ولد أبو حامد، محمد الغزَّالي عام 450 للهجرة، في طوس بخراسان، ودرس علم الكلام في نيسابور عند شيخ الحرمين الجويني، ثم قَدِمَ على مجلس الوزير السلجوقي، نظام الملك، ولبث فيه إلى أن أُسنِدَ إليه منصب التدريس في بغداد.
ويُذكر أنهم أحصوا فـي مجلس درسه ثلاثمائة تلميذ ثلثهم من أبناء الأمراء والوزراء. وقد استحوذ على مجالس دروس العامة، حـتى ذاع صيته، واشتهر بين علمائهم بلقب (حجة الإسلام الغـزَّالي) وكان متمرساً فـي فنّ الجدل والكلام.
يقول الإمام الشيرازي (أعلى الله مقامه): "في فورة النجاح التي كان أصابها يومئذ، ألّف جملة من كتبه المشهورة، مثل (مقاصد الفلاسفة) و(تهافت الفلاسفة) و(إحياء علوم الدين). وقد ذهب في كتابه الأخير هذا شططاً، بحيث أفتى فيه بحرمة لعن يزيد قاتل الإمام الحسين عليه السلام سبط الرسول وسيد شباب أهل الجنة (راجع إحياء علوم الدين ج3 ص121).
لكن الأيام تدور دورتها، ويقرر الغزَّالي مغادرة بغداد لينتقل بـين العواصم الإسلامية الأخـرى، فيشاء القدر أن يلتقي فـي إحدى رحلاته تلك بالسيد مرتضى الرازي، فيطلب منه الغزَّالي المناظرة في (مسألة الإمامة)، فلم يمانع السيد المرتضى، لكنه اشترط على الغزالي ألاّ يقاطعه في الحديث قبل استيفاء كلامه، ووافق أبو حامد على هذا الشرط.
ابتدأت المحاورة، وأنصت الغزالي إلى المرتضى، الذي جعل يقيم الأدلة والبراهين على أحقية أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب عليه السلام بالخلافة.
وبين الحين والآخر، كانت محاولات الغزَّالي للمقاطعة تبوء بالفشل، لأن المرتضى لم يكن يعطي له الفرصة لذلك بل كان يستمر في سرد أدلته، بحسب الشرط الذي إتفقا عليه.
وهكذا تكررت الجلسات بين العلمين، إلى أن أسفرت فـي النهاية عن انضمام الغزالي إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام وتشيعه.
واعترض التلاميذ على أستاذهم الغزالي، وتعجبوا منه كيـف استطاع هذا العالم الشيعي المرتضى أن يدخله معه في مذهبه في تلك الفترة القصيرة.
غير إن أستاذهم أجابهم فـي تواضع وهدوء: لقد كان المرتضى ثاقب البرهان، حاضر الدليل، حسن الاستدلال، أظهر ما عنده فأتم، وما كان لي إلاّ الإذعان والاعتراف.
وبعد تلك الواقعة: ألّف الغزَّالي كتابه (سر العالمين) ليعلن فيه أحقية مذهب أهل البيت عليهم السلام، وقد طُبع الكتاب مرات عديدة في مصر وغيرها من بلاد الإسلام).
وقد عقد في كتابه (سر العالمين) فصلاً بعنوان باب في ترتيب الخلافة والمملكة قال فيه:
اختلف العلماء في ترتيب الخلافة وتحصيلها لمن آل أمرها إليه، فمنهم من زعم أنها بالنص، ودليلهم في المسألة قوله تعالى: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما).
وقد دعاهم أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطاعة فأجابوه. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا). قال في الحديث: إن أباك هو الخليفة من بعدي يا حميراء.
وقالت امرأة: إذا فقدناك فإلى من نرجع؟ فأشار إلى أبي بكر. ولأنه أمَّ بالمسلمين على حياة رسول الله، والإمامة عماد الدين. هذا جملة ما يتعلق به القائلون بالنصوص.
ثم تأولوا وقالوا: لو كان علي أول الخلفاء لا نسحب عليهم ذيل الفناء، ولم يأتوا بفتوح ولا مناقب، ولا يقدح في كونه رابعا كما لا يقدح في نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان آخراً.
والذين عدلوا عن هذا الطريق زعموا أن هذا تعلق فاسد وما يتعلق به فاسد، وتأويل بارد جاء على زعمكم وأهويتكم، وقد وقع الميراث في الخلافة والأحكام مثل داود وزكريا وسليمان ويحيى، قالوا: كان لأزواجه ثمن الخلافة، فبهذا تعلقوا وهذا باطل إذ لو كان ميراثا لكان العباس أولى.
لكن أسفرت الحجة وجهها وأجمع الجماهير على متن الحديث النبوي من خطبته الشريفة في يوم غدير خم باتفاق الجميع وهو يقول صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر: بخ بخ يا أبا الحسن لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
فهذا تسليم ورضى وتحكيم. ثم بعد هذا غلب الهوى لحب الرياسة وحَمّلُ عمود الخلافة وعقود البنود وخفقان الهوى في قعقعة الرايات واشتباك ازدحام الخيول وفتح الأمصار سقاهم كأس الهوى، فعادوا إلى الخلاف الأول فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون.
وقد أورد سبط ابن الجوزي كلام الغزالي هذا حيث قال: (وذكر أبو حامد الغزالي في كتاب سر العالمين، وكشف ما في الدارين ألفاظا تشبه هذا. فقال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي يوم غدير خم:
(مَنْ كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة).
قال: وهذا تسليم ورضى وتحكيم، ثم بعد هذا غلب الهوى حباً للرياسة وعَقْدِ البنود وخفقان الرايات وازدحام الخيول في فتح الأمصار وأمر الخلافة ونهيها، فحملهم على الخلاف فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون). (تذكرة خواص الأمة لسبط ابن الجوزي ص62).
وقد صرّح الحافظ الذهبي بـ(تشيع الغزالي) حيث قال: (قال أبو حامد الغزالي في كتاب سر العالمين: شاهدت قصة الحسن بن الصباح لما تزهد تحت حصن الموت، فكان أهل الحصن يتمنون صعوده إليهم فيمتنع فيقول: أما ترون المنكر كيف فشا وفسد الناس، فتبعه خلق، ثم خرج أمير الحصن يتصيد، فنهض أصحابه فتملكوا الحصن، ثم كثرت قلاعهم...)(ميزان الاعتدال للذهبي 1ج ص500).
كما أن أهل الخبرة في علم الرجال والتراجم وعلم المصادر قد أكدوا نسبة كتاب (سر العالمين)، ونقلوا الموضوعات الواردة فيهما منذ عصر المؤلّف إلی يومنا هذا في كتبهم.
ومن هؤلاء الذين نسبوا كتاب (سرّ العالمين) إلی الغزّإليّ: الذَّهَبِيّ في (ميزان الاعتدال)، وابن حجر العسقلانيّ في (لسان العرب) وسبطبن الجوزيّ في (تذكرة خواصّ الاُمّة)، وجرجي زيدان في (آداب اللغة العربيّة)، والملاّ محسن الفيض الكاشانيّ في (المحجّة البيضاء)، والعلاّمة محمّد باقر المجلسيّ في (بحار الأنوار)، والعلاّمة عبدالحسين الامينيّ في (الغدير).
ومن الذين نسبوا كتاب (سرّ العالمين)» إلی الغزّإليّ: القاضي نورالله التُّستريّ في (مجالس المؤمنين)»، والشيخ علي بن عبد العإلي الكَرَكيّ، وهو المحقّق الثاني فيما نقل عنه، والمولي محسن الفيض صاحب «الوافي»، والطريحيّ في (مجمع البحرين). وقال العلاّمة الطهرانيّ: ونسب إلی الغزّإليّ أيضاً في (تاج العروس)، و(الاتحاف في شرح الإحياء).
وهذا وغيره كثير وفيه تفصيل، يؤكد تشيع العلامة الغزالي، لكن بغض النظر عن تشيع الغزالي أو عدمه، يجدر بالذين لا همّ لهم إلا نفي تشيع الغزالي، أن يكون همّهم طلب الحقيقة، ومن ذلك أن يتأملوا بما كتبه الغزالي؟ أو ما هو منسوب للغزالي في كتابه (سر العالمين)، وبسببه أصبح من الشيعة، هل كتب حقاً أم باطلاً؟ وهل ما نقله عن النبي الأعظم صدقاً أم كذباً؟ ليروا مكانهم في موقع الإيمان أو الضلال؟.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (يكفينا دليلاً على أحقية مذهب أهل البيت (سلام الله عليهم)، ما يشهد به التاريخ الإسلامي على امتداده من تحول الآلاف من علماء النصارى واليهود والمجوس والعامة إلى مذهب التشيع الحق، في حين لم يسجل التاريخ أن عالماً شيعياً تحوّل إلى المذهب المخالف فلو لم يكن لنا سوى هذا الدليل لكفى. والذين تحوّلوا إلى مذهب الحق أدركوا جماله، ومن شأن هذا الجمال أن يأسر القلوب ويكسب العقول).
اضف تعليق