إن النسبية بمعنى ظنية العلوم والمعارف تواجه الإشكالات التالية:
1: بعض العلوم قطعية
2: مسائل قطعية في علوم شتى
3: بطلان اللازم أو الملازمة
4: (مفاتيح العلوم) قطعية
5: الظنون المعتبرة
6: برهان (الغاية) والاكتفاء بالظن
7: الكمال قد يكون في الضعف
8: ضوابط الظن وأحكامه
ضوابط الظن وأحكامه
إن (الظن) له ضوابط وحدود وقواعد وأحكام، عقلائية وشرعية كما أن له (نتائج) خاصة أيضاً، كما أن (الشك) أيضاً كذلك، و(الوهم) أي الاحتمال المرجوح أيضاً كذلك.
وإن تجاوز تلك الضوابط والحدود، وإهمال القواعد والأحكام أو القفز إلى نتائج أخرى، يعد خطأً فادحاً وجهلاً فاضحاً.
وهذا يعني أن القول بـ(نسبية المعرفة) وتفسيرها بـ(ظنية المعرفة)، لا يعفينا من سلسلة من القواعد والأحكام والحدود والضوابط، كما أنه لا يعني: (أنه حيث كانت المعرفة ظنية، فلنا أن نستنتج من ذلك، صحة تجاوز تلك (المعرفة) والانتقال الفوضوي إلى غيرها، أو أن نستنتج عدم حجيتها، أو أن نستنتج حجيتها وحجية ما يضادها أيضاً).
توضيح ذلك:
أ: مناشئ الظن
إن (الظن) له (ضوابط) من حيث (مناشئه)، كما له (ضوابط) من حيث موارد (استعماله) ومحطات استخدامه. كما أنه له (أحكاماً)، كما أن هناك شروطاً لـ(الظان)، كما ان له نتائج خاصة لا يمكن تجاوزها، بحجة أن سببها (ظني)، فلا حاجز يمنعنا من إهماله والإنطلاق للتمسك بـ(الوهمي) الذي يقابله!
فمن ضوابطه من حيث (المنشأ): أن يكون متولداً من (الطرق والأسباب العقلائية) وهو المسمى بالظن النوعي، ولذا لا حجية، بنظر العقلاء، للظن الناشئ من قراءة الكف أو الفنجان، أو من قول غير الثقة، أو من الأحلام.
وهذا الظن ونظائره فقط هو الذي يصح القول فيه بأنه يجوز إهماله(1) (والانتقال إلى المحتملات المعرفية في الدوائر الأخرى) كما سبق في التفسير الحادي عشر للنسبية.
ب: من ضوابط موارد استخدامه
ومن ضوابطه من حيث (موارد استخدامه ومواد قضاياه): أن لا تكون مادة القضية مما يجب فيها حصول القطع، ولذا لا يصح الاعتماد على (الظن) في مسائل الهندسة والحساب، أو في صناعة السدود والأجهزة الحساسة، كأجهزة الملاحة والطيران وشبههما، وإن صح استخدامه في الخرائط التقريبية ـ لا العلمية ـ والرسوم الجمالية، أو في مثل صناعة الملابس أو الألعاب البسيطة أو غيرها، ولو في الجملة.
ج: من أحكامه
ومن أحكامه: سقوطه عن (الحجية) إذا تضارب مع (الظن الأقوى)، كما لو تعارضت البينة مع بينة أخرى أرجح منهما بالعدد (كما لو كانت بينتان مقابل واحدة) أو العدالة أو بسائر المرجحات (على القول بالترجيح بذلك) وكذلك في خبر الواحد لو تعارض خبر الثقة مع خبر ثقة آخر أرجح منه بالمرجحات المنصوصة كـ(الحُكم ما حَكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما) (2) أو غير المنصوصة (على الرأيين).
ومن أحكامه: كون المطلق منه حجة في باب (الانسداد) لكنه يسقط عن الحجية لو انفتح الباب ولو انفتاحاً صغيراً وذلك كما لو تعارض قول الفاسق غير الثقة مع قول الثقة العادل، أو لو تعارضت الشهرة الضعيفة جداً والمشبوهة، من حيث مصدر تولدها، مع المتولدة من المصادر الموثوقة (بناء على حجية الشهرة الروائية أو الفتوائية).
كما أن من (أحكامه): لزوم إتباعه والحركة على طبقه فيما إذا كان من الظنون النوعية العقلائية.
ومن أحكامه العقلية: كونه منجزاً ومعذراً، كذلك.(3)
ومن أحكامه: حجيته في لوازمه وملزوماته...(4)
و(الشك) أيضاً، له أحكام وقواعد، فالشك في الامتثال، مجرى الاشتغال؛ والشك في الاشتغال(5)، مجرى البراءة؛ والشك في العنوان والمحصِّل، مجرى الاحتياط؛ وكذا الشك في أطراف العلم الاجمالي في الشبهات المحصورة(6) والشك في الحجية، موضوع عدم الحجية... وهكذا.
د: من شروط الظان
ومن شروط (الظان): أن يكون من أهل الخبرة، فإن ظن غير أهل الخبرة فيما يحتاج إليها ليس بحجة.
ومن شروطه: أن لا يكون مقصراً في (المقدمات)؛ فإن المقصر في المقدمات(7) لو (ظن)، فلم يطابق الواقع، فعمل على طبق ظنه، لم يكن معذوراً.
ومن شروطه: أن لا يترك ولوج باب العلم، مع انفتاحه له، ليدخل عبر بوابة الظنون (كما في أصول الدين)، إلا فيما دل (النص) على ذلك (كما في الفقه، كالرجوع للراوي الثقة، رغم وجود الإمام (عليه سلام الله).
هـ : التخلي عن نتائج الظن
وأما من حيث (النتائج) فنقول:
ليس(8) للعاقل أن يتخلى عن ظنونه العقلائية، إذا كانت جامعة للشرائط؛ بدعوى (احتمال) أن يكون الحق مع الخَصم وأن (رأيي صحيح يحتمل الخطأ) و(رأيك خطأ يحتمل الصحة).
وبعبارة أخرى: ذلك الاحتمال ملغىً في نظر العقل والعقلاء ومُنزل منزلة عدمه، فهو كاحتمالك أن تصطدم بسيارة لدى خروجك للشارع، فهل يا ترى من العقل والحكمة، أن يعتكف الناس كلهم في بيوتهم لأجل ذلك؟!(9)
نعم ... غاية ما يقال فيمن (يحتمل) مخالفة (ظنه النوعي) للواقع، إنه يستحسن له (الفحص) والبحث ودراسة أدلة الطرف الآخر، فإن وصل مرة أخرى إلى نفس (ظنونه وقناعاته السابقة) فإنه معذور، ولا حاجة لفحصٍ وراء آخر، بل لعله قبيح مستهجن، إذ يلزم منه اختلال نظام الحياة، بل وتوقف مسيرة العلم والتقدم؛ لانشغال كل عالم (بتفحص) دائم وأبدي ومستمر لمجموعة من المسائل ـ ولنفرضها عشرة أو مائة ـ والتي لا تترك له مجالاً للتطور والتعلم والاستزادة من بحر المعارف والعلوم، نعم في النادر من المسائل (كالمسائل الخطيرة جداً أو الهامة جداً) قد يستحسن للبعض، من العلماء المتخصصين، لا للكل، إعادة الفحص مرة بعد أخرى... وهكذا... وبالحد الذي لا يجده العقلاء سفهائياً، وكذا لو استجد له ما احتمل معه احتمالاً عقلائياً، تغير اجتهاده لو أعاد البحث والدراسة والتأمل، وذلك ما لعله يدخل في باب آخر، مزاحِم لهذا الباب، وهو (منجزية الاحتمال العقلائي في الشؤون الخطيرة).
9: الحل في منهجية الظنون، لا الإلغاء
من الواجب، تبعاً لذلك، سنّ قوانين، وإتباع منهجيات، واستخدام آليات، للسيطرة على نقاط الضعف في الظن، وللتعامل بالنحو الأفضل مع آثاره السلبية، ولا يصح التعلل بنقاط الضعف، لهدم الأصل، خاصة مع ملاحظة أن القسيم الآخر ـ أي الوهم ـ أشد ضعفاً ووهناً بما يركن معه إليه، إذ يعتبره العقلاء ملغىً غير حجة، فكيف يتخذ (الضعف النسبي) للظنون النوعية، ذريعة لهجرها والإعراض عنها، وللتشبث بـ(الوهم) الأشد وهناً وضعفاً؟!
هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإنه مع تلك القوانين والمنهجيات والآليات، يتحول الضعيف إلى قوي وما هو في ذاته ناقص، إلى ما هو كامل(10)، بما قد حُفّ به، ويتحول ما هو مثل (الظن)، إلى ما هو بمنزلة (العلم)، وذلك بالبناء على تلك (الظنون) وسد ثغورها وترميم نواقصها، لا إهمالها وهجرها.
وبذلك يظهر أنه لا يصح التخلي عن (الظن المعتبر) والانتقال إلى دائرة معرفية، أخرى، تشهياً وعبثاً(11)، لا لوجود حجة أقوى وظن معتبر أقوى في الاتجاه الآخر، بل لمجرد أن (معتقَدي) أو (رأيي) ظني، ومعتقد الغير ورأيه محتمل ـ ولو احتمالاً ضعيفاً مرجوحاً ـ فَلِمَ لا أنتقل إليه؟
ومما يقرب ذلك إلى الذهن من عالم (التكوين) و(الطبيعة): أن (الغضروف) الضعيف بطبعه، لا يصح القول بعدم الحاجة إليه والإستغناء عنه، بل اللازم إحاطته بالحماية الكافية والحراسة الوافية، كما لا يصح رميه في (القمامة)، والاستعاضة عنه، ولو أحياناً تشهياً أو للتنويع، بالأضعف منه! وهل إهمال الظن والتشبث بالوهم إلا مثل ذلك؟
ومثاله من عالم (المجتمع): إن الطفل الضعيف بطبعه، خاصة إذا كان فتاةً، لا يصح عقلاً القول بوأده في القبر، كما كانت تلك حجة العرب القساة الغلاظ، قبل البعثة النبوية الشريفة؛ إذ كانوا يرون في البنت نقطة ضعف كبرى وهي احتمال أن تُؤسر عندما تكبر، وتتحول إلى (أمة) للقبائل الأخرى، فكان الحل هدم الأصل! ووأد البنات في الحفيرة! بل لابد من إحاطته ـ أي الطفل ـ بوسائل القوة وعوامل المِنعة.
ومثاله في مجال (العلم): إهمال رأي (الطبيب) في التعرف على ماهية المرض، وفي وصفه لنوع العلاج، والالتجاء إلى رأي الرمَّال والعرّاف وأي جاهل آخر، بدعوى أن رأي الطبيب (ظن) ولا يصح للطبيب أن (يحتكر الحقيقة)! ولي الحق في الانتقال من سلطان الطبيب وحكومته، إلى حرية الالتزام برأي أي جاهل أو محتال أو رمّال! أو بدعوى: إن رأي الطبيب صحيح يحتمل الخطأ، ورأي العرَّاف خطأ يحتمل الصحة، إذن فلِمَ لا أنتقل إليه؟!
كلا... وألف كلا... أن (الظنون العقلائية) يجب التمسك بها، مادام لا يوجد في مقابلها إلا الأوهام والخرافات..
نعم.. غاية الأمر: إن هذه (الظنون) ينبغي السعي لتقويتها، بضميمة محتفّات ؟؟ تنقلها إلى درجة العلم العادي، إن أمكن، اللهم إلا فيما دل الدليل الخاص، كرواية(12)، أو قام بناء للعقلاء على عدم الحاجة لذلك، أو قام على كونه مضراً، نظراً لتزاحمه مع الأهم، ولتثبيطه عن الاهتمام بسائر شؤون الحياة.
وذلك(13) هو ما يفعله العقلاء؛ إذ يرجعون في المسائل الطبية العادية، إلى رأي أهل خبرة واحدٍ، أما في الشؤون الطبية الخطيرة، فإنهم يستشيرون أكثر من طبيب أو يلجأون إلى تشكيل (شورى الأطباء).
وذلك هو من أدلة استظهارنا أن (الشهرة) حجة في حد ذاتها، سواء كانت روائية(14)، أم فتوائية؛ لبناء العقلاء على الاعتماد عليها ويخرج فقط ما لو زاحمها ظن نوعي أقوى، فهي في ذلك كخبر الواحد؛ ولاستظهار شمول قوله عليه السلام: (خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر) (15) وللشهرة الروائية والفتوائية، إما لعدم تخصيص المورد، للموصول (وهو ما) أو بدعوى إلغاء الخصوصية، فتأمل.
10: هل لأحد أن يحتكر الحقيقة؟
أما (احتكار الحقيقة) الذي رفعوه، فهو شعارٌ خادع؛ إذ قالوا (ليس لأي أحد، أن يدعي احتكار الحقيقة لنفسه...).
إذ نقول: ما المقصود بإحتكار الحقيقة المستهجن؟
1- هل المقصود إتهام علماء الكلام والفقهاء بأنهم قالوا: (إنه لا يحق لأحد البحث عن الحقيقة والتنقيب والفحص، ما دمت أنا قد وصلت لها، بل عليكم تقليدي تقليداً أعمى)، فهذا مما لا يقوله متشرع، بل إن مشهور العلماء يوجبون (الاجتهاد) في أصول الدين ويحرمون التقليد(16) في أصول الدين، وأما في (الفروع) فيرى الفقهاء أن المكلف (مخيّر) بين الاجتهاد والتقليد والاحتياط، فأين هو (الاحتكار للحقيقة)؟!
2- وإن كان المقصود أنني إذا وصلت أو قد وصلت إلى الحقيقة، بالظن المعتبر، فلي أن أركن لها مادمت قد وثقت بها، لكن غيري، لا يستطيع الوصول إليها أبداً(17) وسيبقى أبد الدهر شاكاً وسيبقى تعامله، تعامل الشاك، أما تعاملي فهو تعامل المطمئن، فَلِمَ يسعى لتحصيل الحقيقة؟ فإن هذا مما لا ريب في بطلانه، لكن أي متكلم أو فقيه أو أصولي قال بذلك؟!
3- وإن كان المقصود أنه لا يحق لأحد أن يدعي أن بعض علومه قطعية، بل عليه دائماً وأبداً أن يقول: كل علومي ظنية وكل آراء الآخرين محتملة، فهو بديهي البطلان، وكذب محض؛ إذ كيف نطالب من يرى بعض علومه قطعية، وهو لا يشك فيها أبداً بأن (يكذب) مع نفسه ومع المجتمع أيضاً، فيقول: كل معلوماتي ظنية! وهل يصح أن نجبر شخصاً على أن يعترف بأن معلوماته التالية كلها ظنية، مع قطعه بها؟
وهذه أمثلة:
الحديد يتمدد بالحرارة / الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس/ توقف الشيء على ما يتوقف عليه محال / خمسة مضروبة في خمسة تساوي 25 / المثلث زواياه تساوي قائمتين / تناسب العرض والطلب في الاقتصاد / الضغط يولِّد ـ اقتضاءً ـ الانفجار / فاقد الشيء لا يعطيه / المعلول بلا علة، محال / العدل حسن / ظلم اليتيم بل مطلق الظلم قبيح / الترجّح بلا مرجح، محال/.
11: ظنية معلومة لا تستلزم ظنية أخرى
قد سبق: أن ظنية بعض العلوم والمعارف، لا ريب فيها، إلا أن من الخطأ تماماً القول أنه ما دامت بعض العلوم ظنية، فإن (الفطريات) و(الأوليات) وسائر (البديهيات) أيضاً ظنية! أو ما دامت هذه المعلومة ظنية، فإن تلك المعلومة الأخرى ظنية أيضاً! إن ذلك لهو من أسوأ أنواع التعميم العشوائي؛ فإن (الجزئي لا يكون كاسباً أو مكتسَباً)، والقضايا الجزئية، لا يصح اعتمادها كقاعدة كلية، إلا لو دل الدليل المعتبر على (العلة المشتركة) والملاك والمناط المسلّم به.
بل نقول: لو صح تعميمكم الحكم من جزئي إلى آخر، لصح لنا أن نعكس، فنقول إن وجودي قطعي، ووجودك قطعي، ووجود الخالق تعالى قطعي، فسائر معلوماتنا كلها أيضاً قطعية!
12: ظنية العلوم تقود لضرورة (المرجعية)
إن (ظنية العلوم) ـ في الجملة كما هو الحق، أو مطلقاً كما هو مدعاهم ـ تسوقنا إلى نتيجة أخرى هي آخر ما يتوقعه النسبيون، وهي إننا مادمنا نؤمن بوجود إله قادر حكيم، (أو إذا كانوا هم أيضاً يؤمنون بذلك(18) أو بوجود أية قوة مدبرة حكيمة للعالم)، فإن هذه الحقيقة وهي (ظنية العلوم) تقودنا إلى أنه تعالى لابد ـ بالنظر لعدله وحكمته وقدرته ـ أن يكون قد خلق (مرجعية) قطعية، تكون الملاذ الآمن وشاطئ الآمن، لمن يريد الوصول إلى مرتبة العلم بل إلى مراتب عين اليقين وحق اليقين، وتلك المرجعية ـ على ما قامت عليه البراهين المفصّلة في مظانها ـ هي القرآن الكريم والرسول العظيم وأهل بيته الأطهار، قال تعالى: (تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ)(19) وقال: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(20) وقال: (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)(21) وقد تحدثنا بعض الحديث عن ذلك في موضع آخر من الكتاب.(22)
اضف تعليق