الفلسفة لم تكن يومًا مجرد تنظير، حتى الأسئلة التي تبدو للبعض مجرّدة، والأفكار التي يُقال إنها لا تتجاوز حدود العقل، تترك أثرها في الواقع، ولو بطريقة غير مباشرة، فإن الفرد الذي يُفكر، ويُنتج فكرة، هو بالضرورة يُمارس فعل التفلسف، وهذه الممارسة لا تبقى حبيسة الذهن، بل تنعكس على شخصيته، وسلوكياته، وقراراته...
في رحاب الفكر وساحة العقل، نلتقي اليوم مع باحثة شقت طريقها بعزيمةٍ لا تلين، لتُضيء زاويةً جديدةً في سماء الفلسفة العراقية. تبارك علي تركي، الباحثة في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة الكوفة، التي ناقشت رسالة ماجستير حملت عنوانًا طَموحًا: "الفلسفة التطبيقية وتحسين مخرجات التعليم الفلسفي في العراق"، لتكون بذلك أول رسالة في الأقسام الفلسفية بالعراق تتجاوز الإطار النظري إلى الميدان التطبيقي، ساعيةً إلى ربط الفلسفة بواقع المجتمع وتحدياته.
في هذا الحوار، نستكشف مع تبارك رؤيتها للدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه الفلسفة في مواجهة التعصب والعنف، وإعادة تشكيل العقل العراقي عبر التعليم، كما نناقش إشكاليات العزوف عن دراسة الفلسفة، وإمكانية تحويلها من مادةٍ نظريةٍ إلى مهارةٍ حياتيةٍ تُنمّي التفكير النقدي. لن نتوقف عند حدود الجامعة، بل سنتساءل: لماذا لا نُدخل الفلسفة إلى مدارس الأطفال؟ وكيف يمكن للإعلام أن يكون شريكًا في كسر الصورة النمطية عن الفلسفة؟
من قلب هذه الأسئلة، تُطلّ تبارك برؤيةٍ تجمع بين العمق الأكاديمي والهمّ المجتمعي، مؤكدةً أن الفلسفة ليست ترفًا فكريًا، بل أداةً لصناعة السلام عبر بناء وعيٍ قادرٍ على تحرير الذات من قيود الجهل والانغلاق. فكيف يمكن أن نُعيد للفلسفة دورها كـ"فن للحياة" في بلدٍ يعاني من انقسامات الهوية وطوفان الشائعات؟ هذا ما سنكتشفه في حوارنا اليوم.
مرحبًا بكِ تبارك، في بداية هذا اللقاء، نودّ أن نعرف: كيف يمكن للفلسفة أن تساعد في مواجهة التعصُّب الطائفي أو العنف المجتمعي في العراق؟
إن الفلسفة لا تنتج السلام بحد ذاتها، لكنها تنتج الوعي الذي يجعل السلام والتعايش ممكنًا، ويمكن تحقيق ذلك بعدة طرق، في طليعتها العودة أكاديميًا الى المرحلة التعليمية الأولى للإنسان وهي رياض الأطفال والمدرسة الابتدائية، ومن بعدها بقية المراحل، حيث تسهم الفلسفة في دحض التعصب والعنف المجتمعي من خلال إعادة بناء منظومة التفكير، والتركيز على التربية العقلية والنقدية للطفل، وتقديم الأفكار المختلفة بوصفها مادة وفرصة للتفكير والفهم لا للصراع، كما تفتح أفق الذات والعقل على إمكان الوجود الإنساني المشترك، القائم على احترام الكرامة الإنسانية لا الانتماء والرأي الشخصي، كل هذه وأكثر تجعل الفلسفة أداة ثقافية مركزية في مقاومة كل أشكال الإقصاء والتمييز والعنف المادي والرمزي.
كيف نُحوِّل درس الفلسفة من "حفظ آراء الفلاسفة" إلى "تعليم مهارات التفكير النقدي"؟
يمكن تحقيق هذا التحوّل الجوهري من خلال إيمان المؤسسة الأكاديمية بضرورة ترسيخ الحرية الفكرية والاستقلالية العقلية لدى الطلبة، بل وإعادة صياغة الغاية من تعليمها، لا بوصفها موروثًا مُجردًا يُتلقى على نحوٍ أعمى، بل بوصفها مجالًا حيًّا لتوليد الأفكار ونقدها، ولا يعني ذلك تهميش أفكار الفلاسفة أو إقصاء مناهجهم، بل من الواجب أن تُقدَّم أفكارهم بوصفها مادةً للتفكير لا نماذج جاهزة للاعتناق وغير قابلة للنقد، وأن يُفسح المجال للطلبة كي ينتجوا أفكارهم الخاصة، لا أن يُعيدوا فقط ترديد أفكار السابقين ، فمن الواجب أن تكون الغاية الأسمى للتدريس ليس الحفظ، بل الممارسة والتطبيق، ويأتي هذا من خلال تبنّي منهج تعليمي نقدي يُعنى بتدريس الطلبة آليات التفكير السليم، والتمييز بين الرأي والحجة، وتحليلها، وكشف التناقضات والمغالطات، ليغدو الطالب قادرًا على بناء موقف شخصي منهجي متماسك وعقلاني، وبناء عقلية لا تخشى مساءلة الأفكار وتمحيصها، كما يسهم خلق بيئة حوارية مباشرة، بين الأستاذ وطلبته، وبين الطلبة أنفسهم، وتنظيم مناظرات فلسفية بينهم، أن يُنمّي ملكة التعبير والدفاع عن الرأي بالحجة، ويخلق مجالًا لتنوع الأفكار واختلافها، وتعزيز ثقتهم الفكرية، خاصة أذا تم تدريبهم على دعم مواقفهم بالحجج المنطقية، بل وتدريبهم على المرونة الفكرية في تقبل التوجهات والآراء المختلفة، ويُستحسن ربط الأسئلة الفلسفية باهتماماتهم وتجاربهم الحياتية، لتضييق الفجوة بين الفلسفة والواقع، كما يمكن أن يُعَدُّ المنهج السقراطي التوليدي أحد أنجع السبل لترسيخ الاستقلال الفكري للطلبة، إذ يُحفّز الطالب على اكتشاف المعرفة بنفسه، لا تلقيها من غيره، عندها يتحول الصف ويصبح مختبرًا عقليًا حيًا فاعلًا، وتتحول الفلسفة من التلقين والحفظ الى الممارسة.
ما أسباب عزوف الطلاب عن دراسة الفلسفة في العراق؟ وكيف نغيِّر هذه الصورة؟
إن عزوف الطلبة عن دراسة الفلسفة في العراق لا يعود إلى سببٍ واحد، بل هو نتيجة تراكمات معرفية وثقافية ومؤسساتية متداخلة، لعل أبرزها الصورة النمطية المشوّهة التي أُلصقت بالفلسفة، بوصفها علمًا مجردًا، لا طائل منه ولا فائدة عملية تُرجى منه، وهي صورة رُسِّخت طويلًا في الثقافة العامة، بفعل النظرة البراغماتية السائدة التي تربط التعليم فقط بالعائد الوظيفي والجدوى الاقتصادية، وأسباب أخرى ممكن أن تُلقى على عاتق النخبة الأكاديمية والمسؤولين المعنيين، في عدم جدية دراسة وتدريس الفلسفة، الى جانب عدم تطوير منهجها، وتوسيع دراستها لمراحل مختلفة في التعليم الجامعي والتعليم ما قبل الجامعي، وهو ما جعلها أقل حضورًا واهتماما مقارنة بالمواد الدراسية الأخرى، مما أثر وبشكل جلي على الانطباع الذي أخذه الطلبة عن الفلسفة، فقصور المناهج الدراسية الفلسفية في المدرسة، سواء من حيث طريقة عرضها وتدريسها أو طبيعة الأسئلة المطروحة ، جعل الفلسفة تبدو مجردة ومنفصلة عن الواقع والتجربة الإنسانية. فضلًا عن السبب الديني الذي شكل جزءً لا يتجزأ عن هذا العزوف، فبما إن اغلبية المجتمع العراقي يتميز بطبيعته المحافظة، فان الخوف من زعزعة القيم والثوابت هو الهاجس الذي يخيف الكثير منهم، ويتم اعتبارها تهديدا لمعتقداتهم الدينية، وهذا الامر مثبت عبر التاريخ فالصدامات ما بين الفلسفة والدين قديم وتاريخي منذ نشأة الفلسفة وللآن وعبر مر العصور، رغم أن تاريخ "الفلسفة الإسلامية" زاخر بفلاسفة كبار مزجوا بين العقل والدين، لكن هذا التوتر لا يزال يُسقِط ظلاله على الوعي الجمعي، فيخشى من الاقتراب من الفلسفة، أو يُصوّرها كأداة للانحراف الفكري، لا أداة لمساءلة العقل وتنويره، ولعلّ تغيير هذه الصورة يبدأ من إعادة تقديم الفلسفة بصورة حيّة وفاعلة، تُظهر اتصالها العميق بالواقع اليومي وأسئلته، ويكون ذلك عبر العمل على زيادة الوعي الجمعي بالفلسفة، وزيادة ثقافة الافراد فيها، من خلال الترويج للفلسفة وباستخدام كافة وسائل الترويج، من ورش ومؤتمرات ونشاطات وكتب إضافة الى الترويج الإعلامي الصوتي والصوري، فضلًا عن توسيع دراسة الفلسفة في المدارس ليشمل المدارس المتوسطة، وحتى الابتدائية، بوضع مناهج مناسبة لكافة الاعمار، والتشديد على أهمية اكسابهم التفكير الحر والنقدي، مما سيؤثر بشكل ايجابي على نسب قبول الطلبة في أقسام الفلسفة، فضلًا عن العمل على وضع خطة شاملة من قبل المسؤولين وأصحاب القرار تقف بدقة على مواطن الضعف في أقسام الفلسفة، وتُسهم في معالجتها، سواء على صعيد المناهج، أو طرائق التدريس، أو كفاءة الكوادر الأكاديمية، بما يضمن استعادة الفلسفة مكانتها المعرفية في الوعي الجمعي والطلابي.
لماذا لا تُدرَّس الفلسفة للأطفال رغم نجاحها عالميًا؟
بداية يجب أن نوضح ماهية تدريس الفلسفة للأطفال، فتدريس الفلسفة هنا ليس القصد منه أدخال النصوص الفلسفية او تاريخ الفلسفة او شخصيات ومدارس وتواريخ فلسفية، بل تمرين الطفل على التفكير، وإدخال بما يعرف بالأدب الفلسفي للطفل، والأدب القصصي، وكذلك تعليمهم الأدوات الفكرية بصورتها البسيطة والتي يستخدمها الفيلسوف للوصول إلى استنتاجات فلسفية، فتعليم التفكير الفلسفي هو عملية تحفيز الأطفال على التساؤل والتفكير بشكل عميق حول مفاهيم معقدة، مثل الزمن أو الحياة، وليس مجرد الإجابة على أسئلة بسيطة،، فالأطفال بطبيعتهم يمتلكون قدرة على التفكير النقدي مثلًا، اذا تم توجيههم بشكل صحيح، وهنا تبرز أهمية "التساؤل" كأداة أساسية في التفكير الفلسفي، حيث يتم تدريب الأطفال على طرح الأسئلة والبحث عن الإجابة، بدلاً من انتظارها جاهزة؛ مما يعزز تفكيرهم النقدي ويشجعهم على استكشاف الأفكار بطريقة جديدة ومبتكرة، بل وحتى إيجاد أجوبة متعددة للسؤال الواحد، وهذا ما يعزز الحوار والاستقصاء المستمر، مما يعطي للطفل ثقة أكبر في نفسه ويجعله قادرًا على طرح الاسئلة العميقة وفتح حوارات مع محيطه، فالفائدة ليست عقلية فقط، بل إيجابية في الجانب الاجتماعي للطفل، من ناحية قدرتهم على التكيف مع الحياة ومتغيراتها الكثيرة، وتقبل الاختلافات بين الافراد، والقدرة على المحاورة وفهم ما يقوله الطرف الاخر، وكذلك تعميق فهمه للعالم من حوله، وهذا يعد استثمار إيجابي للطفل ويعود عليه بفوائد كبيرة وخاصة بالمستقبل، سواء أحب أن يكمل مشواره في تعلم الفلسفة مستقبلًا، أم يكمل في تخصص آخر، فالمهارات التي أكتسبها تعطيه أفضلية بين أقرانه ومهارات يمكن استخدامها في شتى المجالات، ورغم نجاح تجارب تعليم الفلسفة للأطفال في العديد من دول العالم، لا تزال فلسفة الطفل غائبة ومهمّشة في السياقات التعليمية في البيئة العراقية ، ويُعزى ذلك إلى عدة أسباب مترابطة، أبرزها النظرة التقليدية السائدة التي ترى في الفلسفة علمًا معقدًا، لا يناسب قدرات الطفل العقلية، أو أنها حكرٌ على المراحل الجامعية، في حين أن التجارب العالمية كما أسلفنا أثبتت العكس، وأظهرت أن الأطفال قادرون على ممارسة التفكير الفلسفي، بل وتطوير مهارات عقلية رفيعة كالتحليل، والمساءلة، والربط، والتفكير الأخلاقي، إذا ما قُدّمت لهم بأسلوب تربوي مناسب، كما أن غياب التكوين الأكاديمي المتخصص للمعلمين، وعدم إدراج فلسفة الطفل ضمن برامج إعداد المعلمين، يشكّل عائقًا مؤسسيًا يتطلب تظافر الجهود لإدراجه ضمن الخطط التعليمية، كما ويمكن أن يُعزى عدم تدريس الفلسفة للأطفال لسبب ثقافي وديني وهو التخوف من تعريض الطفل لمفاهيم فلسفية يُظن أنها قد تزعزع الإيمان وتشجع على الشك، رغم أن المقصود هو تنمية الحس النقدي للطفل وبناء عقل متسائل، لا عقل متمرد.
كيف يُعزِّز الإعلام (أو وسائل التواصل) الصورة النمطية عن الفلسفة كـ "تخصص غير مفيد"؟
تُسهِم وسائل الإعلام بمختلف وسائطه، التقليدية والرقمية، سواء بقصد أو دون قصد، في تكريس الصورة النمطية التي تُصوّر الفلسفة كتخصص نظري خالص غير عملي وعديم الجدوى، وذلك عبر أنماط متعددة من التمثيل الساخر على سبيل المثال، حيث يُقدَّم الفيلسوف على أنه شخصية غريبة الأطوار، معزولة عن الواقع، تتحدث بلغة معقدة وغير مفهومة، ما يعزّز الفجوة بين الفلسفة والجمهور العام، كما يُروَّج للفلسفة على أنها ميدان لا يُفضي إلى وظائف أو منافع مادية ملموسة، في مجتمع يُقاس فيه النجاح غالبًا بالجدوى الاقتصادية والمردود المالي، وتُسهم بعض البرامج الحوارية أو المحتوى الرقمي في تعميق هذا الانطباع، من خلال تجاهل دور الفلسفة في بناء التفكير النقدي او الصلة بينها وبين الواقع والمشاكل الحياتية، وحصرها في النقاشات التجريدية المعقدة، كما أن قلة المحتوى الفلسفي الجاد والهادف في الإعلام، مقابل وفرة المحتوى الترفيهي السريع، يجعل الفلسفة تبدو وكأنها ترف لا حاجة له، ولا نستطيع من خلالها فهم الذات والعالم، كل هذا يسهم في إعادة تدوير الصور الذهنية سطحية عنها، ويسهم – ولو من غير قصد – في زيادة الفجوة بينها وبين المتلقّي، خصوصًا في البيئات التي تعاني أصلًا من ضعف فلسفي وفكري في بنيتها الثقافية، ومن هنا، تبرز ضرورة مواجهة هذا الانطباع المشوّه، لا بإبقاء الفلسفة في برج عاجي مترفع عن الواقع، بل عبر توظيف هذه المنصات في تقديم الفلسفة بلغة معاصرة، دون الإخلال بعمقها، وبأساليب وطرق تربطها بأسئلة وتجارب الناس الحياتية، مما يجعلها حقلًا معرفيًا قادرًا على استعادة مكانته، لا في الجامعة فقط، بل في الثقافة العامة والوعي الجمعي.
كيف نُبرِّر لأولياء الأمور أهمية دراسة الفلسفة في ظلِّ غياب فرص العمل؟
رغم أن الفلسفة لا تُفضي مباشرة إلى وظائف مباشرة وواضحة كالطب والهندسة، إلا أن قيمتها تتجاوز هذا الإطار البراغماتي ، لأنها تُعنى بتكوين الإنسان لا تأطيره في مهنة ذات جدوى مادية فقط، فحين نُخاطب أولياء الأمور، لا بد أن نُعيد تأطير مفهوم الجدوى والمنفعة ليشمل بناء عقل قادر على التحليل، النقد، التقييم، واتخاذ القرار، وهذه مهارات لا تقتصر فائدتها على سوق العمل فحسب، بل تُعد من ركائز النجاح في مختلف الميادين، الأكاديمية والمهنية و الحياتية، فضلًا عن هذا فلا يمكننا إغفال أن المسؤولية في إعادة الاعتبار للفلسفة لا تقع على كاهل المؤسسة التعليمية وحدها، بل تمتد لتشمل صُنّاع القرار والنخب الأكاديمية والثقافية، الذين يُفترض بهم أن يتبنّوا مشروعًا جادًا في ترسيخ الوعي الفلسفي وتبسيطه للناس دون الوقوع في التبسيط المفرط، بحيث يُقدَّم الخطاب الفلسفي بلغة قريبة من المتلقي، دون أن يُفرَّغ من عمقه ومضمونه النقدي، والى جانب هذا، نرى بأهمية الجانب الإعلامي والدور المحوري الذي يلعبه، بما يمتلكه من أدوات تأثير واسعة، في تشكيل الصورة الذهنية عن الفلسفة، إذ يُعدّ الإعلام نقطة ارتكاز قوية يمكن من خلالها تفكيك الصورة النمطية التي تُصوّر الفلسفة كعلمٍ نخَبوي معقّد، وإعادة تقديمها بوصفها ممارسة عقلية حيوية، وضرورة لحياة فكرية سليمة، وإبراز الفلسفة بوصفها استثمارًا معرفيًا بعيد المدى في بناء الإنسان ووعيه، وبالتالي تطور المجتمعات.
ما الإصلاحات العاجلة التي تحتاجها أقسام الفلسفة في الجامعات العراقية؟
فضلًا عن ضرورة العمل على تحسين الوعي الجمعي للفلسفة، كما أسلفنا بتوضيحها، تواجه أقسام الفلسفة في الجامعات العراقية جملة من التحديات البنيوية التي تتطلّب إصلاحات عاجلة وجذرية، تبدأ أولًا بتحديث الكثير من المناهج الدراسية التي ما تزال تقليدية في بنيتها ومحتواها، وتعتمد على الطرح النظري البحت، دون إيلاء اهتمام كافٍ للفلسفة التطبيقية والمناهج ذات الجانب العملي، كما تبرز الحاجة المُلحّة إلى تطوير طرائق التدريس المُتبعة، من خلال تبنّي أساليب تفاعلية وحوارية تُحفّز الطلبة على المشاركة الفاعلة والتفكير المستقل، بدلًا من الاقتصار على التلقين والحفظ، وضرورة مواكبة العصر بإدخال الأدوات التكنلوجية المُساعِدة، ويُعد رفع وتطوير كفاءة الكوادر الأكاديمية ضرورة لا غنى عنها، ويمكن ذلك عبر برامج تدريب وتأهيل مستمرة تواكب المستجدات المعرفية والبيداغوجية في تعليم الفلسفة، كما يتوجّب توسيع تعليم الفلسفة في المراحل ما قبل الجامعية، بصيَغ تتناسب مع الفئة العمرية، لتكوين أرضية فكرية تُمهّد الطريق لفهم الفلسفة حين دراستها كعلم مستقل، ومن بين أبرز الإصلاحات ، ضرورة تشجيع البحوث الفلسفية الجادة، ودعم المشاريع العلمية ذات الطابع التطبيقي والعملي، بل وتعزيز الربط بين البحث الفلسفي وحاجات المجتمع الفعلية، وأخيرًا، لا بد من إعادة النظر في مخرجات القسم وتحسينها، وربطها بسوق العمل، مما يُوسع آفاق الخريجين ويُعزز القيمة العملية للفلسفة في الحياة المهنية والمجتمعية على حدٍ سواء، ولا شك أن مسؤولية النهوض بأقسام الفلسفة لا تقع على جهة واحدة فحسب، بل هي مسؤولية تكاملية، تشترك فيها المؤسسات الأكاديمية، وأصحاب القرار، والباحثون، ولا يُستثني الطلبة من ذلك.
هل نَحتاج إلى هيئة وطنية تُشرِف على تطوير الفلسفة وربطها بقطاعات الدولة؟
بكل تأكيد، فالحاجة إلى هيئة وطنية تُعنى بشؤون الفلسفة، وتشرف على تطويرها، باتت ضرورة ملحة، إذ يمكن لهذه الهيئة إذا ما وُضِعَت لها صلاحيات واضحة وارتباط فعّال بوزارات التعليم والثقافة والتخطيط، أن تكون قادرة على رسم سياسات تطوير واضحة وطويلة الأمد، حيث تضطلع بمهمّة تطوير المناهج، وتحديث أساليب التدريس، وربط الفلسفة بمختلف قطاعات الدولة، كالتعليم، والإعلام، والثقافة، وغيرها، وذلك بما ينسجم مع المتطلبات الثقافية والمجتمعية، لذا فوجودها يضمن وجود مرجعية فكرية وتنظيمية تُنسق الجهود وتوحد الرؤى، وتسهم في استعادة دور الفلسفة الحقيقي في المجتمع .
إذا كانت الفلسفة تُعلِّمك التشكيك في المُسلَّمات، فكيف تستخدم هذا في مواجهة الشائعات أو الخطاب الطائفي؟
إذا كانت الفلسفة تُعلِّمنا التشكيك في المسلّمات، فهذا لا يعني الرفض او النفي المطلق، بل يعني التوقف والتفكير النقدي قبل التسليم بأي فكرة دون فحصها، أي أن الفلسفة لا تدعو الى الشك من أجل الشك، بل من أجل أن التفكير، لتمييز الحقائق من التضليل، حيث إنها تمنحنا أدوات عقلية، في مقدمتها الشك المنهجي، الذي لا يُقصد به الهدم التام للمُسلمات، بل تمحيصها وتحليلها، فعندما يُدرب العقل على هذا النمط من التفكير، يصبح أقل قابلية للانخداع بالشائعات أو الانجرار خلف الخطاب الطائفي، لأنه لا يسلِّم بأي معلومة دون تحليل مصدرها، وتفكيك بنيتها وخطابها، وفهم دوافعها، فبدلًا من التلقي الانفعالي للمعلومة، يتجه نحو التساؤل، والمقارنة، والتفكير النقدي، وهو ما يعزّز مناعته الفكرية ضد التضليل.
ما القضية الفلسفية الأكثر إلحاحًا لمناقشتها في العراق اليوم؟ (العدالة، الهوية، الحرية).
باعتقادي " الهوية" هي القضية الأكثر الحاحًا للمناقشة في وقتنا الحاضر، ففي ظل التحولات السياسية، والانقسامات المجتمعية، والتحديات الثقافية التي يواجهها العراق، تبدو قضية الهوية هي المفهوم الأكثر أهمية، ويستدعي طرحه مرارًا وتكرارًا، في مجتمع متعدد الطوائف والقوميات والانتماءات، لذا فهي لا تختزل في بعد واحد، فالنقاش الفلسفي حولها لا يعني فقط إثبات من نكون، بل كيف نبني هوية موحدة، دون نفي الآخر وإقصاءه، هوية تسهم بزعزعة التصورات الجامدة عن الذات والآخر، وتقديم فهمًا أكثر عمقًا وتسامحًا مع الانتماء والعيش المشترك.
كيف تُعرِّف الفلسفة لشخص يعتبرها "كلامًا نظريًّا لا فائدة منه"؟
برأيي، ولعل البعض يخالفني في ذلك، الفلسفة لم تكن يومًا مجرد تنظير، حتى الأسئلة التي تبدو للبعض مجرّدة، والأفكار التي يُقال إنها لا تتجاوز حدود العقل، تترك أثرها في الواقع، ولو بطريقة غير مباشرة، فإن الفرد الذي يُفكر، ويُنتج فكرة، هو بالضرورة يُمارس فعل التفلسف، وهذه الممارسة لا تبقى حبيسة الذهن، بل تنعكس على شخصيته، وسلوكياته، وقراراته، وطريقة تعامله مع ذاته ومع العالم من حوله، وهنا بالضبط تخرج الفلسفة من نطاق العقل، الى الواقع، فالفلسفة لا تبني الجسور او تحل الأزمات آنيًا، بل أنها تبني الإنسان المفكر وهذا المفكر هو من يحدث التغيير، وهذا يحيلنا الى نتيجة إن الفلسفة تُحدث أثرًا هادئًا ومتراكمًا في الفرد وفي محيطه، ولو لم يظهر ذلك على الفور، فالخطوات التي تمشي بها الفلسفة لا يمكن رؤيتها بسهولة، لكنها ستتجلى بشكل واضح في النتائج التي تعمل عليها والأفكار التي تدعو لها.
بهذا العمق الفكري والرؤية الواضحة، تُختم جلسة حوارنا مع الباحثة تبارك علي تركي، التي كشفت لنا كيف يمكن للفلسفة أن تكون جسراً بين التنظير والممارسة، وبين الفكر والواقع. لم تكن إجاباتها مجرد تحليلات أكاديمية، بل خطوات عملية تُعيد الاعتبار لدور الفلسفة كأداة لتغيير المجتمع، من خلال التعليم النقدي، ومكافحة التعصب، وبناء عقلية التساؤل بدلاً من الاستسلام للخطابات الجاهزة.
شكراً لكِ تبارك على هذه الرحلة الفكرية، التي تثبت أن الفلسفة ليست حبيسة الكتب، بل يمكنها أن تكون مشروعاً وطنياً لإعادة بناء العقل العراقي.
اضف تعليق