وحيث حكم المسلمون جانبا من ايطاليا لنحو خمسة قرون غابوا عنها لنحو ثمانية قرون، لتعود موجة المسلمين نحو إيطاليا، ولكن هذه المرة ليس باسطول حربي، وإنما بسفر بحري، أقله شرعي قانوني وأكثره غير قانوني، عبر قوارب اللجوء وزوارق الهجرة بخاصة الهجرة التي بدأت في سبعينات القرن العشرين...
من المسلمات عند السفر، الإستعداد له وتوفير مستلزماته من جواز سفر وإجازة مرور (فيزا) للبلد الذي يطلبه، وحجز طيران وسكن وتهيئة الميزانية، وتزداد المسؤولية إذا كان السفر مع أفراد الأسرة، لأن السفر مع آخرين يصقل الشخصية على حسن القيادة إن كان رباناً، ويصقلها في إطار خلق الإنسجام والتعاون إن كان راكباً.
ولعل من مقدمات السفر الرئيسة قبل تهيئة المناخات القانونية والمالية، هو التعرف على البلد المزور نفسه، والاطلاع على المعالم التي يفترض أن يرتادها من خلال ما توفره النشرات السياحية ووسائل الإعلام وأدوات التواصل الإجتماعي الحديثة، أو من خلال الاطلاع مباشرة على صديق زار البلد من قبل والسؤال منه عن ذلك البلد مع شيء من التفاصيل عما يمكن أن يبتلى به الزائر الجديد حتى لا يقع في جب المفاجآت غير المحمودة، فتتجمع لدى المسافر نقاط هامة تشكل في ذهنه صورة عامة عن البلد، حتى إذا حط أقدامه فيه امتلك بعض المفاتيح التي تمكنه من فتح الأبواب وهو على دراية بما خلفها.
ولكن المفارقة أن يأتي السفر لبلد على حين غرّة، وغير مسبوق وغير مدروس وغير مهيء له نفسيا ولا مالياً، وهو ما حصل لنا في ربيع عام 2010 عندما كنا في رحلة عائلية إلى مصر، وكان حينها بركان (ايفيالايكول) في آيسنلدا قد تحرك من قمقمه في 21/3/2010م وثار في 14/4/2010م ولبّد سماء أوروبا بالغيوم الرمادية وتعطلت حركة السير الجوية، ولأنه كان علينا العودة بالخطوط الجوية الإيطالية من القاهرة إلى لندن عبر روما، فإن الحصار شملنا ووقع الخيار من قبل الشركة البقاء في القاهرة أو النزول في روما حتى تنجلي الغبرة وتعود حركة الطيران إلى طبيعتها، ولما كانت روما أقرب إلى لندن اخترناها مرغمين لعلنا نجد وسيلة نقل أخرى غير الجو تعيدنا الى سكنانا، وكان ظننا أن الأمر لا يعدو عن يومين أو ثلاثة من الإنتظار ولكنه طال إلى أسبوع كامل حتى أذنت السماء بالطيران بعد أن استنفذت الرحلة منا آخر بنس (فلس) وألجأتنا إلى المبيت في المطار وافتراش الأرضية بقطع الكارتون مع الآلاف الذين تقطعت بهم السبل مثلنا.
على الرغم من الصدمة، لكن الرحلة القسرية إلى إيطاليا كانت ممتعة رغم ما وقع فيها من حوادث متعددة لم تكن بالحسبان تدخلت في بعضها شرطة روما وإقامة دعوى ومحضر، وقد توجست في أولها خيفة، وما أن خرجت من محطة القطار الذي أقلنا من المطار إلى مركز العاصمة روما وأنا ألتفت يمينا ويساراً على غير هدى لا ادري إلى أين يأخذنا الطريق وإذا بشاب مغربي مقيم يجيد لغة أهل البلد يضعه الله في طريقنا ونحن في حيرتنا فكان دليلنا إلى تهيئة السكن وأمور أخرى وزودنا برقم هاتفه للضرورة.
في الواقع كانت التجربة رغم المعاناة مفيدة، ووقتها تذكرت قوله تعالى: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) سورة البقرة: 216، وتراءى لي المثل المشهور: "رب ضارة نافعة".
استحضرت الحدث وأنا أتابع بالقراءة كتاب "الإسلام في إيطاليا" الصادر حديثاً عن بيت العلم للنابهين في بيروت للفقيه المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي، في 144 صفحة من القطع المتوسط، الذي قدَّم له وأعده للطبع الباحث الإيطالي الدكتور داميانو انجلو دي بالما (Damiano Angelo Di Palma) الشهير بالشيخ عباس انجلو دي بالما.
ظهور بعد ضمور
يعود الإحتكاك بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، أو بين ضفتي البحر الابيض المتوسط إلى بدايات القرن الأول الهجري، ويتكاثف الوجود الإسلامي العسكري في القارة الأوروبية في بداية القرن الثاني الهجري (بداية القرن الثامن الميلادي)، وكما خضعت إسبانيا للحكم الإسلامي خضعت جزر إيطاليا والجنوب الإيطالي للحكم الإسلامي، وتأسست الإمارات الإسلامية التي كانت تُحكم تارة مركزياً من دمشق وتارة من القيروان وثالثة من بغداد حسب قوة وضعف الحكم الذاتي في تلك الجزر والجنوب الإيطالي بالمركز الذي كان يتنقل بين هذه العواصم حسب قوة شخصية الخليفة ومساحة نفوذه.
هذه الصورة يتابعها الكرباسي في كتابه متخذا المنهج التاريخي وهو يوقفنا على ما مرت به عموم إيطاليا من احتكاك بين الإسلام والمسيحية، أي بين الحاكم المسلم والحاكم الكاثوليكي، الذي يبدأ بسنة 105 للهجرة (723م) وهي السنة التي حطت فيه أقدام أبو سعيد عبد الرحمان الغافقي المتوفى سنة 732م أرض إيطاليا بقواته وأسطوله البحري، وينتهي بسنة 591هـ (1194م) وهو العام الذي شهد سقوط الإمارة الإسلامية في جزيرة صقلية الإيطالية على يد هنري السادس (Henry VI) المتوفى سنة 1197م.
وحيث حكم المسلمون جانبا من ايطاليا لنحو خمسة قرون غابوا عنها لنحو ثمانية قرون، لتعود موجة المسلمين نحو إيطاليا، ولكن هذه المرة ليس باسطول حربي، وإنما بسفر بحري، أقله شرعي قانوني وأكثره غير قانوني، عبر قوارب اللجوء وزوارق الهجرة بخاصة الهجرة التي بدأت في سبعينات القرن العشرين وما زالت حتى يومنا هذا حتى تكاتفت الدول الأوروبية على اتخاذ الإجراءات المانعة دون جدوى، والحرب سجال بين المهاجرين وشرطة خفر السواحل، حرب فر وكر هوت فيها الكثير من الزوارق في قاع البحر بركابها.
ولا يخفى أن إيطاليا مع بقية الدول الأوروبية أعدت العدة في نهاية القرن التاسع عشر لاقتطاع مقاطعات ومدن الدول العثمانية، وتوجتها باحتلال ليبيا سنة 1911م، ولولا خسارة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية لما نالت ليبيا استقلالها سنة 1951م وخروج آخر إيطالي منها سنة 1970م، ولكن فترة الإحتلال كلفت الشعب الليبي عشرات الآلاف من الضحايا.
ثم تعود الكرة من جديد بالإتجاه المعاكس، ومع تزايد الهجرة الشرعية وغير الشرعية بتعبير لسان الإعلام الغربي، أو الهجرة القانونية وغير القانونية بتعبير لسان المشرع الغربي، وقد يتبادلان الوصف والإطلاق، فإن وجود المسلمين في إيطاليا وعموم القارة الأوروبية بات أمراً واقعياً، لكن أسباب الهجرة تختلف وإن كان قاسمها الأكبر هو البحث عن فرصة عمل جيدة في بلدان المهجر، وبتعبير الديبلوماسي الإيطالي ماريو سكيالويا (Mario Scialoja) (1930- 2012م) الذي أعلن إسلامه سنة 1988م عندما كان سفيراً لبلاده في الأمم المتحدة بنيويورك: (إنَّ معظم المهاجرين المسلمين هاربون من الفقر والإضطهاد، وجاؤوا إلى إيطاليا للعمل بحثاً عن شيء من الرخاء لهم ولأطفالهم).
وبات الإسلام كدين يشكل ثانية ديانة بعد الكاثوليكية، وهو ما يشير إليه معد الكتاب الدكتور داميانو انجلو دي بالما المولود في مدينة فلورنسا سنة 1980م، في مقدمته بقوله: (الإسلام في إيطاليا هو الديانة الأكثر شيوعاً، بعد المسيحية، قد بدأ وجوده في هذه الأرض في العقود الأولى من سنة 800 ميلادية).
أرقام متضاربة
ليست هناك أرقام ثابتة لعدد المسلمين في إيطاليا وجزرها في البحر الأبيض المتوسط، أو ربما يُراد لها أن تكون غير معلومة، ولكن من الثابت أن الأرقام تختلف بين فترة أخرى وبتعبير آخر تقفز قفزات غير طبيعية، ليس بسبب الولادات فحسب والأسلمة، وإنما بفعل الهجرات المتعاظمة للشباب المسلم بخاصة من شمال أفريقيا، هجرات يعمل خفر السواحل على الحد منها ولا أظنه بقادر على صد شاب مهاجر ركز نفسه بين اثنتين، بين الوصول إلى بر أوروبا او الغرق!
ولاشك أن ما نقرأه في نشرة إيطالية عن وجود مليون ومائتي ألف مسلم قد يكون صحيحاً في فترة، لأننا سنقرأ في نشرة أخرى عن وجود مليون وأربعمائة الف مسلم، وفي نشرة أخرى وفي سنة أخرى عن وجود مليون ونصف مليون مسلم، وآخر عن مليون وستمائة ألف نسمة بنسبة 3.7% من السكان، وآخر عن ميلونين وستمائة ألف مسلم بنسبة 4.3% من السكان، وأحدث إحصائية تتحدث عن 2.8 مليون مسلم بنسبة 4.5% من السكان البالغ عددهم نحو 60 مليون نسمة، وبفعل زيادة النمو السكاني بين المسلمين فإن الإحصائية تتوقع مع عام 2030م بلوغ نسبة المسلمين 5%، و10% في عام 2050م، وهو أمر أكثر من مقبول ويوعزه المحقق الكرباسي إلى أمور عدة أهمها:
1- هجرة المسلمين من أوروبا الشرقية بسبب أوضاعهم الأمنية.
2- هجرة المسلمين من شمال أفريقيا بسبب أوضاعهم الإقتصادية والسياسية.
3- إعتناق المثقفين الإيطاليين الإسلام لدى تعرفهم على مبادئه عبر المسلمين.
4- إعتناق الإيطاليات الإسلام من قبل المسلمين المهجرين بسبب الزواج.
إنَّ ما جاء به الكرباسي في النقطة الثالثة فيه جانب كبير من الصحة، ولكن ما أراه أن المثقفين من الإيطاليين وعموم الغربين تقبلوا الإسلام بعد قراءتهم لأدبيات الإسلام وتعاليمه ومبادئه، لإن الإعلام المضاد فاعل للغاية كما أن سلوك قسم من المسلمين المهاجرين لا يمكن أن يعكس واقع الإسلام مما يخلق فجوة بين المهاجرين وسكان المهجر، من هنا يقول الديبلوماسي الإيطالي المسلم ماريا سكيالويا وهو يروي قصة إسلامه: (لقد أخذت القرار بنفسي، واطلعت كثيراً وقمت بدراسة القرآن الكريم، وقد جذبتني إلى الإسلام هذه العلاقة المباشرة بدون وسيط بين الله والمؤمنين).
هذه الحقيقة يؤكدها سفير إيطاليا في الرياض توركواتو كارديللي (Torquato Cardilli) الذي أسلم سنة 2001م قائلا: (لقد بقيت أكثر من عشر سنوات متصلة في بحث عن الحقيقة، دون أن ينشغل ذهني وعقلي بالأكاذيب والمفتريات التي تم تلفيقها وإلصاقها بالإسلام والمسلمين ونبي الإسلام، فأقبلت على دراسة هذا الدين المنبوذ في الغرب للتأكد مما قيل له عنه.. تساؤلات كثيرة، كان لابد أن أتيقن من مصادرها الإسلامية، ووجدت إجاباتها واضحة جلية في مبادئ هذا الدين. لقد تأكدت أنَّ هذا الدين لا يدعو إلى الإرهاب ولا القتل ولا سفك الدماء، وإنما يدعو إلى السلام العالمي).
وهذه في الواقع رؤية مثقف غربي قرأ الإسلام واعتنقه عن دراية لا عن تقليد أو وصاية، ولهذا فإنه يوجه الدعوة إلى أمثاله في الغرب: (فلو أنصف عقلاء ومفكرو الغرب، ودرسوا الإسلام دون أفكار مسبقة عنه لوجدوا أنه دين الإنسانية كلها، يدعو إلى مكارم الاخلاق، ويحث على كل الفضائل)، وهنا يعود الديبلوماسي الإيطالي كما يفيدنا الكرباسي نقلا عن الاستاذ مفيد الغندور في كتابه: (الإسلام يصطفي من الغرب العظماء: 221- 222) ليؤكد على السلوك وأهميته في عكس واقع الإسلام معربا عن أسفه لأن: (مشكلة الشعوب الإسلامية أنها لا تقدر قيمة هذا المنهج الإلهي الذي بين أيديهم، ولو أنهم طبقوه كما طبقه أسلافهم لاستعادوا حضارتهم، ورجعت إليهم شوكتهم، ولاستردوا ماضيهم الذي سادوا به العالم كله).
ومع كل هذا يبقى الإسلام في نمو إن كان في إيطاليا أو في عموم أوروبا، ولهذا تزداد أعداد المساجد والمصليات، ففي السبعينات من القرن العشرين كان في إيطاليا أكثر من 400 مصلى في مرائب وكراجات وغرف وقاعات، ليصل إلى نحو 800 مصلى وتجمعاً للمسلمين حسب احصاء رسمي لعام 2016م، وبالطبع فإن المصلى غير المسجد والجامع المصرح به رسميا فهي قليلة للغاية لا تستوعب أعداد المصلين وبخاصة يوم الجمعة، ناهيك عن الحسينيات التي يقيم فيها المسلمون المراسم الحسينية بمناسبة ذكرى إستشهاد الإمام الحسين (ع) وهي مراسم كانت قائمة في الجزر الإيطالية في القرون الهجرية الأولى حسبما يفيدنا الكرباسي: (ففي قصر العزيزة الإسلامي في صقلية كانت الحكومة التابعة للفاطميين تعطل أيام تاسوعاء وعاشوراء لإقامة المآتم الحسينية، وفي ليالي الغدير لإقامة الإحتفالات بإمارة أمير المؤمنين (ع) ويشاركهم في ذلك آلاف الصقليين الذين أسلموا على العهد الفاطمي، وبقي الأمر مستمراً إلى أن قضى صلاح الدين الأيوبي على الفاطميين، فسقطت صقلية وجنوب إيطاليا حينئذ في أيدي النورمان).
المعكرونة والشعيرية!
ما من بلد حلَّ فيه الإسلام والمسلمون إلا وترك فيه أثراً حتى وإن خرج منه مكرهاً، لأن ما جاء به متناغم مع العقل والفطرة ويدعو إلى العلم والتطور، ويصنف الكرباسي تأثيرات المسلمين على إيطاليا، مشيراً إلى أهم حقولها: (1) الزراعة والري، (2) الثروة الحيوانية، (3) الصناعة، (4) التجارة، (5) الأغذية، (6) الإقتصاد والنقد، (7) المعارف والعلوم.
ويستعرض الكرباسي باختصار معالم من الحضارة الإسلامية وفضلها على ايطاليا وعموم أوروبا لنكتشف على سبيل المثال في باب الأغذية أن أكلة "المعكرونة" أو "الباستا" التي اشتهرت بها إيطاليا ناهيك عن البيتزا هي أكلة عربية وإن اشتهرت الصين أو اليابان بإسم "نودلز"، فالإيطاليون أخذوها من العرب ثم قاموا بتصديرها إلى عموم أوروبا والدول العربية، وكانت تعرف عند المسلمين الأوائل بـ (الشعيرية) أو (الأطرية) أو (الرشتة).
في الواقع يضم كتاب "الإسلام في إيطاليا" المقتطع أصلاً من الجزء الثالث من كتاب: (معجم المشاريع الحسينية) الصفحات: 3410 402، الكثير من المعلومات التاريخية والحديثة عن إيطاليا وقد ازدان بهوامش وتعليقات أضفت على متن الكتاب قيمة معرفية، مما يجعله مادة غنية لبيان العلاقة التاريخية بين الدول المتشاطئة على ضفتي ساحل البحر الأبيض المتوسط.
اضف تعليق