تتصف البلدان التي تمتلك الثروات الطبيعية بأنها بلدان غنية، ويُفترض بها إن تستثمر تلك الثروات بما ينمي الإنسان وتطوير مهاراته ورفع رفاهيته، ولكن الكثير منها أخفق في هذا الجانب ومنها العراق. العراق أحد تلك البلدان الغنية بتلك الثروات كونه يحتل المرتبة الخامسة عالمياً في الاحتياطي...
تتصف البلدان التي تمتلك الثروات الطبيعية بأنها بلدان غنية، ويُفترض بها إن تستثمر تلك الثروات بما ينمي الإنسان وتطوير مهاراته ورفع رفاهيته، ولكن الكثير منها أخفق في هذا الجانب ومنها العراق.
العراق أحد تلك البلدان الغنية بتلك الثروات كونه يحتل المرتبة الخامسة عالمياً في الاحتياطي النفطي والذي يقدر بـ(147م/ب) بعد كل من فنزويلا (303 م/ب) والسعودية(266م/ب) وكندا(167 م/ب) وإيران(156م/ب) في عام 2019، علماً إنه كان يحتل المرتبة الثالثة والثانية عالمياً لكنه أخذ يتراجع بفعل إيقاف عملياته الاستكشافات النفطية واستمرار الدول فيها.
العوامل الأخرى
هناك علاقة وثيقة بين الثروة النفطية والتنمية البشرية، تكون هذه العلاقة ايجابية تارةً وسلبية تارةً أخرى، وذلك بالاعتماد على العديد من العوامل الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والسياسة وغيرها.
فعندما يكون تاريخ الدولة تاريخا اسودا مليء بالألم والمعاناة سينعكس حتماً بنسبةٍ ما على ثقافة المجتمع بشكل سلبي، بالإضافة إلى اعتماد نظام الدولة في الاقتصاد، والشمولية في الحكم، هذه العوامل، الأخرى، مجتمعةً تؤدي إلى سوء العلاقة بين الثروة النفطية والتنمية البشرية والعكس صحيح.
سوء العلاقة بينهما في العراق
تفترض ضخامة ثروة العراق النفطية وسبق اكتشافها عند مقارنتها ببعض الدول النفطية كالسعودية والنرويج، أن تكون التنمية البشرية في أعلى مراتبها لكن الواقع يشير لعكس تلك الفرضية، فعلى الرغم من التحسن النسبي في التنمية البشرية إلا إنها لاتزال متواضعة مقارنة بالثروة التي يمتلكها ومقارنة ببعض الدول النفطية[i].
ففي الوقت الذي يحتل العراق المرتبة الخامسة عالمياً من حيث الاحتياطي النفطي يحتل المرتبة 120 من أصل 189 دولة في التنمية البشرية عام 2018[ii] وبهذه المرتبة فهو لم يتجاوز تصنيف التنمية البشرية المتوسطة، وهذا ما يدلل على سوء العلاقة بين الثروة النفطية والتنمية البشرية!
المقارنة السعودية والنرويج، العراق
وعند المقارنة بالدول النفطية، نلاحظ إن السعودية تخطت تصنيف التنمية البشرية المتوسطة ومتخطيةً تصنيف التنمية البشرية المرتفعة للدخول في تصنيف التنمية البشرية المرتفعة جداً محتلةً المرتبة 36 من أصل 189 دولة، وبالفعل إنها تمتلك احتياطي نفطي هائل جعلها تحتل المرتبة الثانية عالمياً كما مذكور أعلاه، ولكن المفارقة إنها اكتشفت النفط بعد العراق بعقد من الزمن تقريباً!
والحال أفضل بالنسبة للنرويج، فعلى الرغم من صغر احتياطياتها النفطية التي لا تتعدى 7 مليار برميل، عند مقارنتها باحتياطيات السعودية والعراق آنفة الذكر، ولم تكتشفها إلا في بداية عقد السبعينيات من القرن المنصرم، إلا إنها اعتادت على احتلال المرتبة الأولى في تقارير التنمية البشرية، بمعنى إن هناك علاقة إيجابية جيدة بين الثروة النفطية والتنمية البشرية.
العراق سبق السعودية بعقد من الزمن، والنرويج بأكثر من أربعة عقود من الزمن في اكتشاف النفط، لان هذا الأخير تم اكتشافه عام 1927 في العراق وعام 1937 في السعودية وعام 1970 في النرويج، هذا من جانب سبق الاكتشاف. ومن جانب أضعاف الاحتياطي النفطي فإن احتياطي السعودية لا يتجاوز ضعفيّ الاحتياطي العراقي في حين يتجاوز هذا الأخير الاحتياطي النرويجي 21 ضعفاً.
ومع أفضلية العراق في الجانبين، فإن كلا الدولتين أفضل حالاً من العراق وبفارق كبير في التنمية البشرية وكما مذكور آنفاً، حيث تحتل السعودية المرتبة 36 والنرويج المرتبة الأولى في حين يحتل العراق المرتبة 120 من أصل 189 دولة عام 2018!
المقارنة على مستوى الصحة والتعليم والاقتصاد
إن هذه المفارقة العجيبة تشير لمدى اهتمام هاتين الدولتين بالتنمية البشرية، وذلك من خلال الاهتمام بثلاثة جوانب رئيسية هي الجانب الصحي والجانب التعليمي والجانب الاقتصادي، في حين لا يعطي العراق الأولوية للتنمية البشرية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الآتي:
فعلى مستوى الجانب الأول، الصحي، نلاحظ إن السعودية تنفق ما نسبته 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وتنفق النرويج ما نسبته 8.3% من الناتج المحلي الإجمالي، أما إنفاق العراق فهو أقل نسبة وهي 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2014، حسب تقرير التنمية البشرية لعام 2016.
وعلى مستوى الجانب الثاني، التعليم، فقد شكلت نسبة إنفاق السعودية على التعليم ما نسبته 5.1% كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي عام 2008، والنرويج 8.0% كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2016 حسب بيانات البنك الدولي، ولم تشكل تلك النسبة سوى 1.6% كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في العراق عام 2018[iii].
وعلى مستوى الجانب الثالث، الاقتصادي، فقد كان متوسط نصيب الفرد السعودي 50,284 دولار، ومتوسط نصيب الفرد النرويجي هو 64,451 دولار ولم يتجاوز متوسط نصيب الفرد العراقي 14,018 دولار عام 2014 [iv]، مع فارق العدالة.
هذه النتائج تعني إن كل من الدولتين تعملان على تطوير رأس المال البشري لعدة اعتبارات أهمها إن الثروة الحقيقية هي الإنسان ولابد من تطويره ورفع رفاهيته، وإن الاهتمام ببناء الإنسان سيؤدي إلى تعويض ما يفقده البلد من النفط، ولهذا كانت العلاقة طردية وإيجابية بين النفط والبشر في هاتين الدولتين، في حين لم تكُن كذلك بالنسبة للعراق وذلك لأسباب تتعلق بالعوامل التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية آنفة الذكر.
اعتبارات وجوانب
وعليه، لابُد أن تعمل الدولة في العراق على جعل العلاقة بين الثروة النفطية والتنمية البشرية علاقة إيجابية وذلك لعدّة اعتبارات ومن خلال ثلاثة جوانب.
فمن حيث الاعتبارات:
هناك اعتبارات إنسانية بمعنى إن الإنسان هدف التنمية ووسيلتها، وإن الإنسان هو الثروة الحقيقية في الحياة، ولابد من توظيف كل الموارد من أجل رفاهية الإنسان.
واعتبارات أخلاقية، بما إن النفط ثروة عامة، إذن لابُد من توزيع ثماره بشكل عادل بين الأجيال والأفراد، ولا تقتصر على جيل دون آخر ولا فرد دون آخر.
واعتبارات اقتصادية، إن النفط ثروة ناضبة وغير مستقرة في أسعارها لابد من استثمارها أفضل استثمار لتلافي مخاطر النضوب والتذبذب وإضافة صفة الاستقرار والاستدامة للاقتصاد.
أما الجوانب الثلاثة فهي:
الجانب الصحي، أي لابد من توظيف جزء من الثروة النفطية في الجانب الصحي، خصوصاً إذا ما علمنا إن الأمراض أخذت تتفشى في المجتمع العراقي ويسافر الكثير من أجل تلقي العلاج في الخارج، فالاهتمام بالجانب الصحي سيخلق مجتمع معافى من الأمراض ولديه القوة الفكرية والبدنية التي تسهم في إدامة الحيوية والنشاط.
الجانب التعليمي، أي لابُد من الاهتمام بالجانب التعليمي لان العلم أصبح في الوقت القوة الرئيسية في العالم والعراق يعاني من نقص حاد في التعليم كماً ونوعاً، فالاهتمام بالجانب العلمي يسهم في تطوير كل المجالات والتي بدورها تنعكس بشكل إيجابي على التنمية البشرية.
الجانب الاقتصادي، أي لابُد من العمل على تهيئة البيئة الاستثمارية التي تشجع القطاع الخاص من أفراد وشركات على الدخول لعالم الأعمال، لأنه معروف إن العراق يعاني من سوء البيئة الاستثمارية كما توضحه المؤشرات الدولية ذات العلاقة، فتهيئة البيئة سيؤدي لارتفاع نصيب الأفراد من الناتج المحلي الإجمالي.
خلاصة القول، إن استثمار الثروة النفطية في الجوانب آنفة الذكر، يعني إيجاد العلاقة الإيجابية بين الثروة النفطية والتنمية البشرية وبشكل كبير على اعتبار إن العراق يقع في صدارة الدولة ذات الثروة النفطية الكبيرة.
اضف تعليق