من الحرف إلى الوعي

دلالة (اقرأ) في تأسيس العلاقة بين الله والإنسان

كلمة (اقرأ) لم تكن حدثًا عابرًا في بدايات الوحي، بل هي نداءٌ خالدٌ يتردد صداه في كلّ عصرٍ ومجتمع. إنها دعوةٌ مفتوحةٌ لاستعادة الوعي الإنسانيّ، وإحياء العلاقة المعرفية بين الإنسان وربّه. وفي عالمٍ بات يزدحم بالمعلومات ويفتقر إلى المعنى، تعود (اقرأ) لتذكّر الإنسان بأنّ العقل هو سبيل الإيمان...

المقدمة

حين خيّم الصمت على العالم قرونًا طويلة، وأطبق الظلام على العقول والقلوب، جاءت الكلمة الأولى من السماء لتفتح نافذة الوعي الإنسانيّ من جديد: (اقرأ). لم تكن تلك الكلمة مجرّد افتتاحٍ للوحي، بل كانت نقطةَ تحوّلٍ كبرى في علاقة الإنسان بالله، إذ حملت في باطنها مشروعًا إلهيًّا لإعادة بناء الفكر الإنسانيّ على أسسٍ من التأمل والعقل والمعرفة.

لقد أراد الله تعالى أن تكون (اقرأ) مفتاح الرسالة الخاتمة، لتعلن ميلاد مرحلةٍ معرفيةٍ جديدة، تنتقل فيها البشرية من الحسّ إلى الفكر، ومن التلقّي إلى الوعي، ومن التبعية إلى الاكتشاف. وفي ضوء ذلك، تسعى هذه الدراسة إلى تحليل دلالة كلمة (اقرأ) في تأسيس العلاقة بين الله والإنسان، من خلال قراءةٍ فكريةٍ ووجوديةٍ تنطلق من النص القرآنيّ وتستكشف آفاقه المعرفية والحضارية.

أولًا: الكلمة الأولى وبداية التحول المعرفي

إنّ اختيار الله تعالى لكلمة (اقرأ) لتكون بدء الوحي يحمل دلالاتٍ عميقة على مستوى المنهج والرؤية. فالكلمة الأولى في الخطاب الإلهيّ ليست أمرًا تعبّديًا محدودًا، بل تأسيسٌ لوعيٍ جديدٍ يربط الإنسان بمصدر وجوده عبر المعرفة والعقل.

فالقراءة هنا ليست فعلًا حسيًا مرتبطًا بالبصر، بل هي فعلٌ عقليٌّ وروحيٌّ يتجاوز ظاهر الحروف إلى إدراك المعنى الكونيّ الكامن وراءها. إنها قراءة في الوجود قبل أن تكون قراءة في الكتاب، وبهذا تنتقل العلاقة بين الله والإنسان من علاقة الخضوع إلى علاقة المشاركة في الفهم، حيث يصبح الإنسان شريكًا في معرفة مقاصد الخالق من خلال النظر في آياته الكونية والقرآنية.

ثانيًا: تأسيس لغةٍ جديدةٍ في الوحي الإلهي

لقد مثّلت (اقرأ) بداية عهدٍ جديدٍ في لغة الخطاب الإلهيّ، إذ انتقل الوحي من مخاطبة الحواسّ إلى مخاطبة العقول. فالوحي لم يعد مجرّد رسائل سماوية تتطلب الإيمان الغيبيّ المجرد، بل صار منهجًا معرفيًا متكاملًا يحفّز على البحث، ويوقظ طاقات الإنسان التأملية والعقلية.

ومن هنا فإنّ (اقرأ) هي الركيزة الأولى للعقل القرآنيّ الذي يجمع بين الحسّ والعقل، بين التجربة والتفكّر. وقد بشّرت هذه الكلمة ببزوغ المنهج التجريبيّ في المعرفة، إذ دعت إلى تأمل العلاقة بين الأسباب والمسببات، وإلى النظر في سنن الله في الكون، بما يجعل من البحث العلميّ امتدادًا طبيعيًا للإيمان بالله.

ثالثًا: القراءة بوصفها فعلًا وجوديًا

في الرؤية القرآنية، القراءة ليست مجرّد وسيلةٍ للمعرفة، بل هي فعل وجوديّ يعيد للإنسان معنى كينونته. فالإنسان حين يقرأ، إنما يمارس دوره في الخلق المستمر للمعنى، لأنه يشارك في كشف ما أودع الله في الكون من رموزٍ وأسرار. ومن هنا فإنّ (اقرأ) تمثّل الطور الذي يبلغ فيه الإنسان اكتماله العقليّ والروحيّ، ويصبح مؤهلًا لتحقيق خلافته في الأرض.

فـ(اقرأ) هي الجسر الذي يعبر به الإنسان من الحرف إلى الوعي، ومن المعرفة الجزئية إلى الرؤية الكلية، وهي أيضًا الدعوة التي تربط بين الوحي والوجود، ليصير الكون كلّه كتابًا تُتلى آياته بالعقل والبصيرة لا بالحواسّ وحدها.

رابعًا: التكامل بين (اقرأ) والقرآن

لا يمكن فهم دلالة (اقرأ) بمعزلٍ عن القرآن الذي نزلت في مطلعه. فالكلمة والكتاب يشكّلان وحدةً معرفيةً متكاملة: (اقرأ) هي المنهج، والقرآن هو المحتوى. الأولى توجّه الإنسان إلى البحث والفهم، والثاني يقدّم له النموذج الأعلى للمعرفة المتصلة بالله.

ومن هذا التكامل يتولّد ما يمكن تسميته بـ القراءة القرآنية للعالم، وهي رؤيةٌ تجعل من كلّ ظاهرةٍ في الوجود آيةً دالّةً على الخالق، وتربط بين العلم والإيمان، بين التجريب والتدبّر، بين الواقع والغيب. وهكذا يتحوّل فعل القراءة إلى عبادةٍ عقليةٍ وروحيةٍ تُزكّي الفكر كما تُهذّب الروح.

ومسك الختام نقول:

إنّ كلمة (اقرأ) لم تكن حدثًا عابرًا في بدايات الوحي، بل هي نداءٌ خالدٌ يتردد صداه في كلّ عصرٍ ومجتمع. إنها دعوةٌ مفتوحةٌ لاستعادة الوعي الإنسانيّ، وإحياء العلاقة المعرفية بين الإنسان وربّه. وفي عالمٍ بات يزدحم بالمعلومات ويفتقر إلى المعنى، تعود (اقرأ) لتذكّر الإنسان بأنّ العقل هو سبيل الإيمان، وأنّ الإيمان الحق لا يتحقق إلا بعقلٍ واعٍ يقرأ الوجود كما يقرأ الوحي.

ومن هنا فإنّ استعادة المعنى القرآنيّ لـ(اقرأ) تمثّل شرطًا لنهضةٍ فكريةٍ وروحيةٍ جديدة، يكون فيها الإنسان قارئًا للكون بعيونٍ قرآنية، باحثًا عن الحقيقة في كلّ مظاهر الوجود، محققًا بذلك غاية الخلافة التي خُلق من أجلها. فـ(اقرأ) هي الكلمة التي تختصر رحلة الإنسان من الحرف إلى الوعي، ومن الظاهر إلى الجوهر، ومن المعرفة إلى الإيمان.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

اضف تعليق