنتج نحواً من اختصاص اللفظ بالمعنى، ويسبقها اللحاظ والاعتبار ويلحقها تحقق اعتبار في عالمه).(21)
وليس هذا المقام هو مقام تحقيق الأقوال والمحاكمة بين الآراء والأدلة، فلنكتف بهذا القدر.
والحديث عن (النسبية) سيتمحور ويتركز أولاً وبالذات في إطار الدائرتين الأولى والثانية، وحسب ذينك التعريفين، أما الدائرتان الثالثة والرابعة، حسب التعريفين الثالث والرابع، فإن النسبية وإن كان من الممكن أن يبحث عنها هنالك أيضاً، إلا أن ذلك خارج دائرة الخلاف الكبير حول نسبية اللغة، على أننا سنجد البحث عن ذلك أيضاً ذا فائدة، كما أن كثيراً من أدلة المذاهب الهِرمينوطيقية المختلفة، وردودها، تنطبق على هاتين الدائرتين أيضاً.
حقائق عن اللغة
توجد في العالم حوالي ثلاثة آلاف لغة منطوقة(22)، ولا تدخل اللهجات في إطار هذا العدد.
كما أن بعض المعاجم الكبرى تحتوي على ما يقارب المليون كلمة.
وتتكون (اللغة) من: النمط الصوتي الأعم من الحروف وحركاتها، -ويتراوح عدد الأصوات23 بين 20 إلى 60 صوتاً في كثير من اللغات- والكلمات، والنسبة النحوية، والبُنية الصرفية والبلاغية - نمط ترتيب الكلمات مثلاً-، ولذا كانت (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)24 ذات دلالة إضافية على (نعبدك).
و(علم اللغة) هو (الدراسة العلمية للغة) وكان يسمى قديماً بـ(الفيلولوجيا)، أو فقه اللغة، ويبحث عن مثل:
أ: كيف تتغير اللغات؟
ب: وكيف تتطور، ولذا قد يتوهم أن اللغة نسبية لخضوعها للزمن ومعادلة التغير والتطور، وسيأتي الجواب عنه(25).
ج: ولماذا يكون لهذه المفردة هذا المعنى؟ ويسمى البحث عن أصل وتطور الكلمات بـ(الإيتمولوجيا) وهو فرع من فروع علم اللغة.
وينقسم علم اللغة، إلى (علم اللغة الوضعي) و(علم اللغة المقارن)، أو علم اللغة التاريخي، الذي يدرس اختلاف استخدام اللغات، أو اللغة الواحدة، باختلاف الأزمنة أو الأمكنة أو من متكلم إلى آخر، ولذلك أيضاً قد يتوهم أن اللغة نسبية لاختلاف معاني اللفظ باختلاف الوضع والاستخدام(26)، كما ويدرس تاريخ نشوء اللغات والأسر اللغوية.
مهمة اللغة
وتقوم اللغة بعملية تجسيد الحقائق العينية والمفاهيم الذهنية في قوالب لفظية أو شبهها(27)، أي أنها تكون بمثابة الجسر الرابط بين عالم الوجود الخارجي وعالم الوجود الذهني.
وذلك يعني أن اللغة تقوم بعملية (ربط) الكلمات بـ:
أ: الأشياء الأعم من المجردات ومن الماديات أي الجواهر
ب ـ الأعراض، أي الأعراض التسعة وهي:
مقولة الكم، مقولة الكيف، مقولة الوضع، مقولة الأين، مقولة الملك أو الجِدِة، مقولة المتى، مقولة الفعل، مقولة الانفعال، مقولة الإضافة.
وتعد (الأعمال) من مقولة (الفعل)، وأفردت بالذكر لأهميتها؛ إذ أن مقولة الفعل تعد من المقولات التسع العرضية.
ج: الأفكار والمفاهيم بأقسامها الحقيقية والانتزاعية والاعتبارية، وبتعبير آخر: المعقولات الثانية المنطقية والفلسفية، وغيرها.
وهكذا نجد أن (اللغة) تشكل الرابط بين العوالم الأربعة: عالم الوجود العيني وعالم الوجود الذهني، وعالم الوجود اللفظي، وعالم الوجود الكتبي.
كما أن للغة دلالاتها المطابقية والتضمنية والإلتزامية، ودلالات الاقتضاء والإيماء والإشارة وغيرها، مما يبحث عنه في علم البلاغة: المعاني والبديع والبيان، وبهذه الدلالات تتمدد اللغة وتكون أكثر قدرة على استيعاب المعاني والمفاهيم بجوانبها وظاهرها وباطنها وغيرها.
صلات علم اللغة بالعلوم الأخرى
وعلم اللغة له ترابط وتداخل مع عدد من العلوم الأخرى، فعلى سبيل المثال هنالك الصلات التالية:
أ- الصلة مع علم الأصول، (علماء اللغة الأصوليون)، حيث إن قسماً كبيراً من علم الأصول يتخصص في مباحث لغوية مثل:
هل المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدأ أم في الأعم ممن انقضى عنه المبدأ؟(28)، وهل الأمر ظاهر في الوجوب والنهي في الحرمة، أم في الندب والكراهة، أم في مطلق طلب الفعل أو الترك؟ والوضع، والمعنى الحرفي، والحقيقة والمجاز؟ وعلائمهما، والحقيقة الشرعية؟ وهكذا.
ب- الصلة بعلم الفقه (علماء اللغة الفقهاء)، حيث يبحث الفقهاء عن تحقيق الكثير من المفردات اللغوية؛ نظراً لترتب الأحكام الشرعية عليها، مثل (الوطن) (الآنية) (الصعيد) (الكر) (الغناء) (الكعب) وغيرها مما يندرج في (الموضوعات الصرفة) أو (المستنبطة) وسواء كانت مستنبطة لغوية أم عرفية أم شرعية حسب ما فصلناه في كتاب: (فقه التعاون على البر والتقوى)(29)، بل ويبحثون عن تحقيق الكثير من المفردات اللغوية، حتى من دون ترتب حكم شرعي خاص على تنقيح المعنى اللغوي، وذلك مثل: (الزكاة) و(الصلاة) و(الحج) و(القضاء)، فمثلاً تراهم يبحثون عن معنى القضاء وأنه الحكم أو العلم أو الإعلام أو القول أو الأمر أو الحتم أو الخلق والفعل أو الإتمام أو الفراغ وغيرها، وهل له جامع أم لا؟ وعلى فرضه فهل هو (النفوذ) أم غيره.(30)
أما نظراً(31) لكونها حقائق شرعية في معانيها الخاصة، أو لكونها حقائق ما قبل شارعية كما ذهب إليه السيد البروجردي، أو لغير ذلك.
ج- الصلة بعلم الإجتماع (علماء اللغة الاجتماعيون)، حيث يتناول هؤلاء العلماء بالبحث، كيفية تأثير الاختلافات في الجنس والعمر والمكانة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، على استخدامات اللغة، وقد يستدل به على نسبية اللغة أيضاً، وسيأتي الجواب بالتفصيل عند التطرق لنظرية كانط، وعند البحث عن نسبية اللغة ودعوى عدم وجود المنهج العلمي للوصول إلى حقيقة النص.
د- الصلة بعلم "الأنثروبولوجيا"، أو علم الإنسان أو الأناسة، (علماء اللغة الانثربولوجيون)، وهم الذين يتناولون بالدراسة التأثيرات المتبادلة بين اللغة مع سائر عناصر الثقافة.
هـ- الصلة بعلم تدريس اللغات أو العلوم التطبيقية (علماء اللغة التطبيقيون)، الذين يدرسون مثلاً كيفية استخدام المبادئ اللغوية، لتطوير وتحسين تعلم اللغات الأجنبية وهكذا.
وهناك بحوث أخرى كثيرة حول (اللغة)، مثل أنه هل يمكن الاستغناء في عملية التفكير عن اللغة؟ أي هل يجب بالضرورة أن تتم عملية التفكير في إطار مفاهيم مضغوطة في كلمات؟
إن ذلك ونظائره مما لا يهمنا البحث عنه، إنما المهم هو البحث عن ما يرتبط بـ(الهِرمينوطيقا اللغوية) و(المعرفية)، كما سيأتي تفصيله بإذن الله تعالى.
تنبيه:
إن ما سبق من أن (اللغة) هي الجسر الرابط والوسيط، بين المفاهيم وعالم الأعيان، لجهة العوالم الكونية الأربعة، بل المفاهيم والمفاهيم أيضاً، إنما هو في (العلم الحصولي) فقط، أما (العلم الحضوري) وكذا (العلم النوري)(32) و(الإلهامي)(33) بل حتى أنواع من العلم (الحدسي)، فإنه لا يتوقف على اللغة، بل لا مجال للغة في حقل العلم الحضوري أبداً، وأما العلمي الإلهامي والحدسي وشبههما كالعلم بالأوليات والفطريات والمستقلات العقلية، فقد يكون عبر اللغة كوسيط وقد لا يكون بوساطتهما، وعلى هذا فـ(النسبية) لو فرضت فإنها خاصة بمجال العلم الحصولي.
الأقوال الستة في (الوضع) و"الهِرمينوطيقا"
وأما النقاش الأصولي في حقيقة الوضع، فإن النافع منه في مباحث هذا الكتاب في نقد الهِرمينوطيقا، هو دراسة صحة الاستناد إلى بعض الأقوال، أو كلها، كدليل إضافي على نقد نسبية المعرفة وإبطالها.
وتوضيح ذلك بإيجاز إنه بناء على القولين الأولين: (تلازم اللفظ والمعنى كتلازم النار والدخان، وانتزاعية اللفظ من المعنى)، فإن العلاقة بين اللفظ والمعنى ذاتية، حيث يكون اللفظ غير ملامس لسطح المعاني والمفاهيم والأشياء فقط، بل يكون، على أحدهما، ذاتياً من ذاتيات باب البرهان، وحيث إنه منتزع من حاق ذات الشيء؛ لذا فإنه ينفذ لأعماق الأشياء وبواطنها، فيكون اللفظ جسراً موصلاً إلى (الشيء في حد ذاته) فتبطل بذلك ثنائية "كانط"، بين (الشيء كما يبدو لي) و(الشيء في حد ذاته).
وكذلك الحال لو قلنا بكونهما متلازمين بحسب الوجود، وإن لم يكن هناك تلازم بحسب الذات؛ إذ كما أن ظاهر الوجود العيني للمعنى، ملازم لوجود اللفظ، كذلك باطن الوجود العيني أو المفهومي ملازم للفظ، فإنه دال عليه بأجمعه.
وقريب من هذا البيان يمكن قوله على الرأي الذي ذهب إليه الميرزا النائيني، بل الأمر أوضح، نظراً لأن الله تعالى، على هذا الرأي، هو الواضع للغة والملهم لوضع الألفاظ، لما حدّده تعالى لها من المعاني من قبل، وحيث إنه تعالى محيط بظواهر الحقائق وبواطنها، لذا فإن ثنائية كانت تنتفي بشكل "أوتوماتيكي" آلي أو طوعي. حتى بإعترافه هو.(34)
وأما على مسلك (التعهد والإلتزام) ـ وكذا مسلك أن الوضع عبارة عن تعيين اللفظ بإزاء المعنى ـ فإن الأمر تابع لإرادة الواضع، فكما له أن (يضع) الألفاظ لظواهر الأشياء، من أشكال وألوان وشبهها ـ كذلك له أن (يضع) بعض الألفاظ لبواطن الأشياء، و(للأشياء كما هي في حد نفسها) بل قد فعل ذلك، ويكفي إدراكه للإنيّة في ذلك، دون حاجة لإدراكه (الماهية)، وسيأتي تفصيله.
والأمر كذلك على مسلك أن الوضع أمر اعتباري، بل وعلى مسلك أن (الوضع): تنزيل اللفظ منزلة المعنى وجعله عينه ادعاء، فإنه كما يمكن تنزيل اللفظ منزلة ظواهر المعاني والأشياء، كذلك يمكن تنزيل الألفاظ منزلة بواطن المعاني والأشياء.
نعم تبقى شبهة(35) أن (الذهن) غير قادر بنفسه على أن يصل لبواطن الحقائق، فكيف يضع الألفاظ لها؟ وسيأتي تفصيل الجواب(36) عنها بإذن الله تعالى.
وبالتدبر فيما ذكرناه يظهر أن عدداً آخر من (معاني النسبية) سينتفي بناء على عدد من الأقوال في الوضع أو كلها، فإن المعنى بين الثالث والرابع(37) مثلاً، سيرفضان بناء على المسالك الثلاثة الأولى في الوضع وكذلك الخامس والسادس، وأما على الأقوال الثلاثة الأخيرة، فلا تكاد تظهر مشكلة نظراً لأن الاعتبار بيد المعتبر، وكذا التنزيل والتعهد، فلا تجتمع شرائط التناقض الثمانية حينئذٍ. وعلى القارئ اللبيب التدبر في سائر معاني النسبية ولحاظها، بالنسبة إلى مختلف الأقوال في الوضع، ليخرج بالنتيجة المطلوبة بإذن الله تعالى.
اضف تعليق