التجار ثم الصُنّاع يعانون معاناة مضاعفة من افتقاد الأمن؛ ذلك أنهم مستهدفون من اللصوص الإلكترونيين، ومن العصابات وقطاع الطرق بين المدن، خاصة في الدول النامية والمتخلفة، ومن اللصوص داخل المدن، بل إنهم، وهذه نقطة إضافية مهمة جداً، مستهدفون من قِبَل الكثير من المسؤولين حيث إنهم كثيراً ما يبتزون التجار...
المستفاد من العديد من نصوص الإمام علي (عليه السلام) أنّ من أوليات مسؤوليات الحكومة: رعاية القطاعات الاقتصادية: قطاع الزراعة وأهلها، وقطاع الزراعة هو المعبّر عنه سابقاً بالخراج، وأهله أي الأراضي وغلّتها وأهلها، وقطاع الصناعة وأهلها، وقطاع التجارة وأهلها، وقطاع الخدمات وكذا النقل والمواصلات والسياحة وأهلها، وقطاع المعرفة وأهلها، وذلك كله عبر السياسة المالية والنقدية وغيرهما، كاللوائح التنظيمية التسهيلية وإلغاء الروتين والقيود والبيروقراطية.
يقول (عليه السلام): (ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً؛ الْمُقِيمِ مِنْهُمْ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ، وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ. فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ، وَجُلَّابُهَا مَنِ الْمَبَاعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ، حَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا، وَلَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْهَا. "فَاحفَظ حُرمَتَهُم، وآمِن سُبُلَهُم، وخُذ لَهُم بِحُقوقِهِم"؛ فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ).
وبشكل عام، فإن وجهة النظر الكلية في أهمية الأسواق المتزايدة ودور الحكومة المحدود المتأطر بإطار رعايتها وشبه ذلك تتوافق في خطوطها العريضة مع النظرية التي طرحها الإمام علي (عليه السلام)، قد اعتبر التجار والصناعيين والمزارعين هم المحور في العملية الاقتصادية.
مسؤوليات الحكومة تجاه التجار والصنّاع
وبوجه أكثر تفصيلاً: اضطلع هذا النص العلوي بمهمة التحديد الدقيق لمسؤوليات الحكام والمسؤولين تجاه التجار والصناعيين، فبعد أن صرح (عليه السلام) بأنهم تميزوا بالقيام بالمهمتين التاليتين:
(إِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ)، و: (وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ)، سواءً أقصدوا ذلك أم لم يقصدوه، بل قصدوا المنفعة الشخصية، ويقترب رأي آدم سميث من هذا النص لكن بفارق أن النص لا يرى، كما أوضحناه في موضع آخر، تطابق المصلحة الشخصية مع النوعية بالضرورة إلا أنها حالة غالبية.
وحيث إنهم تحلّوا بالصفتين التاليتين:
(إِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ)، و: (وصُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ).
لذلك، وفي المقابل، وتكريساً لمقتضيات التنمية الاقتصادية والبشرية والمستدامة، وحفاظاً على هذه المكتسبات، يجب على الحاكم أن يضطلع بالمهام الأساسية الأربع الآتية:
الأولى: حفظ حرمتهم
والحرمة تشير فيما تشير إلى الشخصية الاعتبارية للتجار والصناعيين، وتعني المكانة الاجتماعية والسمعة والوجاهة، وبعبارة أخرى: الحرمة الحريم والاحترام، (والحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه)(1)، و(يقال بين القوم حرمة ومحرمة وذلك مشتق من أنه حرام إضاعته وترك حفظه... والحريم الذي حرم مسه فلا يُدنى منه)(2)، فإن التاجر والمستثمر والصانع يتحرك ويستثمر ويتاجر ويستصنع بحرمته بما له من المكانة بين الناس، ولو اُنتهكت حرمتهم لما أمكن لهم أن يواصلوا ممارسة أعمالهم التجارية والصناعية بكفاءةٍ أو مطلقاً، مما ينعكس سلبياً على كل من الإنتاج والإنتاجية، كما ينتج على مستوى الاقتصاد الكلي مزيداً من البطالة والتضخم نتيجة انخفاض العرض الذي ينعكس على المستهلكين بالسلب، وعلى الاقتصاد الوطني بالركود والضعف، وبعبارة أخرى: إنّ حفظ حرمة التجار والمستثمرين والصناعيين يعدّ أساساً من أسس الاستثمار في رأس المال البشري، ثم الاقتصادي عبر توفير المناخ الملائم والآمن والثقة التي تستتبع بمجموعها المزيد من الديناميكية.
ومن هنا فإن من الضروري أن تتعامل اللوائح التنظيمية بصرامة مع نشر الإشاعات الكاذبة والمعلومات المشوّهة أو المغلوطة التي تحط من شأن المستثمرين ذوي النزاهة، أو التي تزهّد الناس في بضائعهم وخدماتهم، وذلك عبر وضع تقنينات رادعة، ثم تحكيم القضاء النزيه.
الثانية: توفير الأمن لسبلهم
بمعنى توفير بيئة آمنة مستقرة أمنياً ـ اقتصادياً، سواءً أكانت تلك السبل بَحريةً أم برّيةً أم كانت أجواء البلاد، و(الأمن) يعدّ من (السلع العامة public goods) التي تقع مسؤولية توفيرها على كاهل الدولة، والسلعة العامة هي: (سلعة توزع منافعها على المجتمع كله، ولا يمكن تقسيمها، سواء أراد أفراد معينون الانتفاع بهذه السلعة أو لم يريدوا. مثال ذلك، إجراء للصحة العامة يستهدف القضاء على مرض الجدري يحمي الجميع، وليس الأشخاص الذين يدفعون مقابل التطعيم. وتختلف عن السلع الخاصة Private goods، مثل الخبز، الذي إذا استهلكه أحد الأشخاص لا يمكن لشخص آخر أن يستهلكه أو ينتفع به)(3)، ولكنّ التجار خاصة (ثم الصُنّاع) يعانون معاناة مضاعفة من افتقاد الأمن؛ ذلك أنهم مستهدفون من اللصوص الإلكترونيين، ومن العصابات وقطاع الطرق بين المدن، خاصة في الدول النامية والمتخلفة، ومن اللصوص داخل المدن، بل إنهم، وهذه نقطة إضافية مهمة جداً، مستهدفون من قِبَل الكثير من المسؤولين حيث إنهم كثيراً ما يبتزون التجار أو المستثمرين والصناعيين مقابل توفير حماية لهم أو تقديم خدمة حكومية قد يكون بالأساس من مسؤوليتهم تقديمها للناس بدون مقابل، كونهم في موقع رسمي قد ائتمنوا عليه، وهم إلى جوار ذلك يأخذون عليه مرتباً شهرياً.
وقوله (عليه السلام): (وآمِن سُبُلَهُم) إن لم يشمل بعض ما سبق لفظاً بإطلاقه(4)، فإنه يشمله ملاكاً بحكمته، فتدبر.
الثالثة: تفقد أمورهم
و(التفقّد) كما سبق لا يقصد به مجرد استطلاع أحوالهم والإحاطة بما يجري عليهم، بل يراد به التفقد على مستوى العقل العملي أيضاً، على صورة أنشطة وبرامج مساعدة وقرارات ولوائح ملائمة، وذلك إن لم يكن مدلول مفردة (التفقد) بنفسها(5) فإنه لازمها العرفي، أو هو المستفاد من قرينة المتعلق ومناسبات الحكم والموضوع، إضافة إلى أنه يلزم من العدم نقض الغرض.
وقوله (عليه السلام): (تَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ) يشمل ضمان تدفق المعلومات الصحيحة إليهم ومنهم، فإنه أمر من أمورهم التي ترتبط بهم بما هم تجار، كما يشمل شؤون الرعاية الصحية التي تترك بصماتها على سلاسة / سلامة العملية التجارية، نظير الرعاية والاهتمام بتوفير الأجواء الصحية الآمنة في المعامل والمصانع ومطلق محلات أعمال الصناعيين، وكذلك معونتهم على الوصول إلى المستهلكين وتوفير عوامل نجاح تجارتهم، بل ومختلف أنواع الاستثمار في الرأسمال البشري الذي يرفد سلاسة سير الأعمال التجارية وتطورها.
وبتعبير أدق: كل ما صدق عليه عرفاً في زمن من الأزمنة أنه أمورهم، وجب على الحاكم تفقده.
الرابعة: الأخذ بحقوقهم
و: (وخُذ لَهُم بِحُقوقِهِم) يشمل ضمان تنفيذ العقود وإلزام الأطراف بالالتزام بها، وتوفير أجواء المنافسة العادلة، وحرية الابتكار والتجديد، وخفض/ تصفير الجمارك على وارداتهم أو صادراتهم، وسهولة الحركة التجارية المحلية والدولية، إضافة إلى توفير ضمان الأمن الشخصي لهم؛ فإن ذلك كله حق من أهم حقوقهم.
وكما يجب الدفاع عن حقوق عامة الناس، وكما يجب الدفاع عن حقوق العمال والمزارعين، كذلك يجب الدفاع عن حقوق التجار والصناعيين، إذ لا يندر أن يَظلِم الحكام والمسؤولون أو المنافسون أو الناس، أرباب الصناعات والحِرَف والتجار، والظلم قبيح محرم من أية جهة صدر ونحو أية جهةٍ اتجه، بل قد يظلم العمال أرباب العمل والمستثمرين.
ومن النماذج الحديثة لذلك: ما تقوم به بعض نقابات العمال من المبالغة في رفع سقوف أجور العمال، فإنه ظلم لأرباب العمل، بل هو ظلم لعامة الناس، إذ أن أرباب العمل يزيدون من سعر السلع والخدمات كلما ضُغِط عليهم لزيادة أجور العمال والموظفين، بل إنه قد يندرج في دائرة الاحتكار للعمل، فكما أن التاجر يجب أن يُمنع من (احتكار السلعة أو الخدمة) مستهدفاً رفع قيمتها، فكذلك نقابات العمال يجب أن تُمنع من احتكار (قوة العمل) و(العمال) مستهدفةً رفع قيمة عملهم عن حدها الطبيعي، (والحد الطبيعي أو القيمة التبادلية لكل من السلع والخدمات، والعمل نوع خدمة، هو الذي صار معترك الآراء والبحث بين علماء الاقتصاد، والذين ذكرنا له عشرين محدداً في الكتاب السابق)، وعلى أي فإن الاحتكار، في كافة الصور، يرفع قيمة السلع والخدمات والعمل بأكثر من قيمتها التبادلية رغم أن قيمتها الاستعمالية لم تتغير ولا تكاليف الإنتاج ولا الخصوصيات المكتنفة الأخرى كالمهارة والندرة لأسباب طبيعية وشبه ذلك، كما يعتقد بذلك(6) عقلاء العالم.
ثم إنه (عليه السلام) علّل: (فَاحفَظ حُرمَتَهُم، وآمِن سُبُلَهُم، وخُذ لَهُم بِحُقوقِهِم) بـ: (فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ)، و(كونهم سلماً وصلحاً) مقوّم من أهم مقوّمات التنمية البشرية والاقتصادية والمستدامة، وذلك لأن البيئة الآمنة والمستقرة شرط أساسي في كافة أنواع التنمية.
ويكمن السبب وراء التزام التجار بـ(السلم والصلح) في أن التجار يعتمدون في نجاح تجارتهم على مدّ شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية، وعلى تجنب الدخول في صدام وصراع مع أي طرف من الأطراف، لأن ذلك قد يربك حركتهم التجارية ويضر بنسبة مبيعاتهم ويبعد طرفاً من العملاء عنهم. وبذلك يكون التجار طرفاً أساسياً فاعلاً في تحقيق السلم المجتمعي والصلح الاجتماعي الضروري في عملية التنمية الاقتصادية والتنمية المستدامة.
وذلك كله يعني أن التجار من حيث هم تجار هم (سلم وصلح) ولا ينفي ذلك، كما سبق، أن يكونوا شيئاً آخر وبنمط آخر إذا خرجوا من جلودهم وتعاطوا بالسياسة مثلاً، فإن التخندقات الحزبية والصراعات والفتن والحروب هي من شؤون السياسة والسياسيين، وعلى ذلك فإنه لا مجال للاعتراض بأننا نجد أن للعديد من المستثمرين والتجار ولرأس المال دوراً في تمويل بعض الانقلابات العسكرية أو تأجيج الفتن والحروب(7)، وذلك لأنه إنما يكونون كذلك (وقوداً للحروب والفتن والانقلابات) إذا انشغلوا بفنّ غير فنّهم، وهو السياسة، فخرجوا عن جلدهم وعن واقعهم ودورهم الأساس.
وعلى أيّ، فـ (إِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ) ماداموا تجاراً وبقوا تجاراً ولم يمتهنوا حرفة أخرى أو عملاً آخر، وما داموا لم يبيعوا أنفسهم للشيطان ويخوضوا في مستنقعات الاقتصاد الأسود واقتصاد الجريمة(8).
وبعبارة أخرى: ذلك هو الأصل الأولي في عامتهم.
اضف تعليق