من الذي غيّر كل هذا؟ هل هي رغبة عشائرية أم التطورات التقنية هي التي فرضت نفسها؟ الواضح أن اغلب التقاليد اوجدتها ظروف معينة، وما تمسك الناس بها إلا لأن الظروف ما زالت قائمة، والعشيرة لا تملك السلطة المطلقة في بقائها، بل تتأقلم مع التطورات خوفاً على مصالحها، وخشية من أن يجرفها التيار ويسحقها...
انتشرت الكثير من الاجهزة الحديثة بعد الغزو الاميركي للعراق، ومنها الهواتف النقالة، كانت اجهزة غريبة على المجتمع، ومن المثير القول انها كانت مرفوضة لدى فئات اجتماعية فاعلة، ولا سيما في المجتمع العشائري، وكان الاتصال امام الناس والحديث عبر الهاتف يعد نوعاً من الممارسات الاجتماعية المستهجنة، او الغربية المستوردة.
اتذكر حادثة جرت مطلع عام ٢٠٠٤ عندما تعرض احد الشباب الى النقد الشديد من قبل احد وجهاء العشائر لان الشاب كان يتصل عبر هاتفه النقال من انتاج شركة نوكيا، وكان يجلس في تجمع عشائري، وهو يتحدث ويبتسم عبر الهاتف بينما ينظر الجميع اليه بغرابة، انه مجنون يتحدث مع نفسه، قال له الرجل الكبير: الا تخجل من الناس وانت تتحدث وتبتسم وسط الناس؟ اترك هذه الطريقة وعد الى رشدك ولا تتمرد على تقاليد عشيرتك. بدت علامات الغضب على وجه الشاب لكنه لا يستطيع الوقوف بوجه التيار واغلق هاتفه مجبراً حفاظاً على التقاليد والاخلاق العشائرية.
وخلال المدة تلك كان امتلاك النساء في المناطق العشائرية للهواتف النقالة علامة على الاستهتار والتحلل الاخلاقي، اذ لم يكن بمقدور المرأة التفكير بشراء الهاتف، وان طلبت من زوجها أو والدها هذا الامر فقد تتهم بقلة الشرف، وهذا اسوأ ما قد تتعرض له المرأة في مجتمع عشائري مغلق.
بعد سنوات من الحادثة وانتقال العالم من الهاتف التقليدي وموت شركة نوكيا وظهور ابل وسامسونج وهواوي، لم تعد مكالمة الشاب وضحكاته وسط التجمع العشائري عيباً، وبات شيخ العشيرة يتفاخر في المجالس بعدد المكالمات التي يجريها بينما ينتظر الاخرون اكمال حديثه اللاسلكي، يحمل هاتفين من أفضل الماركات العالمية، ويلتقط الصور في الولائم وعند أي اجتماع مع وجهاء العشيرة، فهو إذ كانت ينتقد الشباب قبل سنوات لتصويرهم جلساتهم الخاصة ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بات اليوم يملك صفحة خاصة على الفيس بوك تحمل اسم "إعلام الشيخ فلان الفلاني"، ينشط فيها بشكل يومي يوثق فيها أغلب ممارساته الاجتماعية وآرائه السياسية.
اما بالنسبة للمرأة وعلاقتها بالهاتف، فشيخ العشيرة اليوم يبحث لابنه عن فتاة من ارقى الجامعات، وهو من يشتري هاتف الخطوبة من أجل اجراء المكالمات بحرية مع خطيبها، وهو الذي يحث ابنه على تصوير حفل زفافه ونشره عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إذ لم يعد امتلاك المرأة للهاتف علامة على قلة الشرف، بل علامة على المكانة الاجتماعية والانفتاح وهذا ما يتطلبه الوضع الاجتماعي الجديد، المرأة يجب أن تكون خريجة جامعية وموظفة وتملك سيارة وأفضل هاتف ذكي.
لم يقتصر النشاط عبر مواقع التواصل الاجتماعي على مناسبات الفرح، فقد انتهى وقت التبليغ المباشر عن مناسبات الحزن مثل الوفيات، يكفي النشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتبدأ التعازي الالكترونية، وما عزز من هذه الممارسة الجديدة ما فرضه وباء كورونا والغاء التجمعات ولا سيما المناسبات الاجتماعية.
خلال عقد ونصف من التطورات التقنية انقلبت الموازين الاجتماعية، فشيخ العشيرة الذي اعترض على مكالمة الشاب عام ٢٠٠٤، بدأ يمارس نفس اللعبة بل يحاول اللحاق بالركب، وهو اليوم يمارس ما كان يرفضه قبل سنوات، ويغضب لان ذات الشاب لم يعلق له على منشور بالفيس بوك فيه صور عن احدى لقاءات الشيخ.
اكثر البيوت في المناطق العشائرية الغت جلساتها اليومية التي تعرف بـ(التسيارة) وهي جلسات متبادلة بين رجال المنطقة الواحدة حيث يجتمعون في مضيف أحد وجهاء المنطقة، وحتى وإن اجتمعوا الآن مضطرين، فلا تجد ذلك التفاعل بينهم، فاغلبهم يحدق في هاتفه يبتسم بين حين وآخر لمشاهداته عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
من الذي غيّر كل هذا؟ هل هي رغبة عشائرية أم التطورات التقنية هي التي فرضت نفسها؟ الواضح أن اغلب التقاليد اوجدتها ظروف معينة، وما تمسك الناس بها إلا لأن الظروف ما زالت قائمة، والعشيرة لا تملك السلطة المطلقة في بقائها، بل تتأقلم مع التطورات خوفاً على مصالحها، وخشية من أن يجرفها التيار ويسحقها.
ما الذي نستقيده من قانون التطور الاجتماعي؟ يمكن للحكومات وعبر التخطيط الاستراتيجي أن تتخلص من بعض التقاليد العشائرية عبر تغيير الظروف التي أدت إلى بعض الممارسات المتعارضة مع عمل الدولة والنظام القانوني مثل الدكة العشائرية، أو الاعتداء على موظفي الدولة مثلما حدث مؤخراً مع مفرزة المرور في البصرة التي اثبتت أن بعض التقاليد العشائرية بحاجة إلى مزيد من المعالجة لوضعها على المسار القانوني بعيداً عن التقاليد المتعارضة مع نظام الدولة الحديثة.
ولا يمكن تغيير القناعات العشائرية عبر المواعظ الحكومية التي تنشرها وسائل الإعلام إنما عبر التركيز على تغيير الظروف من خلال تغيير أسس الممارسة الاجتماعية بنظام من الحوافز الجديدة يجعل من العشائر تشعر وكأنها تحصل على مكاسب أفضل إذا تخلت عن بعض تقاليدها المتعارضة مع المؤسسات القانونية والدستورية.
لكن اتباع طريقة التحفيز مقابل التخلي، يجب أن يأخذ بنظر الاعتبار الأخطاء السابقة التي كانت لا تستهدف تذويب العشائر في نظام الدولة بكل ما تحمله من تقاليد متعارضة مع الدولة الحديثة، كانت الحكومات السابقة هي من تتخلى عن بعض مبادئها من أجل ارضاء العشائر، أما إذا أريد البناء الحقيقي يفترض أن يكون الهدف تذويب العشيرة في بوتقة الدولة الحديثة.
اضف تعليق