لكي يكون البحث أكثر عمقاً ودقة وثراء، يجب علينا أن نسأل عن المعنى المقصود بالنسبية، وأن نقوم بدراسة المعاني كلها وتحليلها ونقدها.

فإن المعاني المحتملة أو المقصودة، أو النظريات النسبية متعددة، نذكر أهمها، كما سنشير الى عدد من الاعتراضات والنقوض والنقد الوارد على بعضها فقط في هذا الفصل، وقد ذكرنا سابقا اربع معاني محتملة وهي:

1- عدم الإحاطة بكل الحقائق

2- الإصابة في بعض الجوانب

3- الصحة في زمان دون آخر

4- صوابية الآراء المتعاكسة

وفيما يلي المعنى الخامس:

المعنى الخامس من معاني النسبية: أن يراد أنه حيث لا يوجد معيار موضوعي، لتمييز الحق من الباطل، فإنه لا محيص لنا عن القول بأن كل (الأفهام) و(المعارف) على تعاكسها وتناقضها هي (حق) وهي (صواب).(1)

المعيار الموضوعي للتمييز بين الحق والباطل

ويمكن أن تناقش هذه المدرسة من مدارس النظرية النسبية، بالآتي:

أ ـ إنه خلط بين (عالم الثبوت) و(عالم الإثبات)، فهو كقولك: حيث لا (معيار موضوعي) لتمييز العادل من الظالم، أو الطويل من القصير، أو الحلو من الحامض، أو الليل من النهار، أو العلم من الجهل؛ فالكل إذن (عدول) و(علماء)!! وكل شيء إذن (طويل) و(حلو) أو (نهار)!!

وبعبارة أخرى: (الحقُ حقٌ ثبوتاً) و(الحقيقة هي هي، وعلى ما هي عليه، في الواقع ونفس الأمر) وهذا مما لا يتبدل أو يتغير في عالم (الوجود العيني) ولو فرض أننا فقدنا (التمييز) و(معاييره) في عالم (الوجود الذهني).

ب ـ إنه لا يعقل(2) أن لا يوجد معيار موضوعي للتمييز بين الحق والباطل؛ فإن الكون كله قد بُنيَ على وجود حقائق من جهة ووجود معايير موضوعية إلى جوارها من جهة أخرى، فكيف يفتقد خصوص (الحق والباطل) أو الصدق والكذب (المعيار الموضوعي)؟ وهذا ما يشهد به منهج (البرهان الفرضي) و(البرهان الاستنباطي) و(الاستقراء المعلل) حيث يشهد التتبع، بوجود (الموازين لكل شيء) وكلما ازددنا تتبعاً ودقة وعمقاً، ازددنا أدلة وشواهد وازددنا اقتناعاً، ومن ذلك:

(الميزان) للأجرام والأثقال، فإنه هو المقياس الموضوعي، على اختلاف أصنافه: بين ما يوزن به (الذهب) فيحدد لك حتى وزن المثاقيل والغرامات، أو ما توزن به الفواكه والأطعمة، فيعطيك الوزن بالأرطال والكيلوات، أو ما توزن به الأحجار الكبيرة، فتحدد لك الوزن بالأطنان وهكذا... وعلى اختلاف أشكاله من ذي الكفتين والقبان إلى سائر أنواعه.

(الميزان) للمواقيت والارتفاعات والجغرافيا، وذلك كالاسطرلاب، والبروج، والشمس والأرض، بحركتها وظلالها وغير ذلك، والنجوم.

(الميزان) للدوائر والقسي، وذلك كـ(الفرجار) وغيره.

(الميزان) للأعمدة، كـ(الشاقول).

(الميزان) للخطوط، كـ(المسطرة).

(الميزان) للشعر، كـ(العروض).

(الميزان) للفكر، كـ(المنطق).(3)

وهكذا مما لا يعد ويحصى، من الموازين:

فـ(الميزان) لقياس ذبذبات الصوت هو مقياس (ريختر).

ولأمواج النور هو (الفوتون).

وكذا الموازين والمقاييس الموجودة أو التي توضع لتحديد حجم الكتلة، أو درجة الضغط والحرارة، أو مختلف أنواع المادة والطاقة.

ومنها: (موازين يوم القيامة) وƒوَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ‚(4) ومن أظهرها: (السلام عليك يا ميزان الأعمال)(5)، مخاطباً أمير المؤمنين عليه سلام الله وملائكته والمرسلين، فإنه ميزان الأعمال وميزان الكفر والنفاق والإيمان كما صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله.

ج ـ أن (المعيار الموضوعي) موجود ـ وهو الذي عبرنا عنه بـ(المرجعيات المعرفية)(6) وذلك مثل:

1: (الوحي) والأنبياء والرسل والأوصياء.

2: و(العقل) في دائرة المستقلات العقلية وما أكثرها.(7)

3: و(الفطرة) و(الوجدان).

4: وأيضاً (بناء العقلاء بما هم عقلاء)

5: والإلهام، وهو ما نجده في الإنسان احياناً وفي الحيوان كثيراً، كما قال تعالى (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً).(8)

د- كما توجد مجموعة من (المعايير المنهجية) لتمييز الحق من الباطل والصدق من الكذب، ومنها:

(التناول الرياضي) للنتائج التي توصلنا لنا، و(الملاحظة) و(التطبيق) و(التجربة) وغيرها مما هو مذكور في (المنطق) في أبواب (الإستقراء) و(القياس) و(التمثيل) وفي علم (المناهج) تحت عناوين مثل (المنهج الاستنباطي) و(المنهج الاستقرائي) و(المنهج الفرضي) ولواحقها.

هـ ـ أن افتقاد المعيار ـ ثبوتاً أو إثباتاً ـ لا ينتج إلا الشك والجهل، ولا يعقل أن ينتج (الصواب) و(الحق) أو (الإصابة) و(الصحة) لا بقول مطلق ولا بقول نسبي، ولا يعقل أن يكون (الجهل) مقياس الصواب و(معيار) الإصابة، أو طريق الصحة، ولا يمكن أن يكون (العدم) علة (الوجود)، أو مرآة له وكاشفاً عنه، أو طريقاً إليه.

و ـ ثم إنه لو فرض أن القائل بنظرية النسبية بهذا المعنى (أنه لا يوجد معيار موضوعي..) يعاني من افتقاد (المعيار الموضوعي) للتمييز، لكنه لا يصح أن يعمم أحكامه على الآخرين، الذين يجدون أنهم يمتلكون (المعيار الموضوعي).(9)

وبعبارة أخرى:

لهذا القائل أن يتكلم عن نفسه، وليس له أن يحكم على الآخرين خاصة الأنبياء والأوصياء والأولياء... وهل يصح أن يقول من يفتقد (الخبرة) مثلاً، أو (المال) أنه لا يوجد لي وللآخرين طريق لشراء دارٍ أو أرض، أو لا طريق لي وللآخرين لإكتشاف مجاهيل الغابة أو الصحراء! إن له أن يحكم على نفسه، أما الحكم على الآخرين، فلا.(10)

* من الفصل الثالث لـ كتاب (نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة)
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/arabic/author/10

..................................
(1) والصيغة الأكثر تواضعاً لهذه النظرية هي: (حيث لا يوجد معيار... لذا فإننا لا نعرف الحق والباطل من المعارف والعلوم والمعتقدات) وستتكفل الأجوبة: ب، ج، د، و، بتفنيد ذلك، كما توجد أجوبة أخرى في مطاوي الكتاب.
(2) لا بالنظر لحكمة الباري جل وعلا، فقط، حتى يعترض بأن هذا ينفع المؤمنين بوجوده وحكمته، فقط، بل بالنظر للاستقراء المعلل والبرهان الاستنباطي وغيرهما كما في المتن، أيضاً.
(3) استفدنا في الإشارة لهذه الموازين من مقدمة التفسير القيم (الصافي): ج1، ص27، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1429 هـ.
(4) سورة الأنبياء: 47.
(5) بحار الأنوار: ج97 باب زياراته صلوات الله عليه المطلقة التي لا تختص بوقت من الأوقات، ص287 ح1.
(6) وقد تحدثنا عنها في موضع آخر فليلاحظ.
(7) وقد أشرنا للعشرات منها في كتاب: (الأوامر المولوية والإرشادية).
(8) سورة النحل: 68ـ 69.
(9) وإن صدق ذلك التعميم على البعض ممن يدعي أنه يمتلك المعيار الموضوعي، فإنه ليس كل مدّعٍ بصادق.
(10) وقد فصلنا هذه الإجابة في موضعين آخرين من الكتاب، حيث تطرقنا إلى (الرسل والأوصياء والأولياء).

اضف تعليق