ان تقليص العنف من اهم الركائز التي تستند عليها الحضارة، اذ يمثل ذلك الهدف الرئيسي الذي يجب ان تحققه القوانين المُسنة لتنظيم الحياة الاجتماعية، اذا اردنا ان نضمن حرية الأشخاص وجعلهم يتمتعون بقدر كبير من الراحة، يتوجب على الجميع التخلي عن مبدأ العنف في التعامل...
يولد الانسان ولم يعرف أي بيئة ستكون الحاضن الذي سينشأ به وماهي العوامل والظروف التي تواجهه، فيصبح اسيراً لتلك الأجواء التي تكون شخصيته وتوضح ملامحها فيما يأتي من الأيام.
لاتوجد حياة وردية خالية من الضغوطات بالنسبة للمجتمعات النامية والتي تمر في طور النمو البطيء، وبالنتيجة تنعكس بصورة مباشرة على حياة الافراد بدءً من شريحة الأطفال وصولا الى شريحة الكُهّل التي وقعت ضحية الفترات الظلامية والحقب المأساوية التي مرت بها شعوب تلك البلدان بصورة عامة.
الظروف القاسية التي عاشها أولياء الأمور افرزت أساليب معينة بالتعامل مع الأبناء تتسم بشيء من العنف والشدة في كثير من الأحيان، فصار التعنيف سمة ملازمة لطريقة التربية الاسرية، اذ تكاد لا تخلو اسرة من ممارسة الضغط على أبنائها بدافع الحرص عليه وتوجيهه الوجهة الصحيحة.
بينما هذه الطريقة في التعامل مع الأبناء لا يمكن ان تجدي نفعا ولا تقدم حلولا للمشاكل او الأخطاء التي يقع فيها الأشخاص في مقتبل حياتهم، في الوقت الذي توجد في العديد من البدائل الناجحة والمؤثرة في عملية بناء شخصية الفرد البناء المتكامل دون إغفال جانب من جوانب الحياة العامة.
عندما نريد التحدث عن اللاعنف في التربية، يجب ان ندرك أن تصرفات الطفل هي بمثابة الانعكاس الكلي للبيئة التي يعيش فيها، فلكل اسرة طريقة وأسلوب معين للتعامل مع الأطفال، وهذه الأساليب تختلف بأختلاف تجارب الاهل في الحياة ومستوى الوعي الذي يحملونه، والذي بدوره يؤثر على شكل ردة فعل الطفل، فبقدر ما تكون هذه المعتقدات إيجابية يكون السلوك إيجابي، وبالتالي تكون ردة فعل الطفل إيجابية، وبالعكس.
المجتمعات العربية منذ القدم تثقل كاهل الام بجملة من المسؤوليات، ومن اهم هذه المهام هي تربية الأبناء، بينما من الصحيح ان تكون هذه الوظيفة تشاركية بين الام والأب من اجل تنشئة الأبناء وتوعيتهم على الأمور الصحيحة وايضاح كيفية إدارة الاسرة بشكل جيد.
مهم جدا ان تسبق لحظة اتخاذ القرار بالانجاب من قبل الابوين ان تكون هنالك دراسة وتفحص متأن من اجل توفير الظروف الملائمة لتنشئة الأطفال، فغالبا ما تكون هذه الخطوة غير مسبوقة وغير ذات أهمية بالنسبة للكثير، وتجري الأمور بصورة عشوائية دون تحديد واضح للاهداف والمراد بلوغها من الانجاب.
وعدم توفير البيئة الملائمة يؤدي الى ان الممارسات المتبعة في التعامل مع الطفل لا تخلو من العنف، ذلك نتيجة فقدان المهارات التي تمكن المسؤول عن تربية الطفل من فهمه وطريقة تفكيره، كما تمكنه من معرفة ان الأطفال كما الكبار لهم اعتبار وخصوصية مستقلة.
ويتعرض الأبناء للعنف بمختلف اشكاله سواء الجسدي او النفسي في أماكن مختلفة، فهو لا يقتصر على المنزل، بل يرافقهم الى مقاعد الدراسة، والخلل هنا يعود الى قصور لدى الطواقم التربوية.
فوزارة التربية لا تضع شروط صحيحة لاختيار المدرسين، واكتفت بالشهادة الاكاديمية دون تحديد معايير خاصة لامتلاك المدرس أو المدرسة لمهارات التواصل مع الأطفال في المرحلة العمرية المرتبطة بالروضات والتعليم الأساسي، وينتج عن هذا الخطأ العديد من الافرازات، أهمها عدم شعور الطفل بمكانته الحقيقية، وانه شخص غير محترم في محيطه الاسري.
ولكي يتمكن المعنيين بالطفل من توفير الحماية لأطفالهم، وصونهم آثار العنف، يتوجب معرفة بجميع أصناف العنف، الى جانب الدراية بما يجب عليهم فعله تجاه أطفالهم، فالطفل المعنف يمكن ان نشبهه بالشخص المريض، فكلما اسرعنا بعلاجه، كلما زادت فرص تماثله للشفاء والتخلص من الآثار التي عانى منها كثيرا.
يقول الفيلسوف كارل بوبر ان تقليص العنف من اهم الركائز التي تستند عليها الحضارة، اذ يمثل ذلك الهدف الرئيسي الذي يجب ان تحققه القوانين المُسنة لتنظيم الحياة الاجتماعية.
اذا اردنا ان نضمن حرية الأشخاص وجعلهم يتمتعون بقدر كبير من الراحة، يتوجب على الجميع التخلي عن مبدأ العنف في التعامل، ففي حال لم يتحقق هذا الغرض لا نستطيع ان نجزم التوصل الى هذه الغاية السامية، ويبقى الامل في حدوث ذلك هو تفعيل وتدعيم القوانين التي تحارب ظاهرة العنف وتقليص الممارسات الخاطئة بحق الأشخاص المعنفين.
ويقول بوبر في هذا الخصوص،" ينبغي ألا تؤسس الدولة على القمع بل على حس المواطنة لدى الأفراد والذي من خلاله يتخلون من تلقاء أنفسهم عن العنف، ومن أجل ذلك، ينبغي تطوير ثقافة اللاعنف لدى المواطنين، وينبغي ايضا البدء بتربية الأطفال على اللاعنف".
ان الخلاص الوحيد من اتباع أسلوب التعنيف في التربية هو عن طريق التركيز وعدم إهمال مسالة التربية وترجيح ثقافة اللاعنف بين أبناء المجتمع، بينما اذا حدث العكس من ذلك، فان المجال سيكون مفتوحا امام من يروم اتباع هذه الخطوات المدمرة لشخصية الافراد وبالذات الأطفال في مقتبل العمر.
لا شك في ان الاعمال التي تبتعد عن العنف تشجع على زرع العدل والسلام والحرية بين الافراد، ونبذ الأفكار التي تعتمد العنف من اجل الحياة، وربما يحمل شريحة واسعة هذا التصور القائم على ان العنف هو أساس الوجود والعيش في ظل المناحرات والانحرافات التي تسود المجتمع.
العنف بجميع اشكاله من الاعمال المفروضة وفق القوانين الوضعية والسماوية، لما يتركه في شخصية الافراد من آثار لا يمكن ازالتها بالوقت القصير، فلابد من تظافر الجهود وإعداد العدة للتخلص منه وصولا الى مجتمع قائم على المحبة والتراحم بين أبنائه والعيش بسلام والسعي للتقدم والازدهار الدائمين.
اضف تعليق