q
إنسانيات - مجتمع

هوس النميمة

في إحدى البلدات الأميركية الصغيرة تعرضت أربع موظفات الى الفصل من وظائفهن بسبب ارتكابهن فعل النميمة التي كادت تدمر حياة شخص آخر، وللمرة الاولى نسمع بأن أحدهم قرر عقاب شخص ما لنميمته، وللمرة ليست الاولى، نتمنى لو أنّ كل نمام، ومعه كل مرتكب للغيبة والبهتان والإفك...

في إحدى البلدات الأميركية الصغيرة تعرضت أربع موظفات الى الفصل من وظائفهن بسبب ارتكابهن فعل النميمة التي كادت تدمر حياة شخص آخر، وللمرة الاولى نسمع بأن أحدهم قرر عقاب شخص ما لنميمته، وللمرة ليست الاولى، نتمنى لو أنّ كل نمام، ومعه كل مرتكب للغيبة والبهتان والإفك والافتراء، يُعاقَب، لكي يتعظ ولا يكرر فعلته التي تنهش بجسد المجتمع وتعطل نموه الصحي وتقدمه.

ذلك إن ّ النميمة، وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض بقصد الإيقاع بينهم والإفساد وكشف الستر وهتكه، ومعها الغيبة، وهي الكلام عن شخص بما يكره وإن كان فيه، والبهتان وهو الكلام عن شخص في غيابه بما ليس فيه مما يكره، فإن كان في حضوره صار افتراءً، سواء بقصد او بغير قصد، فإن كان عن قصد صار إفكاً وهو الكذب الفاحش واختلاق شيء لا أصل له، وقلب الحق باطلا، والباطل حقا، وأن تقول في شخص ما بلغك عنه، وبقصد، كلها من السلوكيات البغيضة التي تتقارب معانيها وتفصل بينها خيوط، لكنها في كل الأحوال تؤذي الحالة النفسية للإنسان وراحة باله، وكذلك سمعته في كثير من الأحيان، ويلجأ اليها الفاشلون والفارغون غالباً، الذين لا يجيدون أعمالهم ولا يستثمرون أوقاتهم في أمور نافعة، بل يضيعونها في هذه الأمراض التي تنخر العلاقات الإنسانية لاسيما إذا تمحورت حول الإساءة الى أعراض الناس وجعلها موضوعاً للحديث. وهي إساءة يستسهلها المولعون بها من غير أن يراجعوا أنفسهم، ويتوقفوا عند ضمائرهم لحظات كل يوم، ويسألوا ذواتهم : هل يرضون بأن ينمّ عليهم او يغتابهم أحد او يتقول عليهم بماليس فيهم ؟ ولماذا هذا الولع بسلوكيات نهى الله سبحانه وتعالى عنها، وفيها تدخل للمرء في ما لايعنيه وتجاوز على خصوصيات الغير، حتى إنّ الغيبة يُشبَه فاعلها بمن يأكل لحم أخيه ميتا ؟!

إنّ السلوكيات المخطوءة كثيرة في حياتنا اليومية بيد إنّ النميمة والغيبة والبهتان والإفك تتسيدها، وهي الأكثر شيوعاً في مجتمعنا، حتى تبدو وكإنها الزاد لدى بعض الناس بحيث نشعر بأنهم قد يموتون لو لم يَنمّوا على أحد او يغتابوه او يتهموه بماليس فيه، ذلك إنها وجبة غذائية أساسية لخلاياهم التي تصاب بالتكسر إذا لم يتناولوها!!

وغالبا، ما يكون الإنسان الناجح والمتميز هو المستهدَف الرئيس بهذه السلوكيات المَرَضية، لكن ذلك لا يعني أن الآخرين غير مستهدفين، إذ لا يستثنى أحد منها، وعليه فإن رغب أحدهم بإتقائها، توجب عليه حبس نفسه في بيته، فلا يعمل شيئا، ولا يقول شيئا، ولا يقدم شيئا.. بل يختفي عن أنظار الناس تماماً بحيث لا يعرف أحد عنه إن كان حياً أم ميتاً.. او إن كان قد وِلِدَ اصلاً أم لا ؟!!

إنّ الحث على مكافحة هذه الأمراض السلوكية المتفشية واجب ينبغي للمؤسسات التعليمية والاجتماعية والإعلامية والدينية القيام به، بأساليب ذكية ومحببة ومقنعة، إذا كانت مؤسسة الأسرة على مايبدو عاجزة، نوعاً ما، عن التربية السليمة في ما يخص حفظ اللسان، لاسيما إذا ماعلمنا أن بعض الأسر تعاني اغتياب ونم بعض أفرادها على البعض الآخر ! فإذا كان من تربطهم صلة دم وقرابة يغتب بعضهم بعضاً، فليس من المستبعد أن يغتابوا الأصدقاء والغرباء ؟!

ولأنّ هذه الأمراض خطرة وتسبب الهم والغم واللغط وفيها لغو كثير، وأشبه بالطعنات الغادرة الجبانة في الظهر، توجب على الخيرين محاربتها. وأيسر السبل الى ذلك أن يلطموا المسيء على فمه، ولا يسمحوا له بالتحدث بالسوء عن الآخرين. وإذا تكرر هذا الردع، وشاع بين الناس، أغلق الطريق أمام المولع بهذه الأمراض، وكفّ عن اغتياب الغير والنم عليهم. فإذا كان مدمناً على ذلك، لجأ الى النمّ على نفسه واغتيابها، لكي يستريح ! وحينها تكون تلك مشكلته وحده.

لكن تظل رغبتنا في ردع النمام والمغتاب والأفاك مثالية، لأننا لم نجد في الواقع من يردعهم، باستثناء حالات نادرة جداً.

وعليه، فإنّ فصل أولئك النمامات الأميركيات من وظائفهن بسبب النميمة التي تضمنت إساءة الى سمعة الشخص المتضرر من نميمتهن، يشكل سابقة هي الاولى من نوعها في حياتنا المعاصرة، نتمنى أن يكون لها مثيل في مجتمعنا، ولكن ليس على مستوى الإقصاء عن الوظيفة، لأننا لانشجع على قطع الأرزاق بشكل كامل وإنما يمكن توجيه عقوبات معنوية او حتى قطع جزء من الراتب كتنبيه او إنذار الى المسيء بلسانه وكلامه على مستوى المؤسسات والدوائر في الاقل. وهي تشكيلات بها حاجة الى أن يقوم مسؤولوها بتوعية منتسبيها بأهمية الامتناع عن اللغو والثرثرة الفارغة والمسيئة، وبضمنها النميمة والغيبة والبهتان والإفك والافتراء، من أجل مجتمع صحي وإنتاجية عالية كماً ونوعاً، إذ إنّ دوائر العمل يمكن أن تكون مؤسسات إنتاج وتوعية في آن واحد من خلال تنظيم ندوات متخصصة في موضوعة الأخلاق دورياً بهدف الإرشاد، وبطريقة جاذبة.

فهل نجد في مؤسساتنا مثل هذه الندوات؟ وهل هناك من يطبق التنبيهات التي أشرنا اليها، بموضوعية ؟ وهل ثمة من يمتنع عن محاباة هذا النمام او ذاك المغتاب لأسباب غير موضوعية، ويترصد لسواه جوراً بحيث يفسر النقد البناء على إنه نميمة اوافتراء او تُخلَط بعض الأوراق ببعضها الآخر ؟!!.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق