يجبرني الازدحام المروري على الوقوف بتقاطعات الشوارع لدقائق معدودة، استمع فيها لشتى القصص الغريبة يدلي بها الأطفال الذين يطلبون مني فتح نافذة العجلة دون تردد وكأني الشخص الوحيد المسؤول عن قضيتهم ويرغبون بإيجاد حلول لها، بعضهم يقول ان لديه أبا على وسادة الموت...
يجبرني الازدحام المروري على الوقوف بتقاطعات الشوارع لدقائق معدودة، استمع فيها لشتى القصص الغريبة يدلي بها الأطفال الذين يطلبون مني فتح نافذة العجلة دون تردد وكأني الشخص الوحيد المسؤول عن قضيتهم ويرغبون بإيجاد حلول لها.
بعضهم يقول ان لديه أبا على وسادة الموت، وآخر يدعي انه اخ لخمسة أطفال وابوهم فارق الحياة منذ سنوات، وثالث يحمل وصفة طبية، مبللة بدموعه المنهمرة على جانبي خده المسوّد إثر تعرضه لحرارة شمس الصيف اللاهب وصقيع الشتاء القارص.
بغض النظر عن مدى صحة الحالات التي ذكرتها لكن هنالك آلاف الأطفال يعانون الحرمان والعوز، اجبرتهم الظروف القاهرة على ترك المنازل والبقاء لساعات طويلة في الشوارع لتوفير ما يسد حاجتهم اليومية من مأكل ومشرب وغيرها من متطلبات الحياة.
وبحسب تقارير أعدتها منظمات حقوق الانسان لعام 2018 قد بلغ عدد أطفال الشوارع في بغداد فقط حوالي 5191 طفل، بلا مأوى بلا تعليم، بلا بيئة أسرية توفر لهم أبسط حق من حقوق الانسان في العيش الحر الكريم، فما بالك ببقية المحافظات.
يعود السبب الرئيسي في ازدياد هذه الظاهرة الى الفقر والتهجير وفقدان المعيل وانعدام فرص العمل، وتشير تقارير المنظمات الانسانية الى أن الكثير من هؤلاء الاطفال تم الاستفادة منهم في العلميات الإرهابية، اذ تقوم العصابات باستغلالهم في العمليات وتوزيع المخدرات، مما يشكل خطرا لا يستهان به في خلق بيئة حاضنة للإرهاب وخلل كبير بالمنظومة المجتمعية.
واعتبر علي الحيدري، استاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد أن "حالات الاعتداء الجنسي والخطف والاتجار بالبشر وأنواع أخرى من سوء معاملة الأطفال هي الأعلى في تاريخ العراق الحديث"، لافتا إلى أن "اهمال الحكومة لدور رعاية الايتام وغياب المراقبة المستمرة للدور الموجودة قد أسهم في تفاقم مشاكل الاطفال".
فيما كشفت الأمم المتحدة في تقريرها الصادر في 19 يناير 2018 أن الفقر والنزاع تسببا في انقطاع العملية التعليمية لثلاثة ملايين طفل في أنحاء العراق.
لا يقع اللوم على الأهالي وحدهم وتعليق الامر على شماعتهم، فلعمالة الأطفال ونزولهم للشوارع أسباب كثيرة، نلخص بعضا منها وهو تقصير الجهات الحكومية في احتواء الشباب وتوفير فرص عمل لهم، مما أدى الى تراكم الملايين منهم دون فرص عمل، وهذا التراكم الكبير والتوسع الفظيع بحجم الافراد العاطلين عن العمل دفع بالأهل الى اجبار ابناءهم على ترك مقاعد الدراسة والذهاب للشارع لبيع المناديل الورقية واكواب الشاي وقناني المياه.
الأبناء الذين فضلوا العمل بهذه الشاكلة ينحدرون في اغلب الأحيان من اسر تعاني الفقر المدقع، وتصنف ضمن الطبقات المعدومة او دون الوسطى، فهؤلاء لا يستطيعوا ادخال ابناءهم المدارس الاهلية التي تتوفر فيها بيئة علمية أفضل الى حد ما من المدارس الحكومية مما افضى الى التهرب من الدوام اليومي والنتيجة واضحة امام الجميع.
يضاف الى ذلك العقد الاجتماعية التي يعاني منها الأبناء وذهب ضحيتها ملايين الأطفال، كما أن ازدياد حالات الطلاق والأرقام الصادمة التي احتلت مركز الصدارة بين الدعاوى الشرعية أمام محاكم الأحوال الشخصية، اذ بلغت نسبة الطلاق بين الزوجين في أحد الاشهر من عام 2017 حسب الإحصائيات الشهرية التي ينشرها مجلس القضاء الأعلى العراقي لحالات الزواج والطلاق في عموم محافظات العراق، إلى 5191 حالة في شهر واحد.
اتحاد الأسباب آنفة الذكر جعل منها تشكل قوة شرسة تهاجم الطفولة العراقية، وأضحت أسيرة الأوضاع العصيبة، فالحكومات المتعاقبة صبت جل اهتمامها على صراعاتها السياسية، بينما اهملت وبشكل واضح الجوانب الاجتماعية والاقتصادية يستثنى من ذلك بعض المبادرات الخجولة التي لا تمثل شيئا مقارنة بحجم الدمار الذي منيت به هذه الشريحة.
ولتقليص مساحة هذه المشاكل وبناء جدار يمنعها من التمدد لابد ان تقوم الجهات المعنية وليس الحكومية فحسب بوضع دراسات مستفيضة للنهوض بالأوضاع المتردية للأطفال وهنا نود التركيز على اهم المعالجات لهذه الظاهرة المؤرقة.
يأتي رقم واحد بقائمة المعالجات هو انشاء قاعدة بيانات موحدة ودقيقة لجميع الأطفال المشردين والايتام مع القيام بتحديثها بشكل مستمر، ومن ثم العمل على استهدافهم بالبرامج التنموية والثقافية التي تسهم بتحسين أوضاعهم.
لا يقل أهمية عن ذلك إعادتهم الى مقاعد الدراسة في المدارس الحكومية وفرض رقابة شديدة عليهم الى جانب أساليب معينة ترغبهم بإكمال مسيرتهم التعليمية وصولا الى المراحل المتوسطة والاعدادية فالجامعية.
مهم جدا ان تشرك بعض من هذه الشريحة بالدورات التطويرية والتي تنمي لديهم روح الابداع لخلق عدد لا يستهان به من أصحاب المهن ورفد الحركة المهنية بما تحتاجه من أصناف متعددة تؤدي أدوار كبيرة في هذا المجال.
لا ضير ان تتنبه الجهات الحكومية الى مكامن التقصير تجاه هذه الشريحة والعمل على تلافيها واحتضان المزيد من الأطفال الذين فقدوا المعيل وصار من الواجب عليهم التجديف ببحر الحياة المتلاطم.
الميزانيات الحكومية لا اعتقد ستصاب بالشلل والعجز عندما توفر قدرا معينا من الأموال تقدم بصورة شهرية او دورية لهذه الاسر، على ان يتم استثمارها بمشاريع اقتصادية مربحة، تصبح فيما بعد مورد مالي دائم غير منقطع، وبالنتيجة تخلصت من وجود اعداد كبيرة بالشوارع معرضة للمخاطر المحتملة، كالانفجارات وعمليات الخطف والاتجار بالبشر وغيرها.
الاهتمام بالطفولة يعني الاهتمام بالبذرة الأساسية للمجتمع، ولا تصلح المجتمعات مادام الخلل بالنواة، فطفل اليوم هو شاب الغد واب في المستقبل، وما يتعرض له من تهميش واقصاء خلال رحلته الحياتية سينعكس على تربيته لا بناءه وتفاصيل حياته الاسرية، وبالنتيجة يكون لنا مجتمع مضطرب غير قادر على مواجهة عواصف الانجراف والمنحدرات الأخلاقية.
اضف تعليق