فنحن لا نستحق بالذات على اللّه تعالى ثواباً لأعمالنا الصالحة: لأنه تعالى غمرنا بالنعم وعبادتنا وأعمالنا لا تؤدّي حقها، ولأن نفع أعمالنا الصالحة يصل إلينا لا إلى اللّه فهو الغني عنا، وهذا كمن أخبرك بأن أمامك مهلكة فاجتنبتها، فهل يجب عليه أن يكافأك على اجتنابك المهلكة؟ اللّه تعالى تفضّل...
قال اللّه تعالى: (وَٱذۡكُر رَّبَّكَ فِي نَفۡسِكَ تَضَرُّعٗا وَخِيفَةٗ وَدُونَ ٱلۡجَهۡرِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ)(1).
إن اللّه تعالى خلق الإنسان ثم أنعم عليه بنِعَم لا تعدّ ولا تحصى، بحيث يعجز الإنسان عن أداء شكر الواحدة من تلك النِعَم وإن أمضى كل عمره في العبادة، حتى الأنبياء (عليهم السلام) كانوا يعلمون بأنهم لا يتمكنون من أداء حق اللّه سبحانه وتعالى، ولذا كانوا يستغفرون اللّه سبحانه وتعالى، وقد كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يستغفر اللّه سبحانه وتعالى في كل يوم سبعين مرّة من غير ذنب، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: «وإني لأستغفر اللّه في كل يوم سبعين مرة»(2).
والرسول (صلى الله عليه وآله) كل أعماله متطابقة مع إرادة الرب سبحانه وتعالى، وهو معصوم في كل شيء حتى في ترك الأولى، وقد عَبَدَ اللّه سبحانه وتعالى حتى أنزل عليه: (طه * مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ)(3)، فكان يصلّي على أطراف أصابعه بحيث تورّمت قدماه، ثم بعد ذلك نسخ اللّه سبحانه وتعالى هذا التكليف. فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولقد قام (صلى الله عليه وآله) عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه واصفر وجهه، يقوم الليل أجمع، حتى عوتب في ذلك فقال اللّه عزّ وجلّ: (طه * مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ) بل لتسعد به، ولقد كان يبكي حتى يغشى عليه، فقيل له: يا رسول اللّه، أليس اللّه غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: بلى أفلا أكون عبداً شكوراً»(4).
ومع كل ذلك، فقد كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يشعر أنه لم يتمكن من أداء حق اللّه؛ ليس تقصيراً؛ لأن الأنبياء (عليهم السلام) لا يصدر منهم التقصير، وخاصة الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله)، بل لأنه كان يعلم أن اللّه أعظم من ذلك، ولكنه لا يتمكن أن يؤدّي أكثر من هذا المقدار؛ لذا كان يستغفر كالمعتذر من اللّه سبحانه وتعالى من غير ذنب.
فإذا كان هذا حال الأنبياء (عليهم السلام)، ففي غيرهم الأمر أوضح فإننا لا نستطيع أن نؤدّي حقوق اللّه سبحانه وتعالى، ولا نصل إلى كنه شكر اللّه(5).
الثواب تفضل
وعليه فنحن لا نستحق بالذات على اللّه تعالى ثواباً لأعمالنا الصالحة:
أوّلاً: لأنه تعالى غمرنا بالنعم وعبادتنا وأعمالنا لا تؤدّي حقها، وهذا كمن أنقذ غريقاً فقال الغريق له شكراً، فهل يجب على المنقِذ ثواب له على شكره؟
وثانياً: لأن نفع أعمالنا الصالحة يصل إلينا لا إلى اللّه فهو الغني عنا، وهذا كمن أخبرك بأن أمامك مهلكة فاجتنبتها، فهل يجب عليه أن يكافأك على اجتنابك المهلكة؟
نعم كما أن اللّه تعالى تفضّل على الإنسان بخلقه وتفضّل عليه بنِعَم كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، وتفضّل بالهداية بإرسال الرسل واختيار أوصياء لهم... كذلك تفضّل بالثواب على الأعمال الصالحة مع عدم كونها حقاً للعاملين، ولذا ورد في بعض الأحاديث أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: ولا أنا إلّا أن يتغمدني اللّه برحمة منه وفضل، ووضع يده على فوق رأسه وطول بها صوته»(6).
إذن، يجب علينا أن نعلم أن عبادتنا للّه سبحانه وتعالى، وارتباطنا بالأنبياء والأئمة (عليهم السلام) الذين جعلهم اللّه سبحانه وتعالى طريقاً إليه، إنّما ذلك تفضّل من اللّه سبحانه وتعالى علينا لأنه هو الذي وفقنا لذلك.
محبطات الثواب
ثم يجب أن نعلم أن العبادة قد لا يكون فيها ثواب، إمّا لبطلان أصل العبادة كما لو أتى بها رياءً، وإمّا لبطلان ثوابها حتى مع صحتها.
وذلك لأن العبادة على أقسام: فهناك عبادة صحيحة غير مقبولة، وهذا يعني أن الإنسان قد أدّى التكليف ولا يجب عليه أن يقضيه، ويوم القيامة لا يعاقب على ترك الواجب لكن ليس فيها ثواب، فإذا كان الإنسان يصلّي صلاة صحيحة لكنه يرتكب بعض المعاصي، فهذه الصلاة قد لا تكون مقبولة؛ لأن اللّه سبحانه يتقبل من المتقين، قال تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ)(7)، فهذا الإنسان لا يقال له يوم القيامة: لماذا لم تصلِّ؟ لأنه صلّى وصلاته كانت صحيحة مطابقة للمأمور به لكن لا ثواب لها؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى وعد بالثواب بشرط التقوى، وهذا الإنسان أحبط عمله، حيث يرى كثير من الناس يوم القيامة أن عمله قد أحبط، قال تعالى: (وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا)(8).
إذن، يجب على الإنسان أن تكون عبادته صحيحة ومقبولة، وذلك من خلال العمل بتقوى اللّه سبحانه وتعالى. هذا أوّلاً.
وثانياً: يجب عليه أن تكون عبادته أفضل أنواع العبادة؛ لأنه في بعض الأحيان تكون عباداتنا صحيحة ومقبولة لكن درجتها متدنّية؛ لذا يكون ثوابها قليلاً.
نعم بالنسبة إلى أصل الثواب فهو كثير؛ لأن أقل درجات الجنة هي أعلى من كل الدنيا وما فيها، لكن الجنة درجات، والإنسان المؤمن يتحسر لو رأى يوم القيامة أنه كان بإمكانه الدرجات العالية لكنه قصّر في الوصول إليها.
رضوان اللّه تعالى
إن نعيم الجنة لا يوصف، ففيها: «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»(9)، فإذا دخل الإنسان الجنة فسوف يرى أكبر مما كان يتصوّره، فاللّه سبحانه وتعالى يعدّد نعيم الجنة، ولكن في آخر الآية يقول: (وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ)(10)، ففي الجنة الحور العين والقصور وكل شيء: (فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ)(11).
لكن ما هو المراد من (وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ)؟
إن اللّه سبحانه وتعالى ليس محلاً للحوادث، فليس له كيفيات نفسانية مثل كيفيات البشرية، إلّا أن هناك حديثاً يفسر هذه الآية: فعن ثوير، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: «إذا صار أهل الجنة في الجنة، ودخل ولي اللّه إلى جنانه ومساكنه، واتكأ كل مؤمن منهم على أريكته حفته خدامه، وتهدلت عليه الثمار وتفجرت حوله العيون، وجرت من تحته الأنهار وبسطت له الزرابي، وصففت له النمارق، وأتته الخدام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك، قال: ويخرج عليهم الحور العين من الجنان، فيمكثون بذلك ما شاء اللّه. ثم إن الجبار يشرف عليهم فيقول لهم: أوليائي وأهل طاعتي وسكان جنتي في جواري ألا هل أنبئكم بخير مما أنتم فيه؟ فيقولون: ربنا وأي شيء خير مما نحن فيه؟ نحن في ما اشتهت أنفسنا، ولذت أعيننا من النعم في جوار الكريم، قال: فيعود عليهم بالقول، فيقولون: ربنا نعم، فأتنا بخير مما نحن فيه، فيقول لهم تبارك وتعالى: رضاي عنكم ومحبتي لكم خير وأعظم مما أنتم فيه، قال: فيقولون: نعم، يا ربنا رضاك عنّا ومحبتك لنا خير لنا وأطيب لأنفسنا. ثم قرأ علي بن الحسين (عليهما السلام) هذه الآية: (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّٰتِ عَدۡنٖۚ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ)(12)»(13).
إذن، فنعيم الجنة ليس مادّياً فقط، فأهل الجنة يأكلون ويشربون ولهم أزواج مطهرة، وهذا هو النعيم، لكن النعيم الأكبر هو رضوان اللّه سبحانه وتعالى.
اضف تعليق