الانفتاح على التجارة العالمية يمثل احسن طريق او الطريق الوحيد للخروج من الفقر في الدول الفقيرة. هذه المعزوفة تكرر الادّعاء حول القدرة المدهشة لعولمة التجارة في تقليل المستويات اللااخلاقية للفقر في العالم وهي الفكرة التي نالت الدعم من جانب القوى المسيطرة على الاقتصاد العالمي...
تشير الدراسات الى ان ما يُقال عن وجود ارتباط بين تحرير التجارة وازدهار الشعوب ليس الاّ وهماً، التجارة لم تؤد اوتوماتيكيا الى التنمية، وانما هي شيء عرضي وثانوي لها. تلك الدراسات تشير ايضا الى ان معظم الدول المتحررة اقتصاديا شهدت نموا أقل من الدول التي حررت اسواقها جزئيا، مع تأكيدها بنفس الوقت على اهمية التجارة للدول النامية لتصبح دول مصنّعة ومتكاملة مع المجموعة الدولية، انها دعت المنظمات الدولية لتخفيف الجشع الرأسمالي وفق اخلاقية مشتركة.
لننظر في الأسئلة التالية:
1- كم عدد الناس في العالم يعانون من نقص التغذية المزمن؟
2- بأي مقياس تتقرر الرفاهية الانسانية؟
3- ما هي الوسائل التي تحاول بها الدول النامية جذب الشركات المتعددة الجنسية؟
ان حل السوق الحر للفقر العالمي قد فشل، لذا يجب ان يُسمح للدول بتقرير مصيرها في سياستها الاقتصادية.
ان الاعتقاد الحالي بين اكثر الاقتصاديات هو ان "الانفتاح" على التجارة العالمية يمثل احسن طريق او الطريق الوحيد للخروج من الفقر في الدول الفقيرة. هذه المعزوفة تكرر الادّعاء حول القدرة المدهشة لعولمة التجارة في تقليل المستويات اللااخلاقية للفقر في العالم وهي الفكرة التي نالت الدعم من جانب القوى المسيطرة على الاقتصاد العالمي – وهي مؤسسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وحكومات الدول الغنية في شمال امريكا واوربا. لكن الـ 25 سنة الماضية شهدت مستويات غير مسبوقة من التحرر الاقتصادي السريع في كل القارات، وفي نهاية هذه الفترة لايزال نصف العالم يعيش بأقل من دولارين باليوم وهناك 800 مليون شخص لايزالون يعانون من نقص التغذية المزمن.
شهدت اعوام الثمانينات بداية تآكل سلطة الدول في امريكا اللاتينية وافريقيا في ظل "برامج التسويات الهيكلية "لصندوق النقد الدولي(1)، تلك الفترة تُعتبر الآن من جانب وكالات التنمية "عقد ضائع" بالنسبة لخفض الفقر مع بطء التنمية في اكثر مناطق العالم مع سقوط العديد من الدول مرة اخرى في فخ الفقر. اما سنوات التسعينات لم تكن أفضل. وفي دراسة قام بها مركز امريكي للبحوث في الاقتصاد والسياسة وجدت ان معايير الرفاهية الانسانية مثل وفيات اليافعين، سنوات الحياة المتوقعة، وحتى النمو الاقتصادي كانت في الثمانينات والتسعينات ابطأ من العقود السابقة، وفي الدول التي تبنّت السياسات الليبرالية الجديدة مثل امريكا اللاتينية وافريقيا كانت فيها نسبة النمو صفر تقريبا وسالبة في دول اخرى. وبكلمة اخرى، ادّى عصر العولمة الى تقدم اجتماعي بطيء حتى وفق مؤشراتها الضيقة. وعلى عكس ما يدّعيه البنك الدولي وانصار عولمة الاسواق من نجاحات، فان ارتفاع المد رفع القوارب الرئيسية بينما ترك العديد من القوارب الاخرى تغطس عميقا.
اسطورة حرية التجارة
يجب الاشارة الى اننا لم نقل بعدم وجود نمو في ظل العولمة وانما نقول ان فوائد هذا النمو ذهبت للقلة من الدول.عدم المساواة في معظم الدول ازدادت الى مستويات غير مسبوقة، ومئات الملايين من الفقراء اصبحوا في موقف اكثر سوءا. وصفات إضعاف الدولة وفق النظرية الليبرالية الجديدة دفعت الدول الافريقية الى خفض الانفاق الحكومي في مجال التعليم والرعاية الصحية. وفي الدول التي يحطمها الايدز كانت تلك الارشادات غير اخلاقية.
ورغم فشل النموذج الليبرالي الجديد في خفض الفقر لكنه لايزال الخطاب المهيمن بين القوى التي تطبع النظام الاقتصادي العالمي. المؤيدون للعولمة الليبرالية الجديدة بما فيهم العدد الكبير من خبراء جناح اليمين المسيطر على المشهد السياسي في العقود الماضية لازالوا متمسكين بالاسطورة الكاذبة لفوائد التحرير السريع.
هذه الاسطورة ترسخت بفعل دراسات "الحرية الاقتصادية العالمية" التي تدّعي وجود ترابط قوي بين "عولمة" الدول والاقطار الغنية. هذه الدول الغنية كما يقولون هي الدول التي تتاجر كثيرا ومنفتحة كثيرا على الاقتصاد العالمي. وهكذا، فان الانفتاح عبر تقليص سلطات الدول وتبنّي سياسات السوق الحر سيقود الى النمو والتنمية. المشكلة هنا، هي مشكلة ميثدولوجية مضللة لأن الانفتاح الاقتصادي له معنيان مختلفان جدا. الانفتاح يشير للمحصلة الاقتصادية مثلما لو ان اقتصاد البلد يتألف بشكل كبير من الاستيراد والتصدير، او قد يشير الانفتاح الى سياسات الحكومة التي عادة تستلزم زيادة سريعة في التصدير وازالة القيود عن السوق. الدراسة حول ارتباط سياسات الحكومة في الانفتاح مع الازدهار هي في الحقيقة تبين انه كلما اصبحت الدول اكثر غنى كلما سارت اكثر نحو الانفتاح. التنمية تقود التجارة وليس العكس.
فمثلا في آخر تقرير لمنظمة اوكسفام سمي "القواعد الصارمة والمعايير المزدوجة" يدرس الدول النامية التي تبنّت "الانفتاح"- عُرفت باتباعها المذهب الليبرالي الجديد والتخلص من تنظيم الدولة للاقتصاد. هذه الدول هي التي خصخصت بسرعة شركات الدولة وازالت القيود عن الاسواق المالية وقطعت اعانات الدولة للصناعات الناشئة وكبحت النقابات لكي تخفض الاجور وتجذب الشركات المتعددة الجنسية. عندما جرى اختبار هذه السياسات، طبقا لتقرير اوكسفام، فان رؤية البنك الدولي بدت مناقضة للواقع. لقد تبين ان الدول الاكثر نجاحا هي التي تجاهلت الوصفات الليبرالية الجديدة مستخدمة حماية واسعة وتنظيم للاقتصاد من جانب الدولة. انها تبنّت التجارة لكن بعناية شديدة وتوجيه صارم من الدولة. وعلى الحافة الاخرى، طبقا لتقرير مؤتمر الامم المتحدة حول التجارة والتنمية UNCTAD في 2004، ان الدول المنفتحة كليا في اقتصادياتها مثل هاييتي، هي الدول الاكثر فقرا في العالم.
الفقر وانظمة التجارة
اذا كان لا يمكن للتجارة إخراج الدول النامية من الفقر، فإنها لو استُعملت بشكل صحيح ستكون قوة فعالة للازدهار وخفض الفقر. لكن قواعد التجارة الحالية هي غير عادلة وتعمل على توجيه فوائد التجارة المحتملة بعيدا عن الفقراء باتجاه الاغنياء. التجارة ليست حرة عندما يتم ترتيب جميع القواعد لمصلحة الشركات الغربية. المزارعون الفقراء في افريقيا لا يستطيعون المساومة بحرية حول الاسعار مع عمالقة شركات القهوة بسبب قوة المساومة الهائلة للشركات وحساسية المنتجين.
لكي تعمل التجارة لمصلحة الفقراء فهي يجب ان تكون اكثر من حرة. انها يجب ان تكون ايضا تجارة عادلة مترافقة مع اعادة التوزيع وتنظيم حركة راس المال والغاء الديون والحفاظ على البيئة والتخلص من علاقات القوة الاستغلالية. ان وصفات الليبرالية الجديدة للتنمية بسبب انها تتجاهل كل هذه الاعتبارات، فهي ضحلة وطريقة ذاتية في إعادة توزيع موارد العالم نحو ايدي المتنفذين.
وطبقا لما تقدم فان اصولية السوق الحر ووعودها لم تتحقق في تنمية العالم، حيث يبيّن تقرير مؤتمر الامم المتحدة للتجارة والتنمية في عام 2004 ان الدول الاكثر فقرا في العالم هي تلك الدول الاكثر انفتاحا. يبدو ان جميع النظريات الكبرى من اليسار او اليمين قد فشلت. مثلما كشف تحطيم جدار برلين للعالم عن فشل الشيوعية، فان جموع المحتجين من سياتل حتى كراكاس اغرقوا النغمة التوتاليرية المتكررة بان "لا بديل هناك لرأسمالية السوق الحر".
الرسالة للدول الفقيرة هي انها يجب ان تختار المسار السوسيواقتصادي الملائم لها. لا توجد هاك نظرية واحدة كبيرة تحل مشاكل الفقر في العالم. هناك دائما عدة مسارات وبدائل. الرسالة لحركة العدالة العالمية هي ان الدول الغنية ايضا لديها خيار. تستطيع السماح للعولمة لتستمر في العمل لمصلحة القلة، بدلا من الكثرة. او انها يمكنها الارتباط بالحركات التقدمية في عالم الجنوب وبناء نموذج جديد اخذا في الاعتبار العولمة، كنموذج مرتكز ليس على طمع الشركات الكبرى وانما على مبادئ المساواة والتضامن والعدالة الاجتماعية.
اضف تعليق