من خلال تتبع الواقع الأفغاني أن سلوك الحاكم له تأثير كبير على طبيعة التعاطي بن الحاكم والمحكوم، فكلما كان الحاكم قاسيا كان الأفغان بعيداً عن الطاعة وأقرب إلى العصيان المدني والعسكري وكلما كان رحيماً كانوا يفدونه بأرواحهم، ويقدم على ذلك مثلاً بوالي الإمام علي (ع) على بلاد خراسان...
ما بين قراءة الواقعة ومشاهدتها عن قرب ومعايشة فصولها هي بمسافة الأصابع الأربعة الفاصلة بين العين والأذن، فمن رأي ليس كمن سمع، ومن عايش ليس كمن رأى، وكلما اقترب المرء من الواقعة بانت له نقاط لم تكن في مدى الرؤية، ولهذا ليس كل ما يسمعه المرء هو حقيقة وكذا الأمر ليس كل ما يراه هو لب الحقيقة، فالموقد أو المدفأة حقيقة نستشعر في الشتاء الدفء ونحن على ياردة أو ياردتين منها، وكلما اقتربنا منها زادت حرارتها واذا لمسناها احترقت اناملنا وعندها تبان حقيقة الموقد أو المدفأة فهي ليست مصدر حرارة فحسب وإنما هي نار شرار، ولهذا ورد في الأثر العلوي الشريف أن بين الحقيقة من عدمها اربعة أصابع بين أن ترى وبين أن تسمع، وهو قوله عليه السلام من خطبة له: (أيها الناس، من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال. أما إنه قد يرمي الرامي وتخطئ السهام ويحيل الكلام، وباطل ذلك يبور والله سميع وشهيد. أما إنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع - فسئل الإمام علي عليه السلام عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه- ثم قال: الباطل أن تقول سمعت والحق أن تقول رأيت).
وهذه حقيقة يعيشها كل إنسان ويعايشها ويلمسها لمس اليد، بخاصة عندما تكون المعايشة بين مجموعة من الأفراد مختلفة الأوطان واللغات والتقاليد والمذاهب تجمعهم أقدار العمل أو السفر أو الهجرة، فتجد في محيط دائرة قصيرة القطر مجموعة من الأفراد قادتهم أقدارهم إلى التجمع في هذه الدائرة الصغيرة فيخلق الإحتكاك المباشر والتعامل المتبادل نوعاً من المعرفة لدى الآخر عن زميله القادم من البلد الآخر واللغة الأخرى والمعتقد الآخر، وهي معرفة متبادلة، وإذا عاش المرء بين ظهراني جالية من غير بلده تمكن من خلق صورة في ذهنه عن طبيعة هذه الجالية من خلال التعامل اليومي مع أبنائها، فالسلوك هو الذي يهيئ الذهنية لدى الناظر لرسم صورة عن هذا المجتمع، ولهذا كلما كان السلوك واضحاً كانت معالم الصورة واضحة، وكلما كان السلوك أقرب لحقيقة متبنيات المجموعة الفكرية والعقائدية كان أقرب لفهم واقعها وواقع البلد الذي تمثله أو العقيدة التي تمثلها أو المذهب الذي تمثله، ولهذا ورد التأكيد على المجتمعات المسلمة التي تعيش في المهجر أن تكون رسولة دينها وثقافتها بسلوكها وتعاملها مع المحيط، وقد ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق المتوفى سنة 148هـ قوله عليه السلام للمسلمين: (كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسنا، واحفظوا ألسنتكم وكفوها عن الفضول وقبيح الأعمال)، فالمسلكية العملية هي عنوان الفرد وهويته.
مع الأفغان في البلدان
ساقتني الهجرة القسرية من بلدي العراق إلى العيش مع مجموعات بشرية من جنسيات مختلفة ولغات مختلفة، منهم الأفغان الذين أجبرتهم الحروب الداخلية والعداونية على الهجرة إلى دول الجوار والتفرق في الاقطار كما هو حال العراقيين وغيرهم من البلدان عربية وغير عربية تلاعبت بها أصابع دوائر الظلم الداخلي أو العدوان الخارجي، ووجدت في الشخصية الأفغانية التفاني في العمل والصبر على ملمات الحياة، والرضا بما قسمته الأرزاق، وفي الوقت نفسه الشدة على الغريب الآخر المغير المحتل القادم من خارج الحدود، والتعصب على القريب الآخر المختلف في المذهب الناهض من داخل الحدود، وهي صفة تبدو متناقضة ولكنها تعكس واقع الجغرافية في افغانستان بين سكان المدينة والسجوف وسكان الجبل والكهوف، والمحصلة النهائية أن الشخصية الأفغانية كما هي صبورة عند المراس وقنوعة فهي شديدة البأس غير جزوعة، من هنا ما من جيش محتل وطأت أقدامه أرض أفغانستان إلا وغرزت، كاتبة شهادة خروجه مدحورا مخزيا.
هذه الحقيقة نجد خطوطها العريضة في الكتاب الجديد للمحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي المعنون: "الإسلام في أفغانستان للكرباسي" الصادر عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 96 صفحة من القطع المتوسط من تقديم وإعداد رجل الدين الأفغاني السيد محمد نسيم الحيدري المولود في العاصمة الأفغانية كابل سنة 1979م.
المسلكية طريقة كسب
عندما نمعن النظر في الحوادث التي جرت في نهاية القرن العشرين الميلادي على مستوى القارة الأوروبية بشقيها الغربي والشرقي، سنجد أن انهيار جدار برلين في 9/11/1989م الذي فصل بين ألمانيا الغربية والشرقية هو في واقعه انهيار للشيوعية والماركسية، وأعقبه بعد شهر خروج آخر جندي سوفيتي من أفغانستان في 15/12/1989م، وبعد فترة قصيرة انهار الإتحاد السوفيتي في 26/12/1991م، وعندما نقرب العدسة من حدث الإنهيار سنجد أن سقوط موسكو في وحل أفغانستان وتعثر بساطيل جيشها بين أحجار جبال أفغانستان الذي دخله محتلاً في 27/12/1979م مهد السبيل إلى انفراط عقد الإتحاد السوفيتي على يد ثامن زعيم روسي هو غورباتشوف (1931- 2022م)، وانحلال الوحدة الشيوعية الماركسية.
وكما دلت حوادث القرن العشرين استحالة تعايش الشعب الأفغاني مع المحتل السوفيتي دلت حوادث القرن الواحد والعشرين على الأمر نفسه مما أجبر أميركا وحلفاءها على الإنسحاب من أفغانستان بشكل فوضوي خائف في 30/8/2021م بعد عقدين من الإحتلال في 7/10/2001م، وهكذا من قبل، وهذا ما نراه في الحكومات التي مرت على أفغانستان منذ أن دخلها الإسلام في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب سنة 21 هجرية وحتى اليوم.
ويفيدنا الكتاب أن أفغانستان مرت منذ العهد الإسلامي بإثنين وعشرين حكومة بعضها دامت لسنوات وأخرى لقرون، وهي على التوالي: الراشدون، الأمويون، العباسيون، السامانيون، الطاهريون، البانيجوريون، الصفاريون، الغزنويون، الغوريون الأوائل، السلجوقيون الأوائل، الخوارزمشاهيون، الكرتيون، الگوركانيون، الغوريون الأواخر، الصفويون، السوريون الأوائل، الهشدرخانيون، الهوتكيون، الأفشاريون، الأبداليون، البارگزائيون، وأخير العهد الجمهوري الذي بدأ بانقلاب الجنرال محمد داود خان في 17/7/1973م على ابنه عمه الملك محمد ظاهر شاه حيث أنهى 150 عاماً من حكم العائلة البرگزائية الپشتونية.
ويلاحظ الشيخ الكرباسي من خلال تتبع الواقع الأفغاني أن سلوك الحاكم له تأثير كبير على طبيعة التعاطي بن الحاكم والمحكوم، فكلما كان الحاكم قاسيا كان الأفغان بعيداً عن الطاعة وأقرب إلى العصيان المدني والعسكري وكلما كان رحيماً كانوا يفدونه بأرواحهم، ويقدم على ذلك مثلاً بوالي الإمام علي (ع) على بلاد خراسان الكبرى بما فيها أفغانستان جعدة بن هبيرة المخزومي المتوفى سنة 40 للهجرة الذي أولى اهتماماً بأفغانستان وأمرائها وأبقى على إمارتهم فبادلوه السمع والطاعة ولهذا عندما تولى معاوية بن أبي سفيان الحكم سنة 41هـ من بعد الخليفة الراشدي الخامس الإمام الحسن بن علي (ع) وأمر المسلمين بسب الإمام علي (ع) ولعنه من على المنابر امتنع أمراء الغوريون الأفغان عن ذلك ودخلوا في حرب مع الوالي الأموي.
ويوقفنا الكتاب على أهم العوامل التي ساهمت في تقبل الشعب الأفغاني للإسلام والدفاع عنه، وهي:
أولاً: حسن سيرة عامل الإمام أمير المؤمنين (ع) مع الأفغان.
ثانيا: إختيار رجالاتهم للحكم في بلادهم.
ثالثا: محبة أهل البيت (ع) في قلوب المسلمين.
رابعاً: مظلومية أهل البيت (ع) على أيدي أعدائهم الحكام.
خامساً: هجرة الهاشميين إلى تلك البلاد بسبب الإضطهاد الذي مورس بحقهم.
سادساً: إستقرار الإمام علي بن موسى الرضا (ع) المتوفى سنة 203 هـ في طوس.
وحيث مرت أفغانستان بتقلبات سياسية وعسكرية واجتماعية ومذهبية كثيرة، فإن الخارطة السكانية هي الأخرى مرت بتقلبات كثيرة حتى استقرت على أكثرية بشتونية (حنفية وحنبلية) ثم الهزارة (إمامية وإسماعيلية)، وطاجيك (حنفية وإسماعيلية)، وأوزبك (حنفية)، وتركمان (حنفية)، ونحو 1 في المائة من غيرهم أكثرهم من السيخ، وبشكل عام يشكل المسلمون السنة نحو 64 بالمائة من السكان يليهم الشيعة بنسبة 35 بالمائة والبقية لغيرهما.
الأفغاني .. نموذج رائع
عندما يتناهى إلى الذهن اسم أفغانستان تتقافز مفردات الحرب والإحتلال والإقتتال، وتغيب أسماء العلماء والرواة والفقهاء والمؤرخين والقادة الأفذاذ الذين أنتجهم المجتمع الافغاني من أمثال صاحب التفسير: الضحاك بن مزاحم البلخي المتوفى سنة 105هجرية، وصاحب الحديث: أبو خالد الكابلي المتوفى بعد سنة 114هـ، وصاحب التفسير: مقاتل بن سليمان البلخي المتوفى سنة 150هـ، وصاحب الكلام: أبو الصلت عبد السلام الهروي المتوفى سنة 236هـ، وصاحب الصحاح: أبو داود سليمان السجستاني المتوفى سنة 275هـ، وصاحب القضاء: عبد الجبار المعتزلي المتوفى سنة 415هـ، وصاحب التصوف: أبو إسماعيل عبد الله الأنصاري الهروي المتوفى سنة 481هـ، وغيرهم.
ولعلَّ من أبرز قادة الأفغان المتأخرين هو السيد جمال الدين محمد بن صفدر الحسيني الأفغاني المتوفى سنة 1315هـ (1897م)، حيث تنازعته النسبة بين أفغانستان وإيران فمنهم من ينسبه إلى أسد آباد أفغانستان وآخر إلى أسد آباد إيران، ويقطع الأفغاني نزاع القوم بقوله: (لقد جمعت ما تفرق من الفكر، ولمَّمت شعث التصور، ونظرت إلى الشرق وأهله، فاستوقفتني الأفغان، وهي أول أرضٍ مسَّ جسدي ترابها، ثم الهند وفيها تثقف عقلي، فإيران بحكم الجوار والروابط، وإليها كنت أصرف بعض همَّتي، فجزيرة العرب من الحجاز مهبط الوحي ومشرق أنوار الحضارة، ومن يمن وتابعتها وأقيال حِمْيَر فيها، ونجد، وعراق هارونها ومأمونها، والشام ودهاة الأمويين فيها، والأندلس وحمراؤها، ومصر روح الممالك الإسلامية وباب الحرمين الشريفين، وهكذا كل صقع ودولة من دول الإسلام في الشرق).
ونوَّه المحقق الكرباسي في كتابه إلى عدد من انجازات الأفغاني المهمة مشيراً إلى مجلة "العروة الوثقى" التي أنشأها في باريس مع تلميذه الشيخ محمد عبده المصري المتوفى سنة 1332هـ (1905م)، وكان من أهدافها وعموم مسيرة الأفغاني وتلميذه المصري كما يؤكد الكرباسي:
أولاً: تبصرة الشرقييين عامة المسلمين خاصة بالواجبات التي يكون التفريط فيها سبباً للسقوط والتخلف والضعف.
ثانيا: إزالة ما حلَّ بنفوسهم من اليأس والقنوط ودعوتهم إلى التمسك بالأخلاق والفضائل والمثل العليا.
ثالثا: تفنيد الزعم بأن الإسلام هو سبب تأخر المسلمين وتخلفهم.
رابعاً: العمل على تقوية الصلات والروابط بين الأمم الإسلامية.
وما زالت الأهداف الأربعة تتصدر اهتمامات المصلحين في كل مكان، كما وما زالت أفغانستان محل إهتمام القريب والبعيد لما فيها من كنوز على مستوى الإنسان والأرض وباطنه، وهذا الكتاب فيه إضاءة على هذه الكنوز، وبتعبير المعد السيد محمد نسيم الحيدري المقيم في ضاحية واتفورد شمال لندن: (يعتبر الكتاب خطوة مهمة أثرت المكتبة ورواد المطالعة، لاسيما وإنها لاقت ترحيباً في أفغانستان، ولا يخفى أن الجهد المبذول من قبل سماحة المؤلف يستحق التقدير والإحترام من قبل الجميع)، وهو كذلك.
اضف تعليق