هذه الكثافة غيرت هوية الأرياف ومدّنتها الى حد كبير، فلم يعد المزارع يذهب الى حقله صباحا، ولم نشاهد المنتجات الزراعية تغزو الأسواق المحلية، وتربعت السلعة المستوردة على عرش المبيعات رغم قلة جودتها مقارنة بالمنتج المحلي الذي يتميز بطعمه الخاص وقيمته المنخفضة نسبيا...
لم تفارق ذهني كلمات صديقي الذي زارني الى المنزل السابق في منطقة ريفية، قال لي، "لم أنم مثل نومي هذه الليلة منذ سنوات، ما هذا الهدوء الذي يخيم على المنطقة وخصوصا في ساعات متأخرة"؟
لم استغرب من كلامه لان الريف فعلا هو عالم قائم بذاته له ادواته الخاصة للعيش، ولم يفرّط بواحدة منها طيلة سنوات، تجد الجمال الى جانب متعة النظر، أينما تصوب عينيك، تلاحظ لوحة فنية متناسقة من الجمال، تنم عن ابداع الخالق والمصور.
هذه اللوحة الجميلة ذهبت نظارتها رويدا رويدا بسبب تدخل الانسان الذي اخفى جزء كبير من جملها، فتراكمت العوامل، واجتمعت لتستبيح حرمات هذا الصرح العظيم المتكامل الأجزاء والمتناسق، فلم يعد الهدوء يتسيد الموقف، ولا توقظنا من النوم زقزقة العصافير، تزاحمت البيوت حتى تكاد تكون مرصوفة كما في الاحياء الحضرية المخصصة من قبل الجهات المعنية.
هذه الكثافة غيرت هوية الأرياف ومدّنتها الى حد كبير، فلم يعد المزارع يذهب الى حقله صباحا، ولم نشاهد المنتجات الزراعية تغزو الأسواق المحلية، وتربعت السلعة المستوردة على عرش المبيعات رغم قلة جودتها مقارنة بالمنتج المحلي الذي يتميز بطعمه الخاص وقيمته المنخفضة نسبيا.
عملية سلخ الهوية الريفية في العراق لها آثار وتبعات كثيرة، وهنالك جهات تعمل على عدم تقدم الريف والنهوض بمفاصله المتعددة، وإعاقة أي مبادرة لتطوير القرى مع المحافظة على روحها الاصيلة من الاندثار، فهذه المبادرات تهدف لتحسين الواقع المعيشي في حال تم استثمارها بالشكل الأمثل، مع توظيف الموارد المتاحة لخدمة الافراد الذين يتخذون من الريف مستقرا لهم، وتتجاوز نسبتهم الثلث من مجموع السكان الكلي.
ولا تزال من المشكلات التي تواجه الأرياف في العراق هي ارتباطها بمراكز المدن من الناحية الإدارية، وينظر لها على انها جزء لا يمكن تجزئته من المنظومة الإدارية، بينما هي كيان قائم بذاته له محدداته وعوامل بناءه المختلفة عن المدينة بصورة كبيرة، فمتطلبات الريف تختلف الى حد ما عما يشترط توفره في المدينة من متطلبات استمرار الحياة السعيدة، وهنا أصبحت من الإشكاليات المعقدة التي تواجه الريف وتمنعه من التطور.
فالمدينة تتطلب قيام الحكومة بتوفير بنى تحتية بنسبة كبيرة مقارنة بما يحتاجه الريف، نظرا لاختلاف الكثافة السكانية، فالمنطقة التي تحتاج الى مستوصف صحي في الريف، ربما تحتاج الى ثلاثة بمثيلتها في المدينة، وكذلك الامر بالنسبة لأعداد المدارس والخدمات الأخرى، وهو ما يشكل ضغط على الحكومات المحلية ويمنعها من تقديم الأفضل.
لا ننكر قيام الحكومة العراقية إطلاق بعض المبادرات للمحافظة على الهوية الريفية، فقامت بمنح المزارعين سلف مالية لإنشاء مشروعات في المجالين الزراعي والحيواني، لكن الفخ الذي وقعت فيه هو عدم مراقبة الأموال الممنوحة وذهابها الى مشروعات أخرى، كبناء المنازل، وشراء السيارات الفارهة.
وبذلك تكون الخطط الموضوعة من قبل الحكومة ذاهبة كهواء في شبك، بل خسرّتها أموالا طائلة، ولم تقدم منفعة لهذا الجزء الكبير من التقسيم الإداري والاجتماعي، لا سيما وان الريف العراقي عانى كثيرا من المشاكل، في الوقت الذي تعتبر القرية هي العمود الفقري والمزود للكثير من الاحتياجات الحياتية الضرورية.
كما تناسى أصحاب القرار نسبة النمو المتزايدة في سكان الريف وما تحتاجه من دراسات وخطط تحقق التنمية المستدامة، ولم يتم ذلك ما لم تكون هنالك رؤية مستقبلية لما بعد أكثر من خمسين عام مع تخمين عدد الزيادة المتوقعة خلال السنوات القادمة، مع توفير حيز معيشي لهم يناسب هذه الزيادة الحاصلة بعدد النسمات.
رغم ارتباطها إداريا في المدينة، الا ان ضعف شبكة النقل وانعدام المواصلات العامة في الريف، ساهم بتعزيز العزلة بين المركز والاطراف، فوجود تلك الشبكة ضروري ولا يمكن الاستغناء عنه بأي عملية تطور وبناء، وبالتأكيد لا يمكن ان نغفل بقية البنى التحتية التي هي بمثابة الشرايين التي تمنح المنطقة حياتها وحيويتها.
ولو نقبنا بمساحة أوسع من ذلك لوجدنا أسباب عديدة يمكن الإشارة اليها كان سببا بتراجع الريف، ومن هذه الأسباب هو ترسيخ مبدأ الفوارق الطبقية بين ساكنيه والمدينة، والنظرة الدونية التي ينظر بها المجتمع المدني للفرد الريفي، وهذا ما عملت الحكومات السابقة على تحقيقه بأساليب تميزية عنصرية بين أبناء المجتمع الواحد الذي يتشابه في كثير من خصائله وفي بعض الأحيان تتلاشي ولا تستحق الذكر.
وفي الفترات الأخيرة اتضحت مسألة غاية في الأهمية وهي قلة أدوات العيش الكريم في المناطق الريفية، نتيجة لبعض الظروف، ما حتم على جزء كبير من الافراد الذهاب بحثا عن لقمة العيش في المدن، وبذلك يكون الريف قد خسر قدرا كبيرا من طاقته البشرية والتي من الصحيح توظيفها في النهوض بعناصر هذا المجتمع وتحقيق رفاهيته بجوانب متعددة.
فهذه الأساليب في التعامل غير السليم حولت المناطق الريفية العراقية الى مستودعات بشرية ترتع في الفقر والجهل لغرض تجنيدها عند الحاجة، ومن الصعب تجاوز هذا الوضع بسهولة ومدد قصيرة، فهو يحتاج الى برامج سياسية وأداريه وثقافية واسعة، لطرد الثقافات السابقة واحلالها بأخرى تنم عن واقع بروح حضرية ومسحة عصرية.
اضف تعليق