1- مهمة التأطير في السياسة:
قلنا في موضوع (التأطير سبيل الانحراف) ان التأطير، هو المبادرة من حاكم او صاحب قرار لإحاطة اي تشريع يناهض طموحه في السلطة بحدود ومفاهيم يعطل ذلك التشريع بما يلزم منه الوصل الى غايات معينة تخدم المتسلط ولا تخدم التشريع نفسه.
والتأطير، يصدر دوما من قبل اصحاب القرار وأهل العقد والحل والقادة والحكام والمتسلطين في المواضيع والمسلمات التي ليس لهم سبيل على تغيرها.
فالتأطير اذن؛ هو وضع اطر للمواضيع العامة المعروفة (الاعراف) او العقائد السماوية حيث يصعب التلاعب بها، تلك الاطر تضمن التوجه الى غايات سياسية منشودة تحت عنوان تلك العقائد.
فيكون بذلك التأطير اسلوب يبطن تعطيل العقائد لتخدم شخص او مجموعة، دون ان يشعر الغالب من الناس في غالبهم ان المؤطِر قد اساء لتلك العقائد.
والحقيقة هي انه: لا يكتمل ايمان المرء ما لم يؤمن بان الاسلام عقيدة كاملة تجيب على كل التساؤلات وتستجيب لكل الحاجات الانسانية، وكل التاطير الذي تبناه المتسلطون هو عمل خارج على الحق والكمال.
فان لم تتوفر الاجابة لسؤال ما فليس الا ان نتهم أنفسنا بالجهل وبالتقصير عن استيعاب علوم الاسلام في القران والعترة وان لم تتوفر الاستجابة في جهة ما فليس الا لتقصير في قدراتنا لتوظيف الاسلام في سد حاجاتنا.
قال الله تعالى: {لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}1
اكمل الدين ببيان الحجة برفع الجهل ووجود من يجيب على كل سؤال، واتمم النعمة بتمام الاستجابة لكل الحاجات التي يمكن ان يحتاج اليها البشر.
ولذا ان اي شخص يتصور ان الاسلام ناقص ويبدر منه ما يظنه انه يسد ذلك النقص، فانما ذلك الشخص - على اقل تقدير - جاهل في اعتقاده بالإسلام وما جاء به الا انحراف ليس من الاسلام بشيء.
وعليه فان التأطير بغير الحق محرم شرعا، وناشز منطقا، ودليل جهل وخطل او انحراف مقصود في المؤطِر والإطار ؛ فقد ورد عن النبي صلى الله عليه واله منعا باتا للتأطير.. فقال موصيا ومحذرا الامة:
(إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدى الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم)(2).
اخرجه؛ (أبو داود، والبيهقى عن ابن مسعود) وللحديث أطراف أخرى منها: (إن بنى إسرائيل لما وقع فيهم النقص)، (لما وقعت بنو إسرائيل فى المعاصى).
ومعنى: ولتأطرنه على الحق أطرأ"؛ أى لتردنه إلى الحق. "ولتقصرنه على الحق قصرًا": أى لتحبسنه عليه وتلزمنه إياه.
ومع ان السياسة الاسلامية مناطها الحق وملاكها العدل، الا ان التأطير لمواضيعها من قبل الطغاة والظالمين الذين تسلطوا باسم الاسلام جعلها تفقد اصالتها، فلحق بها الكيد والمغالبة (كما كان عند معاوية) وهما من سمات السياسة الوضعية لأنهما ينفعان كثيرا للممسك بمقاليد الامور لحكم الناس والتسلط عليهم وتوجيههم الى ما يريد الحاكم، حيث لا عدل ولا انصاف ولا التزام بالعهود والمواثيق يلزم الحاكم في السياسات الوضعية، ولقد نشط كثير جدا من الساسة وعلى مر العصور في توظيف التأطير الاشكالي لمواضيع السياسة، بأطر إبليسية اسرّت الناس وجعلتهم عبيدا طوع بنان الساسة الى حيث يريدون بل وصاروا مخلدين بعبقرية السياسة !!.. قال الله تعالى لأبليس:
({وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} 3.
وكان استفزاز اولاد ابليس (شرك الشيطان) من الساسة والحكام للناس من خلال تأطير مشاريعهم بالخيل والرجال ورؤوس الاموال والأصوات... يعدون الناس ويمنونهم بكل خير وبذلك يتأمرون عليهم ليبقوا في السلطة والتسلط ما شاءوا.
وقد اشار النبي صلى الله عليه واله الى ساسة في الاسلام سيتخذون عباد الله خولا وأموالهم دولا كما جاء في حديث ابي ذر رضوان الله عليه:
جاء في شرح نهج البلاغة: إنّ أباذرّ لمّا دخل على عثمان، قال له: لا أنعم اللَّه بك عيناً يا جُنَيْدِب! فقال أبوذرّ: أنا جُنيدب، وسمّاني رسولُ اللَّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) عبدَ اللَّه، فاخترتُ اسمَ رسول اللَّه الذي سمّاني به على اسمي.
فقال عثمان: أنت الذي تزعم أنّا نقول: إنّ يد اللَّه مغلولة ؛ وإنّ اللَّه فقير ونحن أغنياء!
فقال أبوذرّ: لو كنتم لا تزعمون لأنفقتم مالَ اللَّه على عباده! ولكنّي أشهد لَسمعتُ رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً جعلوا مالَ اللَّه دولاً، وعبادَ اللَّه خولاً، ودينَ اللَّه دخلاً(4).
فقال عثمان لمن حضره: أسَمِعتموها من نبي اللَّه ؟! فقالوا: ما سمعناه. فقال عثمان: ويلك يا أباذرّ ! أتكذب على رسول اللَّه!
فقال أبو ذرّ لمن حضر: أما تظنّون أنّي صدقت! قالوا: لا واللَّه ما ندري.
فقال عثمان: ادعُوا لي عليّاً. فدُعيَ، فلمّا جاء قال عثمان لأبي ذرّ: اقصُص عليه حديثك في بني أبي العاص! فحدّثه، فقال عثمان لعليٍّ: هل سمعتَ هذا من رسول اللَّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) ؟
فقال عليّ (عليه السلام): لا، وقد صدق أبو ذرّ.
قال عثمان: بمَ عرفت صدقه؟
قال: لأنّي سمعتُ رسولَ اللَّه صلى اللّه عليه وآله وسلم) يقول: ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء من ذي لَهجةٍ أصدق من أبي ذرّ(5).
وهذه الحال قائمة في البشرية من خلال السياسة الوضعية الى الان وكما نرى بأم اعيننا.
2- السياسة وفلسفة السياسة:
التأطير الاشكالي لمواضيع السياسة قديم ومعروف تاريخيا لإخراجها عن الحق ولتأطيرها بالباطل لدى كثير من الحكام والملوك السابقين الا انه صار نظرية وسلوكا عند ميكافليلي، والمتتبع يرى فرقا بين ميكيافيلي كما يقرأه الساسة، من خلال كتابه (الأمير)، وميكيافيلي كما يقرأه فلاسفة السياسة، من خلال كل كتاباته ورسائله، وهذا الفرق يتعين علينا الانتباه إليه لتجنب الضياع في الاستقصاء لتجارب فردية دون المعاني الفلسفية لنظرية التأطير الميكيافيلية.
فميكيافيلي هو بداية الفلسفة السياسة الحديثة، لكونه ينتمي لثقافة اسست لها النهضة الأوروبية، وهي البراجماتية، ولذا فان ميكافيللي لا ينتمي لما اسس له الماضون، بالمعنى الحصري للماضي، فميكيافيلي نظر للطبيعة البشرية كما هي بالفعل، وكما تتجلى في التاريخ الفعلي للمجتمعات، وليس كما ينبغي أن تكون، كما فعل فلاسفة السياسة الغربيين منذ أرسطو.
فقد نجح ميكيافيلي في التأثير في كل فلاسفة السياسة في العصر الحديث، سواء باعتباره مصيبا ومحقا، كما فعل اسبينوزا بشكل صريح، أو باعتباره عدوا وخصما ينبغي دحضه، كما فعل روسو.
وعلينا ان نعلم ان فلسفة السياسة الاسلامية ترتبط بالامامة بتلازم ذاتي والامامة قوامها العدل قال تعالى: ({وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } 6.
فالمسالة محسومة نظريا بالنسبة للإسلام باعتباره عقيدة الكمال؛ فالعدل اصل كوني لقيام الاشياء والأفعال والظواهر الكونية ومنها الامام المقترن بالعصمة فلا يأتي منه القبح او الظلم فهو عادل، وهي ايضا وعلى اساسها النظري محسومة عمليا وميدانيا بما اسس له الامام علي عليه السلام في سياسته وكان الله تعالى بما قامت عليه من حروب قد اراد ان يبين حجم المؤثرات القوية التي تعرض لها الامام عليه السلام دون ان تؤثر في قراره السياسي العادل، فعنه (عليه السلام) لمّا عوتب على التسوية في العطاء -: أتأمرونّي أن أطلب النصر بالجور فيمن وُلّيت عليه! واللَّه لا أطور به ما سمر سمير(7)، وما أمّ نجم في السماء نجماً! لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف وإنّما المال مال اللَّه؟!(8).
في حين وبكل صفاقة يأتي الذرائعيون ليعيبوا على الامام علي عليه السلام سياسته بالعدل والتزامه الانصاف، فقد عاب المستشرق (سيكس) على علي (ع) اصراره على الامانة والشرف، لانهما لا يتفقان مع السياسة في معناها عندهم للفرق بين الثقافتين القرآنية والبراجماتية.
ان التأطير السياسي مقرونا بالذرائعية والمصالح الخاصة ليس كما يراد منه نهجا فلسفيا لبلوغ اهداف سياسية معينة تحقق الحق وتؤسس للعدل، ولذا فان الذين يأملون بإمكانية تأسيس علم متين للسياسة بمعزل عن الفلسفة السياسية، القائمة على العدل هو كأمل ابليس في رضا الله تعالى.
ولسدور ابناء ابليس في غيهم وأهوائهم، اتهموا الامام الحسن عليه السلام بالضعف، وانه غير جدير بأن يكون ابن علي (ع)، أمثال: (بروكلمان) و(أوكلي) و(فلهوزن) و(ساكيس)(9).
والذي يؤخذ على هؤلاء، أنهم ينظرون إلى الحسن (عليه السلام) بصفته خصما لمعاوية بن أبي سفيان، الذي يستبيح كل شيء في سبيل تدعيم عرشه والوصول إلى لخلافة، التي هي الغاية الاولى والاخيرة بنظره.
أما الحسن بن علي (ع) فانه ينظر الى السياسة من موقعها وزمامها وملاكها العدل فهي وسيلة لإحقاق الحق وانصاف المظلوم واشاعة العدل والسلام بين الناس، كما ينظر إليها القرآن والاسلام، لذا فانه لا يرى من الحق استعمال المكر والكذب والقتل للوصول إليها، فالخليفة بنظر علي وأبنائه، حامي القرآن بمفاهيمه وحافظ الشريعة بتشريعاتها واخلاقها والامين على حقوق الناس وأموالهم.
اما السياسة والخلافة بنظر ابن هند؛ فهي ان يملك الرقاب والأموال ويحكم بما توحيه إليه شهواته وأهوائه ويستبيح كل شيء في سبيل توطيد ملكه وإشباع غرائزه.
لذلك لم يَر الحسن مجالا من دينه، ان يستعمل الاساليب التي كان يستعملها ابن أبي سفيان.
ولا باس هنا من الاشارة الى بعض اقوال الامام علي عليه السلام التي تؤكد التلازم بين العدل والسياسة للتذكير فقط ان لا اطار صحيح للعقائد غير العدل:
فقد قال الامام علي عليه السلام: (ملاك السياسة العدل)(10).
عنه (عليه السلام): العدل أفضل السياستين (11).
عنه (عليه السلام): كفى بالعدل سائساً(12).
عنه (عليه السلام): ملاك السياسة العدل (13).
عنه (عليه السلام): خير السياسات العدل (14).
عنه (عليه السلام): لا رياسة كالعدل في السياسة(15).
عنه (عليه السلام): جمال السياسة العدل في الإمرة، والعفو مع القدرة(16).
عنه (عليه السلام): الرعيّة لا يصلحها إلّا العدل (17).
اضف تعليق