ما كان له جذور واقعية في النفس الإنسانية، بأن كان له علة طبيعية، أو سبب منطقي في فطرة الإنسان وعقله فلا يكون موضعاً للفرضيات المنحوتة والتعليلات الاحتمالية، بل ويكون تجاهل تلك العلة الواقعية الطبيعية والسبب المنطقي ظلماً فظيعاً بحق العلم والفلسفة، وهو ما ارتكبه أصحاب هذه النظرية...
بقلم: الشيخ جعفر الهادي-مقتبس من كتاب الله خالق الكون
١ ـ الخوف من الحوادث الطبيعية المرعبة
لقد حاول بعض الماديين ـ تبعاً لطائفة من علماء الاجتماع ـ تفسير نشأة التدين وتعليل ظهور الاعتقاد بوجود الله بين البشر بعامل نفسي، وكانت لهم في هذا المجال تصريحات مختلفة نقتطف منها ما يلي:
قال ویل دیورانت: «الخوف ـ كما قال لو كریشس ـ أول امهات الالهة وخصوصاً الخوف من الموت، فقد كانت الحياة البدائية محاطة بمئات الاخطار وقلما جاءتها المنية عن طريق الشيخوخة الطبيعية، فقبل أن تدب الشيخوخة في الاجسام بزمن طويل كانت كثرة الناس تقضي بعامل من عوامل الاعتداء العنيف أو بمرض غريب يفتك بها فتكاً، ومن هنا لم يصدق الانسان البدائي ان الموت ظاهرة طبيعية وعزاه الى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة.
وتعاونت عدة عوامل على خلق العقيدة الدينية فمنها الخوف من الموت ومنها كذلك الدهشة لما يسبب الحوادث التي تأتي مصادفة أو الأحداث التي ليس في مقدور الانسان فهمها، ومنها الامل في معونة الالية والشكر على ما يصيب الانسان من حظ سعيد (1)».
ثم جاء راسل ـ وهو فيلسوف انجليزي ـ وتوسع في هذه النظرية ورد نشوء العقيدة الى ثلاثة أسباب هي:
أ ـ الخوف من القوى الطبيعية القاهرة، الرعد والبرق والزلازل والسيول التي تهدد حياة الانسان بل وتقضي عليها أحياناً.
ب ـ الاضرار التي تلحق به من أبناء جنسه في ميادين القتال، أو حالات الهجوم والغزو.
ج ـ الخوف الحاصل له بعد الإقدام على بعض الاعمال الجنسية عند فورة الشهوة وهيجان الغريزة الجنسية وما يتبع ذلك من الاستيحاش مما فعل والندم مما ارتكب.
فان هذه الامور ـ في نظر راسل ـ هي التي جعلته يلوذ الى «قوة عليا» اخترعها ليسكن الى حمايتها، ويرتاح في كنفها.
إلى غير ذلك من الكلمات التي صرح بها أصحاب هذه النظرية مما تجدها في بعض كتب التاريخ، وعلم الاجتماع والتنفس، والفلسفة المادية.
وها نحن نبحث في هذه النظرية لنرى مدى صحتها من وجهة نظر العلم والواقع.
ان النظر الفاحص الى ما قيل في هذه النظرية حول منشأ الاعتقاد بالله، وارجاع هذه الظاهرة الى عامل الخوف والرهبة من الحوادث الطبيعية المرعبة يوقفنا على ثلاثة اشكالات أساسية في هذه النظرية وما قيل في تقريرها وتبريرها:
الاشكال الأول:
إن أول ما يؤخذ على أصحاب هذه النظرية هو انه يبدو وكأنهم قد اتفقوا على تغافل أن هناك لنشوء الاعتقاد بالله في حياة الانسان عللا «طبيعية روحية» كالفطرة أو «منطقية وعقلية» كدلالة العقل الانساني على وجود قوة عليا عندما يواجه هذا النظام البديع، هذه العلل التي تكشف عن أن للاعتقاد جذوراً واقعية في النفس والعقل الانسانيين غير عامل الخوف من الحوادث الطبيعية المرعبة.
وقد مر ـ في ما سبق ـ ان مجال نحت الفرضيات والتحليلات الفرضية يختص بالعادات والحالات التي لا يوجد لها جذور واقعية في النفس أو العقل الانسانيين، كالتشاؤم لرؤية الغراب أو سماع نعيبه، أو الاعتقاد بنحوسة الرقم 13، وغير ذلك من التقاليد والعادات الخرافية السائدة في بعض الأمم والشعوب على اختلاف مسالكها وعقائدها.
وأما ما كان له جذور واقعية في النفس الإنسانية، بأن كان له علة طبيعية، أو سبب منطقي في فطرة الإنسان وعقله فلا يكون موضعاً للفرضيات المنحوتة والتعليلات الاحتمالية، بل ويكون تجاهل تلك العلة الواقعية الطبيعية والسبب المنطقي ظلماً فظيعاً بحق العلم والفلسفة، وهو ما ارتكبه أصحاب هذه النظرية ومؤيدوها وذلك عندما رفضوا أو تجاهلوا «فطرية التدين» أو «الرابطة العقلية بين مشاهدة النظام والاعتقاد بوجود منظم للكون»، وعمدوا إلى اختراع هذه النظرية وتفسير نشوء العقيدة بها.
الاشكال الثاني:
ان هذه التعليلات فرضيات ذهنية لا يدعمها أي دليل يفيد يقيناً، ويوجب اطمئناناً، وهي تبقى كذلك فرضيات ليس لها أية قيمة علمية مهما ألبسوا عليها من حلل الالفاظ، وأفاضوا عليها من الأصباغ والألوان الزاهية.
فهل يمكن للعقل أن يقتنع بشيء لا يدعمه دليل، ولا يؤيده برهان كهذه النظرية التي ليست الا ضرباً من الخيال؟ وليست سوى مزاعم جوفاء، وفرضيات مبنية على التخمين.
ولأجل ذلك لا يتفق أمثال هؤلاء المحللين في تحليلهم على أساس واحد، ولا ينطلقون من منطلق واحد بل يحلل كل واحد منهم هذه الظاهرة حسب مزاجه ومتأثراً بما يتعاطاه من العلوم ويتبناه من أفكار، فالعالم النفسي يسنده الى عامل نفسي، والعالم الاجتماعي يسنده إلى عوامل اجتماعية، وثالث يسنده الى أسباب اقتصادية، ورابع ينحت له فروضاً جنسية تشمئز منها الطباع السليمة إلى غير ذلك.
الاشكال الثالث:
ان من الظلم الفاحش أن ينسب اعتقاد الشخصيات العظيمة من كبار العباقرة وأساطين العلم والفكر الذين برعوا في الجام الطبيعة، وتسخير بعض قواها، وكبح جماحها ودرء أخطارها عن البشر، الى عامل الخوف من الحوادث الطبيعية المرعبة.
أفيصح أن ننسب اعتقاد سقراط وافلاطون وارسطو، وغيرهم من كبار الفلاسفة الاغريق والفارابي وابن سينا والرازي وابن الهيثم ونصیر الدین الطوسي وجابر بن حيان وغيرهم من عمالقة الشرق، وغاليلو ودكارت ونیوتن وباستور وغيرهم من رجالات الغرب، إلى عامل الخوف من الحوادث الطبيعية، وهم أهل عقل وفهم، ورجال علم واستدلال؟.
فلم لا يكون اعتقاد الانسان البدائي ـ على غرار اعتقاد هؤلاء العلماء ـ مبنياً على الاستدلال العقلي المتناسب مع مداركه، وناشئاً من فطرته النقية.
ثم ان الماديين يتذرعون ـ أحياناً ـ لتبرير هذه النظرية بما تبعثه العقائد الدينية في النفس من السكون والطمأنينة، وبما يكون لها من أثر في طرد الوحشة والقلق والاضطراب عن الانسان.
والجواب هو:
أن العقائد الدينية والايمان بالله القادر الحكيم العادل الرحیم، تخفف ـ ولاريب ـ من القلق، وتبعث على الطمأنينة والسكون وهو أمر يصرح به الكتاب العزيز اذ يقول: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) (الانعام ـ 83)
ويقول:
(أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد ـ 28)
كما لا شك أن الذين يتزودون بسلاح الايمان من المقاتلين في جبهات القتال هم أقوى عزيمة، وأكثر ثباتاً وأشد طمأنينة وهم يعتبرون الشهادة في سبيل الله اختصاراً للطريق الى السعادة، ولهذا لا يهابون الاعداء ولا يخشون أحداً الا الله، فيقاتلون ببسالة، ويضربون أروع الأمثلة في الثبات والصمود ويسطرون أعظم الصفحات في البطولة والاقدام.
الا أن هذا لا يعني انهم اخترعوا فكرة وجود الله لتحقق لهم مثل هذه الحالة، فهناك فرق بين «دوافع» نشأة العقيدة وبين «آثارها» الطبيعية وقد خلط أصحاب هذه النظرية بين الدوافع والاثار حيث تصوروا أن طلب الطمأنينة والأمن هو الذي دفع بالبشر الى اختراع وافتعال فكرة «القوة العليا» ليكتسبوا في ظلها هذه الحالة في حين أن حصول الطمأنينة وما شاكلها انما هو من الاثار المترتبة على العقيدة لا من دوافع ايجادها، فمن آمن بالله قویت عزيمته وسكنت نفسه لانه ربطها بقدرته المطلقة. وحصول هذه الامور انما يكون بعد الاعتقاد بوجود ذلك الفاعل القادر لا باعثاً على تصوره واختراعه.
القرآن ونظرية الخوف
ان ادعاء الماديين بأن الاعتقاد بالله وعبادته والخضوع له جاء نتيجة خوف الانسان من الحوادث الطبيعية الرهيبة ـ حسبما جاء في نظرية الخوف ـ ليس مبنياً على أي أساس صحيح كما عرفت، اذ أية ملازمة عقلية أو عادية بين «الخوف» «واختراع فكرة الاله» في الذهن، فانه لابد من وجود ملازمة عقلية أو عرفية بين «المقدمة» و«النتيجة» حتى يكون تصور المقدمة موجباً للانتقال إلى النتيجة وليس هاهنا أية ملازمة من هذا النمط بين الخوف من الحوادث الطبيعية المرعبة، وبين تصور خالق للكون قادر على دفع البلایا.
فان فكرة «الخالق الاله» ليست هي نفس الخوف من الحوادث المرعبة ولا تلازم بين وجود الخوف في الذهن الإنساني من تلك الحوادث وهذه الفكرة، فكيف ـ والحال هذه ـ يمكن أن تستنتج فكرة الاله الخالق من حالة الخوف.
والحاصل أن التداعي بين الأمرين النفسيين لا يتحقق الا أن يكون بينهما نوع ملازمة عقلية أو عرفية والحال أنه لا وجود لمثل هذه الملازمة لدى الانسان العائش في العصور الأولى، الذي يسند الماديون اعتقاده بالاله الخالق الى خوفه من الحوادث الطبيعية الرهيبة.
فلو لم تكن فكرة الخالق الاله أمراً قد فطر عليه الانسان وحقيقة يميل اليها في أعماق قلبه وضميره، أو لم يكن برهان وجوده مركوزاً في عقله وادراكه لاستحال أن ينتقل في «حالة الخوف من الحوادث الطبيعية المخيفة» إلى فكرة الخالق الاله، وهذا بخلاف ما اذا كانت فكرة الخالق الاله أمراً ارتكازياً للإنسان أو ثابتاً بالبرهان في ذهنه، فإن هذا يكون وسيلة للانتقال ـ عند مواجهة الحوادث المخيفة ـ الى وجود الخالق الاله القادر على دفع الشر عنه.
وأما القرآن الكريم فانه يرى أن الاعتقاد بوجود الخالق الاله سبحانه أمر قد جبل عليه الانسان، وان برهان وجوده موجود في عقله، ولذلك يجعل تصور الخوف سبباً للانتباه الى وجود الاله الخالق عبر ذلك الإذعان الفطري وذلك البرهان العقلي لا سبباً موجداً له في الذهن.
وكم فرق بين كون الشيء (داعياً) إلى أمر لأجل ملازمة عقلية أو عرفية بينهما، وبين كون شيء موجداً لذلك الأمر في رحاب الذهن، ومبدعاً له والصحيح في المقام هو الأول دون الثاني.
فبما ان الانسان مجبول على فكرة الخالق كمجبوليته على سائر الأمور الفطرية الأخرى وكان برهان وجود الخالق موجوداً بشكله البسيط في ذهنه صار ذانك الامران وسيلة ـ عند مواجهة المصائب والنوازل ـ للانتقال والانتباه الى الخالق القادر على دفع الشر والبلية عنه، وهذا يعني انه بفضل تلك الفطرة وذلك البرهان وقف على أن للعالم ـ والانسان بالأخص ـ خالقاً قادراً على دفع النوازل والبلايا عنه.
ولذلك يقول سبحانه ـ كما في غير آية من آيات الكتاب العزيز.
(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) (العنكبوت ـ 65)
وقال:
(وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (لقمان ـ 32)
فالمتحصل من هذه الآيات أمران:
الأول: أن الأمواج الهائلة، وما تثيره من المخاوف والاخطار ليست سبباً لخلق وايجاد فكرة الاله الخالق في النفوس والاذهان بل هي سبب للانتباه الى أمر موجود في ضميره اما من ناحية الفطرة أو من جانب العقل وهو الله القادر والالتجاء الى حمايته، والاحتماء بقدرته.
فلو لم تكن هذه الواسطة (أي كون الاعتقاد بوجود الله أمراً فطرياً أو كون برهانه امراً موجوداً في العقل) لما كان هذا الانتقال إلى الله عند مواجهة المخاوف ممكناً وحاصلا.
الثاني: انه سبحانه يندد بالبشرية على توجههم اليه وتذكرهم اياه في ظرف دون ظرف، وحال دون حال مع انه كان يجب عليهم أن يتوجهوا اليه سبحانه بحكم فطرتهم، وقضاء عقولهم في كل الاحايين، وفي جميع الحالات لا في بعضها.
فان التوجه في حال العسر والشدة اليه سبحانه وان كان دليلا على كون الاعتقاد به أمراً فطرياً لكنه دليل بارز على كفران الانسان له وغفلته عنه سبحانه في بعض الحالات والاحايين.
اضف تعليق