بدون الإيمان (بوجود أسس عقلية فطرية، غير محتاجة إلى الإتكاء على العلم، بل هي الصانعة للعلم)، لا يستقر حجر على حجر، ولا يمكن تحصيل علم أبداً؛ للزوم (الدور)، وذلك مثل بطلان اجتماع النقيضين؛ إذ بدون الإيمان ببداهة ذلك، لا تقوم للعلم قائمة؛ إذ يلزم من...
إن هنالك الكثير من مكامن الخلل في العديد من مفاصل نظرية كانط التي اشرنا اليها سابقاً، ونشير هنا إلى بعضها الآن ـ إضافة إلى ما سبق ـ:(1)
هل خالقية العقل مقياس الصحة؟
1: لا يصح: (فلأن الدائرة مخلوقة للعقل، فلا ريب أن كل ما يحكم به العقل حولها فهو صحيح) وقد علل بذلك صحة كافة القضايا الرياضية كما سبق وأنها مجعولات وفرضيات الذهن.
إذ نقول: لو صح هذا لصح أن يحكم الإنسان الذي خلق جداراً وحجراً ذهنياً؛ على ذلك الجدار بأنه هو ـ أي الجدار ـ خالقه أي خالق لهذا الإنسان وهو خالق العالم، أو بأنه (جدار ولا جدار) من نفس الجهة، وبنفس الوقت، وبنفس الحيثية، وقد سبق التمثيل بغلط العقل لو حكم فرضاً بأن الأربعة التي خلقها ـ حسب كلامه ـ هي فرد وليست زوجاً، وكذا لو حكم بأن الدائرة مساحتها هي حاصل ضرب قطرها في قطرها مثلاً.
2: لا يصح: (لا يمكن الوصول لحقائق الأشياء بمحض الفرض العقلي، مادامت غير مخلوقة للعقل)(2)؛ إذ (الانكشاف) لا يتوقف على (الخلق)؛ ولذا ترى (المرآة) كاشفة عن الأجسام وليست خالقة لها، كما أن البصر يكشف عن الأشياء، وليس خالقاً لها، وكذا سائر الحواس، كما أن الطبيب يكتشف (المرض) و(العلاج) وليس خالقاً لهما، وكثيراً ما يكون كشفه بـ(الحدس) لا بـ(التجربة) أو (الحس).
وقد سبق أن كلامه مجرد دعوى دون دليل، ونضيف: أن خالق العقل والأشياء، له أن يمنحه القدرة على كشفها، فكيف يقول: (فلا يمكن الوصول...)؟
ثم لو كان (الخَلق) ملاك الوصول للحقائق ـ بأي معنى فرض الخلق ـ للزم أن تكون النار باعتبارها الخالقة للضياء والحرارة ـ والتعبير الأصح: التي هي علة الحرارة والضياء، بنفس معنى أن العقل علة وخالق لمفاهيمه الرياضية، حسب رأيه وقوله، متعقّلة لآثارها وواصلة إلى الحقائق، عالمة ومحيطة بها.
ونقول أيضاً: كيف ادعى بأن طريق الوصول للحقائق هو (الحس) و(التجربة) مع أن الحس والتجربة ليستا خالقتين للحقائق، فليكن للعقل أيضاً القدرة على كشف الحقائق وإن لم يكن خالقاً لها؟!
3: كما فصلنا في موضع آخر الإجابة عن قوله: (إن الإنسان لا يمكنه الوصول إلى معرفة الشيء في حد ذاته).
هل (المباني العلمية) هي المرجع الوحيد؟
4: ومن غير الصحيح قوله (ولكن من جهة أخرى في التعقل، لا يمكننا الاطمئنان بدون الاستناد إلى مبانٍ علمية) كقضية عامة مطلقة.
وذلك لأن (الأوليات) و(الفطريات) ليست كذلك، فإنها هي مفاتيح العلوم وتعقلها وما ينشأ منها مباشرة لا يتوقف على أي مبنى يكشفه العلم (بالمعنى المعهود) ثم إنها هي القطعية مائة بالمائة وأما المباني العلمية فأكثرها ظنية، نعم المتواترات والمجربات والمشاهدات، هي كذلك، وقد فصلناه في محله، كما أن (المستقلات العقلية) هي أيضاً مما يحصل بها القطع ولا تتوقف على (العلم) بل هي الصانعة للعلم.(3)
بل نقول: بدون الإيمان (بوجود أسس عقلية فطرية، غير محتاجة إلى الإتكاء على العلم، بل هي الصانعة للعلم)، لا يستقر حجر على حجر، ولا يمكن تحصيل علم أبداً؛ للزوم (الدور)، وذلك مثل بطلان اجتماع النقيضين؛ إذ بدون الإيمان ببداهة ذلك، لا تقوم للعلم قائمة؛ إذ يلزم من إنكار هذه القاعدة، عدم صحة كافة القواعد العلمية وصحتها بنفس الوقت، كما يلزم من انكار هذه القاعدة: شمولية القوانين العلمية وعدم شموليتها... وهكذا.
هل (الطبيعيات) تورث الطمأنينة؟
5: قوله (في الطبيعيات لأن المحققين اعتمدوا على التجربة والمشاهدة حسب إرشادات فرنسيس بيكن وصلوا إلى نتائج مطمئنة...)
جوابه: كلا، بل إن الكثير من النتائج في العلوم الطبيعية، هي غير مطمئن إليها أبداً، بل إن (العلم) كلما تطور، اكتشف بطلان نتائج توصل إليها العلماء السابقون بالتجربة، وقطعوا بها، حتى ظهر لهم بطلانها.
ومن أبرز الأمثلة ما أشرنا إليه في موضع آخر، من بطلان بعض أهم أسس الفيزياء الحديثة، التي بنى عليها أنشتاين نظريته، ومنها (ثبات سرعة النور) ومنها (ثبات حجم مادة الكون).
والحاصل أنه إذا كان (الاختلاف) و(كثرة كشف الخلاف) المقياس لعدم كون الفلسفة الأولى أو علم الكلام أو غيرهما، علماً، فإنهما يوجدان ـ خاصة الثاني ـ بكثرة في الطبيعيات أيضاً، وسنفصل الحديث عن الطبيعيات لاحقاً إن شاء الله تعالى.
موضوعات الفلسفة الأولى والتجربة
6: ثم انه ما الدليل على ما ذكره من أن موضوعات الفلسفة الأولى ـ حتى المجردات منها ـ لا يمكن تجربتها؟ إنه لم يقم دليلاً على ذلك، بل إنه إدعاء مجرد عن البرهنة.(4)
بل نقول:
أ: إن (الحس) قد يعجز عن تجربة المجرد، لكن ما الدليل على أن (العقل) أو (الفكر) عاجز عن تجربته؛ فإن الفكر نوع طاقة وليس مادة؟ وأما العقل فمجرد على رأي.
ب: بل لو قلنا بتجرد الروح، فما يمنع المجرد عن تجربة مجرد آخر؟ أليس الحس المادي قادراً على تجربة الماديات؟ فليكن المجرد قادراً على تجربة المجرد كذلك!
ج: إن تحجيم مفهوم (التجربة) بالإطار الضيق الحسي، دليل ضيق أفق؛ بل (للتجربة) مفهوم أوسع وإطار أشمل، يشمل تجربة الروحانيات والمعنويات، ويمكن الاستشهاد لذلك بتجربة (لذة المناجاة) وتجربة (حالة السمو الروحي) وتجربة (التأمل العقلي الخالص).
د: إن تجربة الشيء إذا أفادت العلم به، أفادت تجربة (آثاره) العلم به أيضاً، فالله تعالى، حيث لا تشمله التجربة، لا يمكن القول: إننا جاهلون بوجوده؛ إذ التجربة والاحساس بآثاره دلنا على وجوده، قال تعالى: ƒسَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‚.(5)
ولذا قال أمير المؤمنين ومولى الموحدين سلام الله عليه: (كيف أعبد رباً لم أره... لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان).(6)
7: وقد ظهر أن قوله: (لا موضوعات الفلسفة الأولى هي داخل الذهن، بحيث يكون العقل خالقاً لها، ولا هي صالحة للتجربة، وإذ لا يمكن تجربتها لا يمكن إصدار الأحكام البعدية فيما..) غير صحيح، للمناقشات السابقة، ونضيف:
قد فصلنا في موضع آخر، وفي مبحث الوجود الذهني، أن التعقل للأشياء على رأي، هو بتعرف العقل على ماهيات الأشياء بأنفسها، أو فقل بدخول ماهيات الأشياء إلى الذهن، لكن برتبة أدنى من الوجود(7)، كما أن الأبصار هو بخروج شعاع من الجسم ودخوله في البصر، وعلى رأينا هو: بنور يقذفه الله في قلب من يشاء، وناتج هذا الجواب هو أن موضوعات الفلسفة الأولى هي داخل الذهن بأنفسها وماهياتها وإن كان ذلك بنحو آخر من وجودها.
ونضيف: إن العقل قد يصل إلى الأحكام التركيبية البعدية، بـ(البرهان)، كما قد يصل إليها بـ(الكشف والمشاهدة) أو العلم الحضوري ـ كما بيناه في موضع آخرـ.
وبعبارة أخرى: إن تحديد وحصر الوصول إلى العلم بالأحكام التركيبية البعدية، بالتجربة أو الخلق، هو أول الكلام، بل من الطرق: الإلهام، والكشف، والبرهان بأنواعه ومنه البرهان الفرضي، ومنه برهان السبر والتقسيم... إلى غير ذلك.
بين كانط وكوبرنيك
8: وأما عن مقارنة ما قام به كانط، بما قام به كوبرنيك، فنقول:
أولاً: إن صحة نظرية ما، مثل نظرية كوبرنيك، لا تعني أبداً صحة نظريات أخرى، لمجرد أنها تشترك في أنها تقوم بعملية قلب وتغيير للمعادلات، إن ذلك مما لا ينبغي صدوره من عامة الناس؛ فكيف بعلمائهم؟ بل:
نحن أبناء الدليل.....أينما مال نميل
وهل التمثيل لما قام به كانط، بما قام به كوبرنيك، إلا مثل كلام من يقول (عملت في الخرائط الهندسية كما عمل كوبرنيك في علم الهيئة.. وأنا ارتأي أننا كنا نعتقد أن المعامل والمدن والعمارات هي الأصل... لكن الآن أرى أن الخرائط الهندسية هي الأصل، فمهما كانت هندسة المعمل والمدينة، فإن ذلك لا يهم، بل المهم هو ما في الخريطة، ولا يهم أنها مطابقة لواقع المدينة أو المعمل أو خاطئة)!.
ولننظر الآن إلى الناتج من ذلك: إذ ألا يضِلّ هذا المفكر طريقه في المدينة ويضل معه كل أتباعه، إذا كانت الخريطة غير مطابقة لها؟، لمجرد أنه قام بعبقريته بقلب المعادلة وقال لا يهم واقع المدينة بل المهم الخريطة! وألا ينفجر المعمل أو المصنع، أو يتعطل، أو لا يعمل أصلاً لو عملنا حسب الخريطة ولم تكن مطابقة لواقع المعمل والمصنع؟
ولا تقتصر اللوازم الفاسدة (لتقليد) الانقلاب الكوبرنيكي تقليداً أعمى دون وجود مقومات التماثل والتشابه بشكل دقيق، على نموذج الخرائط الهندسية، بل يتعداه إلى شتى أبعاد الحياة.
ومن النماذج البارزة: أنه هل يصح قول من يقول: أوهامي وأحلامي وتخيلاتي هي الأصل وعالم الخارج عليه أن يتطابق معها، شئتم أو أبيتم!
وهل يمكن أن نقبل من أي سارق أو خائن أو مستبد أو ظالم، التذرع بنسبية "كانط" لتبرير شرعية أفعالهم؟ قائلين: ليست الأشياء والحقائق هي الأصل، بل العكس (إن الذهن يطبق الأشياء على ادراكاته...) و(إننا نرى الأشياء كما يقتضيها إدراك ذهننا)، وإنني أرى أن الاستبداد ومصادرة الحقوق هو الحق وإن (الظلم بمنظوركم) هو (الأصلح) بنظري بل هو العدل بمنظوري!
ومن الشواهد أيضاً: وضوح بطلان قول من يقول: وصفاتي للعلاج هي الأصل، وليس العلاج الحقيقي الخارجي، وعلى المرض وعلى المريض أن (يدور) حول علاجي فيشفى بوصفتي، لا العكس!!
ثانياً: إن (الافتراض) لا يغيِّر من (الواقع) شيئاً؛ إذ يبقى الافتراض افتراضاً مهما صنع المرء؛ وهل يغير افتراض المفلس، أنه أغنى الأغنياء، أو الجاهل أنه أعلم العلماء، من الواقع شيئاً؟(8) أو هل يغير (افتراض) الحاكم المستبد، أنه (ديمقراطي) أو الحاكم الظالم، أنه (عادل)، من الحقيقة أمراً؟
ثالثاً: إن قياسه بكوبرنيك، غير واقعي، لأن كوبرنيك (اكتشف العكس)، وأقام عليه الأدلة والبراهين، أما هو فـ(افترض العكس).
رابعاً وخامساً: إن أدلته، لا تتطابق مع مدعياته، بل تناقضها وتنقضها، كما أن مقدماته لا تنتهي للنتائج التي توصل إليها أبداً، فلاحظ أن قوله (أي لا يهمنا أن إدراك ذهننا مطابق لحقيقة الأشياء أم لا) يستبطن الاعتراف:
أ: بأن هنالك حقائق خارجية.
ب: وأن لنا أذهاناً.
ج: وأن لأذهاننا إدراكاً.
د: وأن هنالك مطابقة وعدمها.
هـ: وأن المطابقة هي من جهة الذهن، فإن طابق الذهن الواقع، فصحيح وإلا فخطأ، في متن الواقع ونفسه.
لكن المشكلة إننا لا نستطيع إدراك المطابقة من عدمها، ولذا: لا يهمنا ذلك (أي إدراك المطابقة من عدمها)، ثم إنه يستنتج من ذلك كله أن الذهن له أن يصنع أحكاماً تركيبية عن الواقع الخارجي، مهما كانت حقيقة الواقع الخارجي، وهذا يعني أن عدم المعرفة وعدم القدرة تخوِّل صاحبها صك الغفران وتعد مقياس شرعية خلق معارف لا تمت للواقع بصلة!
ونقول: كوبرنيك لم يقل: لا يهمنا أن الأرض تدور حول الشمس أو لا؟ بل قال إن دوران الأرض حول الشمس هو الصحيح، ولم يقل لا يهمنا أن الشمس تدور حول الأرض، بل قال إنه خطأ، ولو فعل كوبرنيك كما فعل كانت لكان قد قال: (لا يهمنا أن الشمس تدور حول الأرض)، وإن ما نعرفه هو أننا ندرك الأشياء كما يقتضيها إدراك ذهننا وحيث إن ذهننا أدرك دوران الأرض حول الشمس فهو صحيح لأن (الذهن يطبق الأشياء على إدراكاته)!
والحاصل: إنه أين (لا يهمني أنك عالم أو جاهل) أو (لا يهمني أنك أمين أو خائن) من مخاطبة الجاهل والخائن بـ(أنك عالم أو أمين) وأن هذا هو ما يقتضيه إدراك ذهني!.
ومن جهة أخرى فإن مقتضى تلك المقدمات(9) هو أن تنتج: لزوم الاحتياط عقلاً، لا أن تنتج ما وصل إليه من (إذن لا يهمنا ذلك).(10)
سادساً: والخطأ الآخر أنه خلط بين عالم الثبوت وعالم الإثبات، فلاحظ قوله (لأننا لا نستطيع أن نعرف ذلك).
إن (لا نستطيع المعرفة) هي قضية من عالم الإثبات فلا تصلح لتعليل (إن افتراضي هو كافتراض كوبرنيك، وأن الحقيقة هي التي تدور حول الذهن).
بل لا تصلح (لأننا لا نستطيع أن نعرف ذلك) دليلاً على (لا يهمنا أن "إدراك ذهننا" مطابق لحقيقة الأشياء أم لا)؛ إذ هل يصح القول (لا يهمني معرفة العدالة من الظلم في توزيع الإرث أو الثروة مثلاً) مستدلاً بـ(لأنني لا أستطيع أن أعرف ذلك)؟
إن موقف من يعترف بأنه لا يعرف ولا يستيطع أن يعرف يجب أن يكون أمراً غير الاهمال وعدم الاهتمام، وغير افتراض أن (جهله) هو (الأصل) أو (تطبيق الأشياء على جهله)، بل موقفه يجب أن يكون أحد الأمور التالية: (التوقف)(11)، أو (الاحتياط) أو الإرجاع لعلماء آخرين، أو ـ في المثال ـ السعي للمصالحة بين الورثة، أو العمل بقاعدة العدل والإنصاف أو حتى القرعة، لا العمل بالظنون المطلقة(12)، وبكل ما خطر بالبال من الإدراكات والذي يعني (الشرعنة) لكل الظنون المتناقضة والمتخالفة.
سابعاً: إن القيام بقلب المعادلة، لا ينتج ما استنتجه من (ولاحظت أنه...) إذ أوضحنا في موضع آخر أن الذهن وإن فرضنا أنه الخالق لمجموعة من الحقائق، إلا أنه لا يخوله ذلك أن يتلاعب بها كما يشاء، وبعبارة أدق: ليس له أن (يحكم) كما يشاء وبأية (أحكام تركيبية) على ما خلقه، فإن (المخلوق) له قواعد تحكمه، ولا يعقل تغييرها أبداً؛ إذ هل يعقل القول مثلاً بصحة (أحكامي التركيبية) على الأوهام الذهنية التي خلقتها: بأنها موجودة قبل أن أخلقها، بل منذ الأزل، وأنها (غير مخلوقة لي)، وأنها (هي الخالقة لي)؟ هل يمكن الإلتزام بصحة تلك الأحكام التركيبية لمجرد أن موضوعاتها مخلوقة للذهن؟ إن ذلك مما لا يقبله (الذهن) نفسه.
ثامناً: هنالك بدائل أخرى أو طرق أخرى، يمكن عبرها (الوصول للأحكام التركيبية) من غير مرورٍ بـ(تجربة) ومن دون توقفٍ على خالقية الذهن للموضوعات، والبديل هو:
أن نفس خالق العقل الذي وهبه القدرة على إدراك الشيء المنفرد، أي على إدراك الموضوع أو المحمول وحده، وهبه القدرة على إدراك (التركيب) بين محمول وموضوع وإن لم يكن المحمول مأخوذاً في حد الموضوع ـ أي وإن لم يكن حكماً تحليلياً ـ.
وبعبارة أخرى: معطي القدرة للإنسان على (التصور) هو بذاته معطي القدرة للإنسان على (التصديق) بثبوت باء لألفٍ، أي المحمول للموضوع، أو المتصوَّر الثاني للمتصوَّر الأول.
تاسعاً: إن كل هذه النتائج التي توصل إليها، والتي اعتبرها انقلاباً كإنقلاب كوبرنيك، لم تحل (المعضلة) التي يبحث عن الحل لها، وادعى أنه بإنقلابه الكوبرنيكي، وصل إلى حلِّها.
والمعضلة كانت ـ حسب تصريحاته ـ (الخلاف الكبير بين أصحاب الفكر والنظر في الفلسفة الأولى) فهل حلّت نظريته النسبية هذه، الخلاف بين العلماء، كما حلّ كوبرنيك الخلاف؟
الجواب الواضح: كلا... ثم كلا... بل إنه لم يزد في الطنبور إلا نغمة، ولم يضف إلى الفلسفة إلا نزاعاً جديداً.
بل إن قلنا إن ما أتى به زاد الطين بلةً، والأمر اعضالاً، والخلاف إشتعالاً، ما كنا مبالغين، فأين هو من الانقلاب الكوبرنيكي؟ اللهم إلا أن تكون الأمور بـ(التمني) و(التوهم) و(أحلام اليقظة)!
تأكيد وإضافة
والحاصل إن دعواه الكوبرنيكية غير صحيحة لوجوه عديدة، لكن لنؤكد ههنا مرة اخرى نقطة ولنضف نقطة أخرى:
فأولاً: هو يعترف بأنه (إفترض) (ومن هنا افترضت أن ذهننا يجعل الأشياء متطابقة مع إدراكه...) فهي إذن فرضية لا غير، ومن الواضح أن (الفرضية) لا قيمة لها إلا لو أقيمت عليها مجموعة من الشواهد فتتحول عندئذٍ إلى (نظرية) ثم إن (النظرية) بدورها لا قيمة علمية لها إلاّ إذا استكمل البرهان عليها لتتحول إلى (قاعدة) و(قانون علمي).
ثانياً: من البديهي، والمبرهن في مبحث مناط الصدق في القضايا أن الأشياء لها تقررها في الواقع، وأن الصدق والكذب في القضايا بمطابقتها لـ(نفس الأمر)(13) الذي يعني (الواقع بمراتبه) فهو مساوٍ للوجود وليس أعم(14)، إلا أن للوجود مراتب.
وهناك أجوبة أخرى عديدة ذكرتها في موضع آخر، على أن الكثير من الأجوبة التي طرحتها في هذا الكتاب على سائر النظريات، يصلح، مع بعض التعديل، كإجابة على مختلف كلمات كانط، والله المستعان وهو الناصر الغفار.
هل كانط سوفسطائي؟
نعم، يستدرك كانط في آخر كتابه فيقول: (إنني لست سوفسطائياً ولا أقول بأصالة التصور، ولا أنفي الموجودات ولا الحقائق)(15).
لكن هل ينفعه هذا الإستدراك والإقرار بأنه لا ينكر أصل وجود الحقائق، أم إنه يوقعه في وحل (التناقض) فإن كلماته على أية حال، متناقضة، وتدل دعواه الكوبرنيكية على أنه ينفي وينكر، ولا يقول لا أعلم فقط، وبذلك يظهر عدم صوابية دفاع مؤلف (سير حكمت در اروبا) عنه(16).
والحاصل: إن تراجعه الضبابي هذا يناقض إدعاءاته الكوبرنيكية؛ إذ في معادلة كوبرنيك، فإن المحور هو الشمس حقيقة، والأرض تدور حولها، فإدعاؤه بأن إنقلابه كإنقلاب كوبرنيك يعني أن (التصور) هو (الأصل) لا الواقع، فتدبر.
هذا إضافة إلى أن كلامه هذا لا ينفعه في دفع سائر الإشكالات الواردة على (النسبية)، خاصة وأنه بعد ذلك يؤكد: (إنني أقول: إن إدراكنا للظواهر هو على حسب ما تقتضيه شرائط (أي أوضاع وأحوال) الحس والعقل(17)، وأن الحقيقة، بالنسبة لنا، هي هذا الذي ندركه)(18)، وقد ناقشنا قوله هذا في عدة مواضع من الكتاب.
كما أنه ناقض نفسه أيضاً ـ كما بيناه في موضع آخر ـ حيث قال: (إن نفس هذه المحسوسات والتجربيات يعني الظواهر التي أراها موضوع التعقل، يدل وجودها على أن هنالك ذواتاً تُعَدُّ هذه الأعراض، ظواهر لها؛ وذلك لأن الظهور يحتاج إلى المظهر، ولعل الله تعالى أعطى مخلوقاً آخر قدرة إدراك الذوات...).(19)
هل العقل قادر على العمل خارج المجال الحسي؟
ولننتقل الآن إلى التركيز على مناقشة إحدى مقاطع من كلامه(20) فنقول:
إن هنالك أجوبة كثيرة عن مجمل هذا الكلام، لكن سنقتصر على الجوانب التي ترتبط ببحثنا من قريب فنقول:
إن قوله (إن تركيب الذهن البشري بحيث لا يتمكن إطلاقاً من العمل خارج المجال الحسي أو ظاهر الأشياء..) يلاحظ عليه إنه:
أ: مجرد إدعاء لا دليل عليه.
ب: بل كلامه هذا دعوى تنقض نفسها بنفسها؛ لأن الذهن البشري أو العقل البشري بدوره ظاهر وباطن (فنومن ونومن) فكيف حكمت على الذهن بقول مطلق، أي حتى على (الذهن في حد ذاته) وجوهره، بأنه غير قادر؟!
بل من الواضح أن للذهن طاقات غير محدودة، ولم يستثمر إلا أقل القليل منها حتى الآن.
ج: بل إن كلامه هذا يناقض كلامه الآخر الذي يصرح (ما دام لم نستعمل قوة التعقل..) (العلم بحاجة إلى مبانٍ عقلية).
د: هذا إضافة إلى أن هذا الكلام كله متفرع على تحقيق الحق في الذهن والعقل، وأنه ما هو؟ وهل هما أمران أم أمر واحد؟ وعلى أي تقدير: هل هو أمر مادي أم مجرد؟ مادة أم طاقة؟ وعلى كل التقادير فهل هو جوهر أو عرض؟ وهل هو كيفية نفسية أم غيرها؟ أم أن (الذهن) لا وجود له بل يتشكل ويتكون بتوارد المعلومات على النفس؟ أم غير ذلك؟
إن (العقل) و(الذهن) مجهولان للبشرية، والأقوال فيهما تجاوزت العشرين قولاً، وقد أشرنا إلى بعض الأقوال في العقل في كتاب (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية).
وإذا كانت حقيقة (العقل) و(الذهن) مجهولة، فكيف لنا أن نحكم عليه بأنه غير قادر إلا على إدراك ظواهر الأشياء، وأنه غير قادر على العمل إلا في المجال الحسي؟
مناقشات أخرى
ان قوله (نحن نتعامل مع ظاهر التفاحة مثلاً، لا كيف هي في الواقع...) يمكن الجواب عنه، على حسب التحقيق في (الوجود الذهني) وأنه قد يتم بناء على أنه الصورة الحاصلة من الشيء لدى الذهن، دون ما لو قلنا بأنه حضور (ماهية) المعلوم لدى العالم، أو غير ذلك، خاصة على ما قد فصلناه في (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية) إذ برهنّا هناك أن (العلم نور) وأنه يخترق الأعماق فيضيؤها للإنسان، كما يقشعُ الظلامَ عن السطح والظاهر.
ثم إن اعترافه بـ(أنه بالإضافة إلى ظاهر التفاحة يوجد شيء في ذاته) لدليل على أن الذهن البشري يدرك ـ ولو اجمالاً ـ الباطن و(النومن) وهو (الشيء في ذاته).
كما أن اعترافه بأن (الشيء في نفسه هو العلة للظواهر والأحاسيس) اعتراف بنقض كلامه السابق؛ إذ كيف أمكنه النفوذ إلى الشيء في ذاته والحكم عليه بالعلِّية؟ مع أن العلية باعترافه هي صفة (الشيء في ذاته)(21)، واللطيف أنه لم يقم على دعاواه، أدلة، إلا بدعاوى أخرى، مثل (لأن المقولات الذهنية إنما يصح استعمالها...).
وبذلك يظهر بطلان إدعائه بأن (العقل بمفرده لا يمكنه خلق المعرفة) و(أن موضوعات الفلسفة الأولى لا تقع أساساً موضوعاً للعلم) سواء أراد بموضوعات الفلسفة الأولى: المجردات، أم أراد مثل الجسم والنفس وغيرهما.
كما أنه لا يعلم المراد من قوله (الحقيقة المطلقة)(22) فهل مراده (الفيض المنبسط) أو (الوجود اللا بشرطي)؟
والأول باطل كما هو ثابت في علم العقائد والكلام(23).
والثاني مجرد مفهوم ذهني؛ إذ الوجود مساوق للتشخص والتقيد.
نعم يحتمل أنه يريد منها (نفس وجود الشيء في ذاته، مع قطع النظر عن عوارضه وكيفياته وأشكاله وألوانه).
والجواب إضافة إلى ما سبق، وما سيأتي، أنه لا دليل على أن (الحواس الباطنة) لا تنال ذات الشيء، أو بعض الحقائق والقوانين التي تحكمه، ثم لا دليل على أن (العقل) لا ينال ذات الشيء بأي وجه من الوجوه، حتى لو فرض القبول بأن الحواس الظاهرة ثم الباطنة لا تنال من الشيء إلا ظاهره وشكله وكيفياته، دون ذاته، وقياس الحواس الباطنة على الحواس الظاهرة، فياس مع الفارق وأي فارق؟ فكيف بقياس العقل على الحواس الظاهرة؟
هل الرياضيات من صناعة الذهن البشري؟
إن كانط أخطأ في توهمه (أن موضوعات الرياضيات كالمثلث والمربع والأعداد، هي من صناعة الذهن البشري ولذا تصدق كافة الأحكام بشأنها صدقاً يقينياً) وتفصيل الكلام يطلب من مبحث (مناط الصدق في القضايا) و(مبحث الوجود الذهني) وغيرهما، ونقول إجمالاً:
إن الرياضيات هي من المعقولات الثانية الفلسفية، وهي ما كان الاتصاف في الخارج والعروض في الذهن، وهي موجودة بوجود منشأ انتزاعها في أي عالم كان وليست مخلوقة للذهن؛ لبداهة أن الغرفة المربعة، مربعة، سواء وجد ذهن وذاهن أم لا، ولبداهة أن مساحة المربع مثلاً هي حاصل ضرب أحد أضلاعه في الآخر، سواء تصورنا ذلك كذلك، أو تصورنا ضده وأنه يساوي حاصل تقسيم أحد أضلاعه على الآخر، فرضاً، أم لم نتصور شيئاً اطلاقاً، فإن المربع في كل الحالات والصور هو المربع كما أنه هو المساوي لحاصل الضرب ذاك.
وبعبارة أخرى: إن لها(24) تقرُّراً في نفس الأمر وعالم الواقع، وقد اكتشفه العقل، ولم يخلقه.
هذا. إضافة إلى أنه لو تمّ استدلاله، للزم القول بصحة الأوهام والتخيلات وغيرها؛ لأنها (فرض عقلي محض) و(لأن الذهن قادر على الحكم بشأن فروضه) وعلى ذلك يكون من توهم نفسه عالماً ـ وهو جاهل ـ أو ملكاً ـ وهو موظف صغير ـ عالماً حقاً وملكاً حقاً (لأنها فروض مخلوقة للذهن) وكذا من توهم الورق العادي، عملة نقدية، أو توهم نفسه زوجاً لإبنة الملك أو غير ذلك.
بعبارة أخرى: الرياضيات، ككل الانتزاعيات، موجودة في عالمها، فلو طابقها الحكم العقلي، صح، وإلا لكان باطلاً، ولذا نجد أن من يقول (المثلث زواياه تساوي ثلاث قوائم) مخطأً! لماذا؟ ولو كان مجرد فرض عقلي محض، والذهن قادر على الحكم بشأن فروضه، لكان لكل عقل أن يخلق أية مسألة رياضية ويحكم عليها كما يشاء؟
بل التحقيق إن (الاعتباريات) أيضاً لها تقررها، الذي باعتباره يكون صدق الخبر والاعتقاد، أو كذبه.
اضف تعليق