لم يرد في القرآن الكريم نعت أسوأ مما ذُكر به المنافقون، فهم القابعون في الدرْك الأسفل من النار، وهم المذبذبون (المترددون) لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وحسب ذلك الوصف اختزالًا لسائر المساوئ التي من شأنها الحطّ من قيمة الإنسان، وقدره أمام نفسه من جهة، وبين مَن حوله من جهات متعددة...
لم يرد في القرآن الكريم نعت أسوأ مما ذُكر به المنافقون، فهم القابعون في الدرْك الأسفل من النار، وهم المذبذبون (المترددون) لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وحسب ذلك الوصف اختزالًا لسائر المساوئ التي من شأنها الحطّ من قيمة الإنسان، وقدره أمام نفسه من جهة ، وبين مَن حوله من جهات متعددة.
إن الفرد المنافق بحدّ ذاته يجعل من الحياة غير قابلة للحياة!
فما بالك بالمجتمع كلّه أو معظمه حين ينتهج نهج هؤلاء المنافقين، ويتّسم بوسومهم الكريهة! لا شكّ في أن بيئة من هذا النوع ستكون وبالًا على كلّ من ينتمي إليها أو يتصل بها بأدنى صلة، وللإنصاف لابد من القول إنّ وجود أفرادًا يزاولون النفاق هو الظاهرة التي لا تستثني أي مجتمع من المجتمعات بصرف النظر عن طبيعة الأشخاص المشكّلين لهذا المجتمع أو ذاك، ومدى تعلّمهم، وثرائهم، ومهنهم، ومواقعهم، ومناصبهم، وسائر امتيازاتهم الأخرى ، وهؤلاء المنافقون موجودون في كلّ بلد من البلدان من دون أي استثناء سواء أكان البلد متحضرًا أو متخلفًا، وهكذا؛ ولكن من الحق أن يقال أيضًا إن النسبة تختلف من مكان إلى آخر، وبطبيعة الحال من فرد إلى آخر؛ لأن المجتمع والبلد...الخ في نهاية المطاف هو حصيلة هذا الفرد الذي يمتلك الحريّة في أن يكون منافقًا أو لا يكون.
إنّ أبرز القسمات التي تعين في رسم صورة شخصية للإنسان المنافق تتعلق بمسلك الازدواجية، والتصرف بطريقتين متضادتين، هذه الخصلة الذميمة التي تتبدى في سلوك المنافقين عادة.
وقد أوضح النبي محمد صلى الله عليه وآله علامات أهل المنافقين بما لا يترك مجالا للغموض والإبهام في التعرّف عليهم بعد وقت يسير من الاختبار والتجربة؛ فقال عليه الصلاة والسلام : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))، الحديث الشريف...
والحقّ أنّ تحليل العلامات المتقدمة تطبع شخصية أهل النفاق بطابعها المميز الفريد؛ أي الكذب والافتراء ، ونقض الوعد، والكلمة، وخيانة الأمانة، والعهد، والميثاق يُفضي بنا إلى تصور وجهين متداخلين أحدهما داخل الآخر لدى شخصية المصابة بداء النفاق؛ فكأن الذي أمامك هما شخصان لا شخص واحد؛ وجه يكذب عليك، ووجه يمثّل عليك دور الصادق، ووجه مراوغ يُقبل عليك تارةً ، ويهرب منك تارةً أخرى، ووجه يحاول تقمّص شخصية الإنسان الوفي الأمين، ثم سرعان ما ينقلب على عقبيه ناكثًا غادرا...
وكثيرة هي القصص التي أوردها التراث العربي والإسلامي وتحمل في طيّاتها أبلغ العبر المحذّرة من النفاق وأهله، وفي هذا السياق يمكن إيراد ما ذكره (المبرّد) في كتابه الثمين ( الكامل في اللغة والتراث، وسأنقل الآن خبرًا عنه بشيء من التصرّف، فأقول: لما نَصَّب معاويةُ ابنه يزيدَ على ولاية عهده ببدعة لم يَسْبقه إليها أحد من المسلمين ممن كان قبله في المُلك والحكم، أقعده في قُبَّةٍ حمراء، فصار الناسُ يُسَلِّمون على معاوية، ثم يُسَلِّمون على يزيد، حتى جاء رجلٌ أعرابي ففعل مثل ما فعل الناس؛ مسلّمًا على الأب معاوية ثم الابن يزيد، لكنّه أي الأعرابي عاد إلى معاوية، ليقول له أمام الملأ :
أي أمير المؤمنين: إنّك لو لم تُوَلِّ ابنك يزيد أمورَ المسلمين لأضعتَها!
وكان الأحنف بن قيس حكيم العرب إذ ذاك جالسا يسمع كلام الأعرابي، لكنّه لم ينبس ببنت شفة...
فقال معاوية موجّها حديثه للأحنف بن قيس : ما لك لا تقول شيئا يا أبا بحر؟
فردّ عليه الأحنف بالقول : أخاف اللهَ عزّ، وجلّ إنْ كذبتُ، وأخافكم إنْ صدقتُ...
فلما خرج الأحنفُ بن قيس لقيه ذلك الرجلُ الأعرابي بالباب، فبادره بالقول: يا أبا بحر؛ إني لأعلم أنَّ هذا وابنه – يعني معاوية ويزيد - فيهما ما فيهما! ولكنّهما استوثقا من الأموال بالأبواب، والأقفال، فلسنا نطمع في إخراج المال منهما إلا بما سمعتَ مما قلتُه آنفًا!
فقال له الأحنفُ: يا هذا؛ أمسِكْ، فإنَّ ذا الوجهينِ خَليقٌ أنْ لا يكون عند الله وجيهًا...
اضف تعليق