ان البطالة تؤدي في الغالب إلى نوع من العزلة الاجتماعية للفرد العاطل وهو ما يضعف علاقاته الاجتماعية وتضاءل قدرته على التضامن مع المجتمع الذي يعيش فيه، فيصاب بالاغتراب، ويتخلى عن التزامه بالمعايير والقيم الاجتماعية السائدة، وانهيار هذه القيم والمعايير لديه قد يؤدي إلى اللجوء إلى قيم ومعايير أخرى...
البطالة هي مشكلة اقتصادية اجتماعية مرتبطة بوجود الانسان ونشأته واغلب التوقعات تقول انها دائمة مادام الانسان على وجه المعمورة، وبحسب المختصين في الشأنين الاقتصادي والاجتماعي فأن هذه المشكلة مستمرة بالتفاقم سيما في البلدان النامية والتي مازالت بلدان العالم العربي تصنف من ضمنها.
وتشير الاحصائيات الى ارتفاع نسبها في هذه البلدان اعلى من المناطق الاخرى في العالم، والبطالة عبئ اجتماعي لا يخلو منه حديثاً في أي مكان أو زمان، فهي مشكلة تعاني منها جل المجتمعات المتقدمة والنامية فحتى البلدان الاوربية واميركا وغيرهم من البلدان ذات الاقتصاد الرصين تعاني منها.
يقدم مفكرو الجريمة والانحراف تصورات مختلفة للعلاقة بين متغيري البطالة والجريمة والانحرافات السلوكية، وتعددت التصورات بتعدد مفكريها، فمنها ما هو اقتصادي واجتماعي ونفسي.
من الجانب الاقتصادي توجد علاقة بين السلوك المنحرف كالفقر والبطالة وعمالة الاطفال والنساء والظروف الاقتصادية، والعلاقة بين الوضع الاقتصادي للأفراد ومستوى الجريمة علاقة عكسية فكلما ضعف مستوى البناء الاقتصادي كلما ارتفعت معدلات الجريمة والانحرافات السلوكية.
عادة ما يترتب على البطالة انخفاض الدخل او حتى انعدامه وهو ما يوقع الشخص العاطل واسرته تحت عناء الفقر والحرمان وبالتالي قصوره عن اشباع حاجاته الاساسية التي يحتاجها كانسان ذو كرامة دون الخدش بإنسانيته.
وللفقر دوراً كبيراً في رفع معدلات الانحراف، وخاصة جرائم الأموال والتسول والتشرد والدعارة، فالفقر هو البيئة التي تتهيأ فيها كل الفرص لارتكاب الجريمة، وغالبية ان لم يكن جميع ذوي مرتكبي الجرائم هم من ذوي المستويات الاقتصادية المتدنية.
فهذا التلازم بين الفقر والجريمة ناتج من الحرمان المؤدي بصاحبه الى عجزه في الحصول على مستلزمات الحياة والخدمات الضرورية (الصحية والتعليمية والترويحية) مما يجعلهم محرومين بالوعي يقيهم نار الانحراف فيكونوا لقمة سائغة لتيار الشذوذ والجنوح.
وعلى الرغم من سطوة أثر العامل الاقتصادي على مستوى الجريمة والانحراف الا انه لم يكن العامل الوحيد في هذا المضمار وليس هو العامل الحاسم فحسب فهناك عوامل أخرى نفسية واجتماعية.
لو راجعنا العوامل الاجتماعية الناتجة عن البطالة والتي تتسبب في ارتكاب السلوك الإجرامي لوجدنا أن البطالة تؤدي في الغالب إلى نوع من العزلة الاجتماعية للفرد العاطل وهو ما يضعف علاقاته الاجتماعية وتضاءل قدرته على التضامن مع المجتمع الذي يعيش فيه، فيصاب بالاغتراب، ويتخلى عن التزامه بالمعايير والقيم الاجتماعية السائدة.
وانهيار هذه القيم والمعايير لديه قد يؤدي إلى اللجوء إلى قيم ومعايير أخرى توائم ظروفه الجديدة، ويحصل الفعل الاجرامي حين يتوفر له الموقف المناسب، فحين يجد الشاب نفسه معطلاً رغم رغبته في العمل وقدرته عليه تتحفز لديه رغبة الاختلاط بأشباهه من العاطلين (الناقمين) فينحى منحى التعويض بالانتقام من المجتمع لتعويض حالة الاغتراب والانعزال.
وهذا ما يمسيه (دوركاهيم) بحالة (الأنومي) وهي اتجاه الفرد الى ارتكاب جريمة الانتحار كضرب من ضروب الهروب من مشاكله، كما ان الفراغ الذي تنتجه البطالة يقود الفرد احياناً الى التفكير بالجريمة وربما ممارستها فالفراغ في هذه الحالة يكون نقمة بدلاً من أن يكون نعمة، وينقلب على صاحبه ابتداء وعلى المجتمع انتهاء.
وترتبط الهجرة ارتبطاً وثيقاً بالجرائم على اعتبار ان الكثير من المهاجرين يجيدون العمل او ربما لا يسمح لهم بممارسة العمل لقوانين البلدان الحاضنة لهم لأسباب اقتصادية في الغالب وهذا يعني بقاءهم لفترات طويلة بدون فرص عمل وتحت إلحاح الحاجة قد يلجئون إلى سلوكيات انحرافية للحصول على المال الذي يتيح لهم الحصول على الخدمات.
اما من الناحية النفسية فالعوامل النفسية السيئة التي تصيب الفرد العاطل عن العمل او المعطل قسراً كما هو الحال لمئات الالاف من الخريجين من المعاهد والجامعات، فأن عدم حصولهم على فرصة عمل تزرع فيهم الشعور بالإحباط والفشل والانكسار النفسي وهو ما قد يجل منهم عدائيين في تعاملاتهم مع مجتمعهم.
ويذكر انصار التفسير النفسي للسلوك الاجرامي بزعامة (فرويد وآدلر ويونج) ان تطور الشعور بالإحباط والضياع يؤدي الى تغيرات بيولوجية وعضوية في الفرد تساعده على ممارسة السلوك الإجرامي.
كما ان الشعور بالإحباط الفشل وعدم تقدير الذات قد يوصل الفرد الى إدمان المخدرات والمسكرات، والعديد من الدراسات التي اجريت تؤيد هذا التوجه من كون ان اكثر الجرائم التي يرتكبها العاطلون دوافعها الحصول على مال (كسرقة المساكن والمتاجر والسيارات إضافة إلى الاتجار بالمخدرات وتجارة الأعضاء وغيرها) لتعويض حالات الحرمان والفقر التي يعنيها، فالفقر من اكثر دوافع الجريمة اثراً في حياة الانسان.
العلاجات تنقسم على نفسها فمنها ما هو مسؤولية الانسان في البحث عن مصدر عيش يوفر له حاجياته في كل تفصيلات الحياة لان الفراغ يفقد الانسان الكثير من المزايا والصفات المميزة له وتجعله فرداً سلبياً وغير منتج، ومنها ما هو مسؤولية الجهات الرسمية بتوفير فرص عمل تليق بالنتاجات الفكرية والتحصيلات العلمية التي يحصلون عليها بالقدر الذي يضمن لهم حياة كريمة تليق بهم، فالفراغ الذي لا نقتله يقتلنا.
اضف تعليق