في المراحل البدائية الباكرة لتطوُّر الإنسان، وفي المجتمعات الرعوية أو الزراعية الأولية، كان الكائن البشري سرعان ما يكتشف أنَّ المناخ والجغرافيا والمحيطات الخارجية الأخرى هي صاحبة اليد العليا، وأنَّ عليه أن يتأقلم طبقًا لها، ولكنه عندما تتسع معارفه ومداركه العقلية في المراحل اللاحقة، يحتل مقعد القيادة. إنَّ ظهور...
«العصر الذهبي ليس خلفنا … بل أمامنا»
هنري دي سان سيمون
واجه القرن التاسع عشر تراثًا غامضًا؛ فمن ناحية، كانت هناك نظرية المجتمع المدني التي تقول إنَّ المجتمع الإنساني يجعل البشر أفضل مما كانوا، ومن ناحية أخرى، كان هناك «روسو» الذي يزعم أنه يجعلهم أسوأ.
وبالرغم من أنَّ أنبياء التقدم العظام في القرن التاسع عشر، مثل «هيجل» Hegel و«أوجست كونت» Auguste Comte، و«هربرت سبنسر» Herbert Spencer يبدون معتدِّين واثقين من أنفسهم أمام مَن يحاولون الحطَّ من شأنهم، إلا أنهم كانوا يحاولون بشدة أن يوازنوا بين جانبَي التراث التنويري، كان هدفهم الأكبر هو نفي أي تناقض بين مؤسسات التقدم الإنساني كما عرفتها نظريةُ المجتمع المدني، وطموحات الإنسان البشرية الطبيعية كما عرفها «روسو».
أنبياء التقدم العظام في القرن التاسع عشر أعلنوا أنَّ ما ينبغي وما نريد أن نكون عليه سيُصبحان شيئًا واحدًا ذات يوم، أما ما ينبغي أن نكون عليه، فهو أن نكون كائنات اجتماعية مقيدة بالزمن، وما نريد أن نكون عليه، هو أن نكون أحرارًا وسعداء؛ ولذلك رفضوا كلًّا من الفوضى السياسية للثورة الرومانتيكية، و«الفوضى الروحية» لمجتمع السوق الذي لا يعرف سوى المصلحة الشخصية، ونادوا بمستقبل مختلف كان هو الآخر مقررًا سلفًا من الناحية التاريخية، كان ذلك هو «التقدم» Progress٤٨⋆.
وفي الوقت نفسه، أوضحت صورة القرن التاسع عشر عن التقدم، قضية كانت كامنةً في «التنوير»، وهي أنَّ الفرد المنعزل لم يكن لديه خيارٌ واسع في تلك الأمور كلها؛ فالعمليات الاجتماعية التي تصنع المجتمع المدني واسعةً ومعقدة وليست سهلة، وهذه العمليات نفسها محكومة بقوانين حتمية بما فيها قانون التقدم ذاته؛ فالفرد المتحضِّر نتاجٌ لها وليس العكس، وليس بمقدور أحد أن يختار أن يكون خارج قبضة تلك العمليات بأن يقرر تحويل نفسه إلى «وحش نبيل»، أو إلى «بیریکلیس» Pericles،٤٩⋆ أو بمحاولة استعادة الفضائل المفقودة للمرحلة الإنسانية السابقة.
البشر أصبحوا تروسًا في عجلات التاريخ، بينما هي مستمرة في طحنها؛ لذلك كانت وصية أنبياء التقدم في القرن التاسع عشر هي أن يستمتع الناس بركوب تلك العجلات! بيد أنه كان هناك احتمالٌ آخر أكثر رعبًا، لو استمرت العجلات في الطحن أبعد من نقطة قصوى محددة، وبدأ التاريخ في التحرُّك إلى أسفل (إلى الخلف) وليس إلى الأمام كما حدث في الحضارات الأخرى، يُصبح الكائن البشري لا حول له ولا قوة أمام هذا الاضمحلال كما كان بالضبط أمام التقدم، سيُصبح مأسورًا في فخٍّ مثل إنسان العصور الوسطى الذي كان يمتطي عجلةَ الحظ بلا مستقبل أو مهرب، وبالطبع لم يكن لدى المؤسسين العظام لنظريات القرن التاسع عشر مثل تلك الهموم.
«جورج فردريك هيجل» George Friedrich Hegel، أستاذ الفلسفة البارز في جامعة برلين، استخدم - حتى وفاته في عام ۱۸۳۱ - نظريته الشهيرة في الديالكتيك، للاحتفاظ بكلا الجانبَين في نظرية التنوير فيما يختص بقدر الإنسان في المجتمع. ففي المنظور الديالكتيكي، الأشياء التي تبدو متناقضةً ما هي إلا مراحل أولية نحو تسوية أو جميعة٥٠⋆ نهائية. فالتاريخ هو قصةُ تقدُّم المجتمع الإنساني وقصة الحرية الإنسانية كما يؤكد «هيجل»، والإنسانية تتقدَّم باستمرار نحو فكرتها الخاصة عن الحرية، والتي هي عبارة عن «الوجود التام في ذاته» لكل فرد.٥١⋆،٥٢
تطوُّر المجتمع الإنساني لا يفرض قيودًا على الفرد كما كان «روسو» يزعم، ولكنه ينزعها عنه خطوة خطوة، ودرجة درجة، بأن يجعلَه يفهم ويَعِي قُوَاه الخلَّاقة المستقلة.
الفن والأدب والدين والعلم والفلسفة … كلُّها تتحول عن طريق العملية التاريخية نفسها … التي تعني التقدم. والتقدم كما كان «هيجل» يقول: «هو النبض غير المحدود لروح العلم، وهدف اندفاعتها التي لا تُقاوَم.» وفهم كيفية وصول روح التقدم إلى كل مجتمع وقارة على الكرة الأرضية، كان يتطلَّب النظرَ إلى تاريخ العالم بصفته «مؤسَّسًا على هدف ضروري وفعلي وهو خطة العناية الإلهية - التي سوف تتحقق فيه.»
«الشرق» هو «المرحلة الأولى» في تاريخ الحضارة العام عند «هيجل»، حضارة الصين والهند والشرق الأوسط - الشرق The Orient - هي التي تشكِّل «طفولة التاريخ»، فهم الذين كشفوا عن سرِّ الطبيعة العقلانية للكون، و«اخترعوا» الأديان الأولى المحكمة، واخترعوا فكرةَ الدولة. الإغريق الذين قد نعتبرهم مرحلةَ «المراهقة» اخترعوا مفهومَ الفرد الحر، وكما شرح «هيجل»: «بزغ الوعيُ بالحرية أولًا بين الإغريق، وهكذا كانوا أحرارًا، ولكنهم، والرومان كذلك، كانوا يعرفون أن البعض فقط هم الأحرار، وليس الإنسان بشكل عام.» ويُضيف «هيجل»: «ولذلك كان يوجد عبيد عند الإغريق.»٥٣ أما الرومان فهم الذين فتحوا الباب لنضج الجنس البشري عندما شيَّد أولئك الأفراد الأحرار (وعبيدهم) إمبراطوريةً مادية وسياسية عظيمة. بعد ذلك جاء «الجرمان» أو العالم الأوروبي، ويقول «هيجل»: «وهم يُشبهون مرحلة الشيخوخة في حياة الإنسان، إلا أن شيخوخة الطبيعة ضعف، أما بالنسبة للروح فهي قمة النضج والقوة، الحضارة الحديثة تمثِّل ذروةَ التقدم؛ لأنها أوضحت أنَّ البشر كلهم أحرار بطبيعتهم.»
لقد أعلن «هيجل» أنَّ «أوروبا - وبكل تأكيد - هي نهاية التاريخ»، ما دام «تاريخ العالم ليس سوى هذا النوع من التطوُّر لفكرة الحرية.»٥٤
وفي رأْي «هيجل»: تقدُّم أوروبا الحديثة المشهد الذي يوضح تقدُّم الإنسان «كموضوع» -ككائن عقلاني وأخلاقي مستقل- وأيضًا في إطار علاقاته «الموضوعية» مع الآخرين في المجتمع المدني. هاتان الشعبتان في التقدم تلتقيان تقريبًا في الدولة-الأمة التي ستنشأ بعد ذلك، وكما قال أحدُ النقَّاد البارزين، فإنَّ «هيجل» هو أب النظرية التاريخية للدولة، وكذلك بالنسبة للتقدُّم التاريخي.٥٥ لقد كان «هيجل» يعتقد أن أيَّ تناقضات باقية في المجتمع التجاري -كافة القضايا التي أقلقت «روسو»، و«مالتوس» وغيرهما والخاصة بعدم عدالة توزيع الثروة، وجموح المصالح الذاتية، وافتقاد الهدف الإنساني- سوف يتم حلُّها في النهاية وبشكل حاسم بواسطة تلك الدولة-الأمة. و«سلطة الدولة» كما يقول «هي إنجاز الجميع.»٥٦ سوف يختفي الجشع والفقر، وسوف يُصبح الناس شركاء في «عالم اجتماعي أخلاقي» Sittlichkeit ثابت ومستقر يصنعه اتساعُ سلطة الدولة وموظفوها المدنيون المحترفون والمستنيرون، إنهم يعرفون أنَّ الحرية والعقل ليسا في خصام كما كان يحذر «روسو»، وإنما هما الشيء نفسه: «في العالم الاجتماعي الأخلاقي، للفرد حقوقٌ بقدر ما عليه من واجبات، وواجبات بقدر ما له من حقوق.» ويرى «هيجل» أنَّ ذلك ما يعلمنا إيَّاه ويزكِّيه العقل وتجعله الدولة ممكنًا.٥٧
صيغة «هيجل» للتقدُّم لم تركِّز فقط على الخيال السياسي للقرن التاسع عشر بالنسبة لدور الدولة، والذي كان يسميه «مسيرة الله على الأرض»، فهي قد أعطت دفعةً قوية جديدة لفكرة أنَّ البشرية يمكنها، عن طريق العقل، أن تحقق خلاصها الخاص.
«سعادة الإنسان النهائية ليست حلمًا بعيدَ المنال.» كما يقول، ولكنها تحدث هنا والآن نابعة من السيل الجارف الذي لا يمكن إيقافه، وهو تقدُّم المؤسسات والطموحات الإنسانية، وفي هذا المجال، كان «کارل مارکس» أحد الذين استلهموا أفكار «هيجل». و«مارکس» يعتبر -بالتأكيد- واحدًا من أنبياء التقدم الأكثر تأثيرًا في القرن التاسع عشر. نظريته في التاريخ تأسَّست على مبادئ نظرية «هيجل» نفسها: مسيرة الإنسان التي لا تقاوم نحو الحرية، ولكن «مارکس» حدَّد الاقتصاد وليس السياسية مفتاحًا لباب تقدُّم الإنسان من خلال قانون الصراع الطبقي، وعلى عكس «هيجل»، أنكر أن يكون المجتمع التجاري هو المرحلة النهائية لعلاقات الإنسان الاقتصادية. هناك مرحلة أبعد من الرأسمالية… وهي الاشتراكية، «سلطة الدولة السياسية تموت» عند «مارکس» وشريكه «إنجلز» Engles؛ لأن أحدًا لن يحتاج في مجتمع لا طبقي إلى إجبار أو قسر لكي يحصل على ما يريد. كتب «إنجلز»: «الإنسان سوف يصبح - في النهاية - سیِّدَ صيغته للتطوُّر الاجتماعي. «إنه» يصبح في الوقت نفسه سيِّدًا على الطبيعة، وسيِّد نفسه يصبح حرًّا.»٥٨
وكما هو الأمر بالنسبة للدولة-الأمَّة عند «هيجل»، فإنَّ الشيوعيةَ عند «مارکس» هي التوفيق النهائي بين احتياجات الفرد وعلاقاته في المجتمع، وإن كان التحوُّل هنا أكثرَ غموضًا، الرأسمالية واجهَت - كما حذَّر «مارکس» - «يوم حساب» سوف يزيد البؤس والاستغلال يصبح من المتعذر معه منع انفجار الثورة. و«مارکس» يرى أن المجتمع البرجوازي محكومٌ عليه بالدمار بسبب تناميه المفرط (بتعبير جيبون)، ولكن جنة افتدائية سوف تحلُّ محلَّه وهي «دكتاتورية البروليتاريا»، كما نجد في العبارات الختامية من «البيان الشيوعي» ١٨٤٨: «ليس لدى العمال ما يخسرونه سوى أغلالهم.» «يا عمال العالم اتحدوا.» أصداء من «روسو» ومن الليبرالية الرومانسية، وعند كلٍّ من «هيجل» و«مارکس» فإن التاريخ كعملية تقدُّم، يَصِل إلى نقطة نهاية لا يستطيع أن يتخطاها إلى أبعد منها. أما بالنسبة للمفكِّر «هنري دي سان سيمون» Henri de Saint-Simon -معاصر «هيجل»- فلم يكن التاريخ، وإنما التكنولوجيا والعلم هما اللذان يقدِّمان مفتاح الوجود والسعادة الإنسانية. «سان سيمون» وهو في الأساس مؤيِّد للثورة الفرنسية، تحرر من الوهم، بسبب تجاوزاتها السياسية المفرطة وانصرف عن السياسة، وبدلًا من ذلك أصبح مقتنعًا بأنَّ العقل العلمي الحديث سوف يتمكن من صنع مجتمع روحاني حديث تختفي منه كافة التعاسات والصراعات.
وكما هو الأمر عند «هيجل» فإنَّ نخبةً بيروقراطية مستنيرة هي المنوطة بتنظيم مثل هذا المجتمع المثالي. ولكن بينما بيروقراط «هيجل» بشر، لديهم الفهم العميق لمؤسسات مجتمعهم وتقاليده، فإنَّ نخبة «سان سيمون» تعيش في عالم العقل المجرد والعلم المادي تمامًا، دليلها هو «قانون التقدُّم»، الحتمي والمؤكد النجاح والذي يقرر الشئون الإنسانية كما يقرر قانون الجاذبية الطبيعية.
يقول «سان سيمون»: «إنَّ كل ما نستطيع أن نفعله هو أن نُطيع هذا القانون بإدراك، واضعين في اعتبارنا المسارَ الذي يحدِّده لنا، بدلًا من أن نكون مدفوعين به دون بصيرة.» وكان يُطلق على ذلك «تدبرنا الصحيح.»٥٩ «البيروقراطية» و«التكنولوجيا» سيصبحان فيما بعد مصطلحَين يدعوان للاستخفاف، ولكنهما بالنسبة ﻟ «سان سيمون» وخليفته الثقافي «أوجست كونت» August Comte كانا يَعِدان بعصر جديد، عصر تقدُّم إنساني وفهم عقلاني للعالم وكأنهما دين جديد.
فلسفة «كونت» «الوضعية»، قامت بتوصيل رسالة افتدائية مُخلِّصة شبيهة برسالة «هيجل»، طبيعتنا الأخلاقية وتقدُّمنا الاجتماعي ليسا في حالة تناقض، هما الشيء نفسه كما يقول «كونت».
كتب: «تقدُّمنا الإنساني السياسي أو الأخلاقي أو الفكري لا ينفصل عن تقدُّمنا المادي.» وكان يعني بذلك تقدُّمَ الصناعة والعلم. وكان يسمِّي قوانين التطوُّر الاجتماعي «الفيزياء الاجتماعية». كان يراها كلًّا واحدًا (لا يتجزأ) من النموِّ المتصاعد للنظام العقلاني في الكون والذي سوف يضمن في النهاية توافقًا تامًّا في الطبيعة والمجتمع، «أفكار النظام والتقدم في الفيزياء الاجتماعية، مثل أفكار النظام والحياة في علم الأحياء (البيولوجيا)، من المستحيل الفصل بينها.»٦٠ وكان «أوجست كونت» يعتبر كمال الإنسان من خلال المجتمع الحديث أكثر من مجرد غاية خيالية أو وهمية، ولأنَّ لكل وجود قوة دافعة للأمام، لا تهدأ، فإنَّ الكمال حتميٌّ إن لم يكن وشيكًا، ويتفق معه في ذلك نظيره الإنجليزي «هربرت سبنسر» Herbert Spencer عندما يقول: «التطوُّر النهائي للإنسان المثالي أمرٌ مؤكد من الناحية المنطقية.» وبالنسبة للمفكرين الإنجليز في منتصف القرن التاسع عشر مثل «سبنسر»، لم يَعُد التقدم قضيةً خلافية، بل أصبح افتراضًا تجريديًّا لا خلاف عليه. المؤرخان «توماس ماکولاي» Thomas B. Macaulay، و«دبليو – إتش – لیکي» W. H. Lecky، والفيلسوفان «جیرمي بنتام» Jermy Bentham، و«جون ستيورات مل» John Stuart Mill، وعالمَا الاقتصاد السياسي «ديفيد ريكاردو» David Recardo، و«ناسوسينيور» Nassau Senior - الآباء المؤسِّسون لليبرالية القرن التاسع عشر الكلاسيكية - استلهموا كلهم ذلك الافتراض وكان سندًا لأفكارهم. أما «هربرت سبنسر» فهو الذي جسَّد ذلك الإيمان بالتقدم والنظرة المتفائلة المرتبطة به؛ ولأنه كان مهندسًا بحكم دراسته، لم يجد صعوبةً في أن يرى أن أوروبا الصناعية الحديثة كانت على بداية التقدم. كانت رؤية «سبنسر» للتقدُّم الحضاري ممزوجةً بالحرية الفردية والتضامن الاجتماعي، ينصهران معًا في مجتمع ليبرالي تمامًا، كتب: «الإنسان لديه الحرية ليفعل ما يشاء، ما دام لا يعتدي على الحرية المماثلة لأي إنسان آخر.»
الهدف النهائي لفكرة «سبنسر» عن التقدم هو التطوُّر العضوي للمادة من «التجانس» إلى «التمايز»، وهو تطوُّر يضم بداخله - كما يعتقد: البيولوجيا، وعلم النفس، والكيمياء، والجيولوجيا، بالإضافة إلى الميدانَين اللذَين كانَا قد بدآ يسيطران على اهتماماتِ كلِّ مَن يدرس «التقدم»، وهما الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع، ومثل «كونت» كان «سبنسر» يرى أن التقدم يحكم كلَّ ما في الكون، وليس التاريخ الإنساني فقط.
عندما ظهرت نظرية «تشارلز دارون» Charles Darwin عن التطوُّر الاجتماعي والمسمَّاة ﺑ «أصل الأنواع» لأول مرة في سنة ۱۸٥۷، سرعان ما تعلَّق بها «سبنسر» كبرهانٍ على صدق نظريته، ولكن الواقع أن أفكار «سبنسر» عن التطوُّر العضوي للمجتمع كانت سابقةً على «دارون»، فقد كان «سبنسر» وليس «دارون» هو الذي سكَّ مصطلح «البقاء للأصلح»، وكان «سبنسر» هو الذي توصَّل إلى أنَّ التطوُّر يعني أنَّ الاكتمال التدريجي للإنسان مثل كل الكائنات الأخرى أمر ممكن.
وكما هو الحال عند «دارون» فإنَّ الإنسان جزءٌ من الطبيعة وليس فوقها أو أسمى منها، ولكن الطبيعة عند «سبنسر» لم تكن تلك «حمراء السن والمخلب» (كما ستكون بعد ذلك عند الدارونيِّين الأكثر تشاؤمًا)، بدلًا من ذلك، هي عالم طاقات وإمكانيات لا نهائية، يكتشف الفرد أنَّ قواه تنمو فيه … «في تعامله مع كل ما يدخل نطاق التجربة إلى أن يُصبح في النهاية حرًّا وسعيدًا.»
الهيجليون والماركسيون احتقروا «سبنسر» بسبب نظرته التي تنتمي إلى سياسة «دعه يعمل» -في القرن التاسع عشر- وتوسيعها المرعب لثروة الإنسان المادية وحريته البرجوازية. أما الذي يستوقفنا عندما نتأمل ذلك، فهو ذلك التشابه بين «سبنسر» و«مارکس» في توقعهما لحتمية تقدُّم الإنسان، وإصرارهما المتشدد عليه، وفي نهاية الأمر، كان «سبنسر» يعتقد أن جميع أوجه القصور المتبقية في المجتمع لا بد أن تختفيَ؛ ففي رأيه كما في رأْي «مارکس» أنَّ الشر وقسوة الإنسان ووحشيته ما هي إلا مخلَّفات العيوب الاجتماعية السابقة؛ فالإنسانية مثل قميص من القماش المتغضن الذي تختفي عيوبُه إلى الأبد بتمرير مكواة الحضارة الحديثة عليه. وتحت تأثير «سبنسر» و«كونت»، كانت مجموعةٌ من المؤرخين العلميِّين تتقدَّم لتبيِّن كيف أنَّ قوانين التقدم تلك قد قامت بدورٍ مهمٍّ في تاريخ الحضارة نفسها. كان «هنري توماس باكل» Henry Thomas Buckle تلميذًا ﻟ «كونت»، وكان يرجع مسار التاريخ الأوروبي والبريطاني بكامله إلى انتشار التقدم طبقًا لقوانين منتظمة وثابتة لا يرقى إليها الشكُّ، وفي العام نفسه الذي أعلن فيه «سبنسر»: «تطوُّر البسيط إلى معقد»، كقانون عام «للمجتمع، والحكم، والصناعة، والتجارة، واللغة، والأدب، والعلم، والفن.» نشر «باكل» كتابه: «تاريخ الحضارة في إنجلترا» ۱۸٥۷م، كما كان «باكل» يقول: «إنَّ التقدم الذي أنجزَته أوروبا من البربرية إلى الحضارة يرجع بكامله إلى تنامي معرفة الإنسان وسيادته على العالم من حوله …» وكان بذلك يعني العلم والتكنولوجيا. أما مؤشرات التقدم الأخرى؛ مثل ترقية الأخلاق وزيادة التهذيب، فكانت متروكةً على جنب أو في طيِّ النسيان، «التقدم» عند «باكل» هو - أولًا وأخيرًا - فرض سيطرة الإنسان العقلانية على بيئته المادية.
في المراحل البدائية الباكرة لتطوُّر الإنسان، وفي المجتمعات الرعوية أو الزراعية الأولية، كان الكائن البشري - كما يقول «باكل» - سرعان ما يكتشف أنَّ المناخ والجغرافيا والمحيطات الخارجية الأخرى هي صاحبة اليد العليا، وأنَّ عليه أن يتأقلم طبقًا لها، ولكنه عندما تتسع معارفه ومداركه العقلية في المراحل اللاحقة، يحتل مقعد القيادة. إنَّ ظهور ملكاته وقدراته من خلال العلم والتكنولوجيا، يأخذ أسبقيةً بالتدريج على كل صور النشاط الذهني الأخرى، وفي النهاية، تُشكل الحضارة في صيغتها الأوروبية.٦١ كان «باكل» ومعاصروه يرحبون بأيِّ منظور مقارن لمعرفة مكامن القوى والضعف في الحضارة الأوروبية، واستطاعوا أن يعتمدوا على مصادر جديدة للمقارنة، بما في ذلك المكتشفات الأركيولوجية الجديدة؛ مثل اكتشاف «هينرش شليمان» Heinrich Schliemann ﻟ: طروادة القديمة، والسير «أوستن هنري لیارد» Austen Henry Layard ﻟ: «نينوى»،٦٢⋆ والسير «آرثر إيفانز» Arthur Evans ﻟ: «كريت مینوي» … ثم بعد ذلك بفترة طويلة اكتشافات «لورد کارنافون» في مصر. النمو الحثيث للدراسات «الشرقية» قدَّم معلوماتٍ جديدةً قيِّمة عن حضارات الشرق الأوسط والشرق الأقصى في الماضي والحاضر، بينما ساعدت الدراسات الرائدة عن الشعوب والمؤسسات البدائية، مثل كتب «الثقافة البدائية» ۱۸۷۱م ﻟ «إي بي تیلور» E. B. Tylor، و«الغصن الذهبي» ﻟ «جیمس – ج. فريزر» James G. Frazier ۱۸۹۰م على توضيح الفروق بين المجتمعات «المتحضرة» و«البدائية»، إلا أنَّ تلك المادة الغزيرة كلها، وبصرف النظر عن كونها مروعة أو مثيرة، لم يبدُ أنها كانت تتناقض مع الصورة الأساسية نفسها، وهي: التفوُّق الحقيقي للحضارة الأوروبية على كل الحضارات السابقة والمعاصرة لها، ومن ينظر إلى إنجازات أوروبا العلمية، وإنتاجيتها الاقتصادية والصناعية الهائلة، ونُظُم الحكم فيها، أو حتى إلى مجرد تطوُّرها التاريخي المائز من الماضي البدائي، يجد أنها قد حققت تفوقًا لا مثيل له بالنسبة للآخرين على الكرة الأرضية. لقد أصبح من المعتاد النظر إلى مصطلحَي «الحضارة» و«أوروبا الحديثة» كمرادفَين، وكما لو كان الآخرون كلهم ليسوا سوی أسلاف من الدرجة الثانية أو تقليد زائف للأصل. في سنة ۱۸٥٤، كان «جون هنري نيومان» John Henry Newman مضطرًّا للإقرار بأنَّ الحضارة الأوروبية «متميزة ومضيئة في طبيعتها، عظيمة في اتساعها، جليلة في دوامها، وليس لها منافس على وجه الأرض بالمرة»؛ ولذلك فإنَّ لديها ما يبرِّر أن تتخذ لنفسها لقبَ «المجتمع الإنساني» ولحضارتها، ذلك المصطلح النظري «الحضارة».٦٣
ولم تكن المشكلة الحقيقية أمام المؤرخين هي تفسير أسباب وصول أوروبا إلى الصدارة، كانت المشكلة هي معرفة أسباب فشل الآخرين، أو لماذا ظلُّوا يتخبطون في التداعي والتفسُّخ. لقد قدَّم العلماء والباحثون الأمريكيون والأوروبيون عددًا ضخمًا من التفسيرات والشروح لذلك الفشل الكبير، فشل بقية العالم أن يكونوا مثلهم. وكان البعض يعزو ذلك لاختلافات المناخ والجغرافيا، وآخرون كانوا يرجعونه - وعلى نحو أكثر تشهيرًا - إلى الدونية العِرقية والتدهور الفسيولوجي، بينما هناك مَن يشير إلى الفروق في السيكولوجيا العامة ولدور المعتقدات الدينية والثقافية.٦٤ ويبدو أن الأوروبيِّين الغربيِّين فقط هم الذين قد حققوا مستوًى من التقدم المادي والروحي، يمثِّل حضارةً حقيقية، عندما نُقارنهم بالصين وفارس وتركيا العثمانية، ومراكز الحضارة الأوروبية التي ازدهرت في مرحلة ما ثم تفسَّخت مثل اليونان وإيطاليا، أو بالقبائل البدائية وسكان الغابات التي ما تزال مبعثرةً في أجزاء من العالم؛ فمَن ذا الذي كان يمكن أن يتنبَّأ بأنَّ العلماء سيطبِّقون على أوروبا في نهاية القرن هذه المصطلحات نفسها: التفسُّخ، الهرم، الانحلال …؟ ولكن ذلك لم يكن أمرًا مفاجئًا كما قد يبدو. فإذا كانت جميع الحضارات تقوم وتسقط طبقًا لقوانين علمية محددة، فإنه يصبح من المنطقي والحتمي أن تنطبق تلك القوانين نفسها على الصيغة الأوروبية.
ومن اليسير أن نتصوَّر مدى أسف «هربرت سبنسر» في سنة ۱۸٥۸ عندما علم أنَّ القانون الثاني في الديناميكا الحرارية،٦٥⋆ والذي يُعرف بقانون «الإنتروبيا»٦٦⋆ كان يدل على أنَّ التقدم إلى ما لا نهاية أمر مستحيل، ما دامت كلُّ الطاقة الموجودة في الكون لا بد أن تتبدَّد في النهاية، وأنَّ الحياة نفسها سوف تتوقف، وقد كتب إلى مَن أخبره بذلك يقول: «أذكر أنني قد أصبحت متوعكَ الصحة بعد ذلك … ولعدة أيام …» «تأكيدك لي أنَّ الحياة سوف تتوقف عند تحقق التوازن النهائي، أصابني بالدوار وما زلت أشعر بالاضطراب.»٦٧ فإذا كانت توقعاتنا عن المستقبل تعتمد على التحقق الدقيق لقدر تاريخي مقرر غير قابل للتغيير، كان لا بد لنا أن «نُصاب بالدوار» أيضًا، عندما يتأكد لنا أنَّ القدَر يعمل ضد سعادتنا وليس من أجل تحقيقها. الثقة في قانون التقدم، فتحَت الآن إمكانيةَ حدوث العكس. المفكر «جون – دبلیو – درابر» John W. Draper وهو النظير الأمريكي ﻟ «توماس باكل» - ومن أتباع كونت - أضاف إلى تاريخ التقدم المرحلة النهائية نحو السقوط، عندما تفقد القوى التي تجذب المجتمع والإنسان إلى الأمام طاقتها فجأة وتبدأ انطلاقها في الاتجاه العكسي …
في كتابه «التطوُّر الفكري لأوروبا» ۱۸٦٤ حذَّر «درابر» القُرَّاء منبِّهًا إلى أنَّ المقارنة بالمجتمعات غير الغربية قد لا تنطوي على تفحُّص دقيق، ويقول: «أوروبا تُسرع لكي تُصبح مثلما عليه الصين، ونحن نرى فيها ما سوف نُصبح عليه عندما نشيخ.»٦٨ تحذير «درابر»، وخوف «سبنسر» من «الإنتروبيا» مهَّدَا الطريق نحو حتمية «هنري» و«بروکس آدمز» Henry and Brooks Adams التشاؤمية. إلا أن ثقلًا موازنًا يؤمن بالتقدم، قد ظهر بالفعل في الحركة الفنية الأدبية المعروفة ﺑ: «الرومانتيكية» Romanticism.
اضف تعليق