يمثل هذا الكتاب وجهة نظر بديلة للعلمنة، حيث يجادل بأن الفكر العلماني يعتمد بشدة على الافتراضات المسيحية، إلى درجة لا يمكن معها استيعاب الأخلاق الليبرالية والأخلاق الغربية الحديثة إلا باعتبارها إرثًا مسيحيًا. ويفند وجهة نظر الباحثين الذين يعلنون انتهاء المسيحية، ويرى أن العلمانية لا تمثل نهاية المسيحية...
صدر عن سلسلة "ترجمان" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب تاريخ موجز للعلمانية، وهو ترجمة مصطفى منادي إدريسي العربية لكتاب غرايم سميث بالإنكليزية A Short History of Secularism. يمثل هذا الكتاب وجهة نظر بديلة للعلمنة، حيث يجادل بأن الفكر العلماني يعتمد بشدة على الافتراضات المسيحية، إلى درجة لا يمكن معها استيعاب الأخلاق الليبرالية والأخلاق الغربية الحديثة إلا باعتبارها إرثًا مسيحيًا. ويفند وجهة نظر الباحثين الذين يعلنون انتهاء المسيحية، ويرى أن العلمانية لا تمثل نهاية المسيحية، ولا أنها تدلّ على إلحاد الغرب؛ بل يجب النظر إليها باعتبارها التعبير الأحدث عن الديانة المسيحية، وعلى أنها الأخلاق المسيحية مفصولة عن عقيدتها.
يوفر الكتاب (تسعة فصول في 276 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) للقارئ خريطة واضحة للعلمانية كما هي في الفكر الغربي، فيتناول الأنماط الرئيسة للانخراط الديني وفك الارتباط داخل المجتمع الغربي، إضافة إلى الهوية المسيحية والدين الشعبي والحياة المسيحية القروسطية، والمسيحية الفيكتورية، وتأثير عصر التنوير، ومحاولات الناس العاديين معاودة ابتكار المسيحية، والمعتقدات الدينية والأخلاق المسيحية المعاصرة.
العلمانية الغربية
في الفصل الأول، "العلمانية الغربية"، يقول سميث إن دراسة العلمانية المعاصرة تقتضي دراسة هوية المجتمع الغربي الثقافية والدينية. وفي هذا المجال تتاح خيارات عدة للباحثين الذين يسعون إلى مباشرة مثل هذا البحث. فربما يستعملون الآليات السوسيولوجية، وقد أَنجز الكثيرون ذلك بفاعلية، أو النظريات الثقافية، أو التحليل التاريخي.
يعتمد سميث في مقاربته العلمانية على أربع أفكار: الأولى، ظلّت المسيحية دائمًا ديانة ذات هوية مرنة ومتطورة - فنمط تاريخها متغير؛ والثانية، كانت المسيحية القروسطية تعمل بطرائق مشابهة تمامًا للدين الغربي المعاصر - والتشابهات كالاختلافات، لافتة هنا. والثالثة، كان انفصال الأخلاق المسيحية عن العقيدة المسيحية أهم حدث ثقافي وفكري في عصر التنوير - وما تبقى هو الأخلاق التي تمارس بطريقة مسيحية؛ والرابعة، كانت الحقبة الفيكتورية استثنائية في ما يخص النشاط الديني - فهي لم تكن على الإطلاق زمنًا عاديًا بالنسبة إلى الكنيسة.
يقول سميث: "تشكل مناقشتي أفكاري المركزية الأربعة أساس هذا التاريخ للعلمانية. قد يبدو أنني بتركيزي الكبير على الديانة المسيحية أسأت إلى فرادة الأيديولوجيا العلمانية وشموليتها، وتلك مخاطرة. ومهما يكن الأمر، فإن التركيز على الطبيعة الملأى بالمفارقات للاعتقاد المعاصر باعتباره مسيحيًا وعلمانيًا في الآن نفسه، لا يقر فقط بالتاريخ المشترك لهذين النسقين الفكريين، وإنما يقر بأهميتهما المشتركة بالنسبة إلى فهم هوية الغرب أيضًا".
التقانة الجديدة
يبدأ سميث الفصل الثاني، "العلم: التقانة الجديدة"، بالقصة التقليدية المتعلقة بنشأة العلمانية، التي تؤكد أنه في نزال الأفكار بين النزعة الطبيعية ونزعة ما فوق الطبيعة، كسبت العلوم النزال. وفي المجال العام، اكتسبت العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية صدقيتها. وفي أحسن الأحوال، بقي الاعتقاد الديني مسألة رأي خاص. وبذلك، أماط النقاب عن مشكلتين تقليديتين تتعلقان بصمود الدين على الرغم مما يفترض عن انتصار العلمانية. تفيد المشكلة الأولى أن للمسيحية شأنًا مهمًا في الحروب الثقافية البارزة التي تُخاض في السياسة الأميركية. أما الثانية فتؤكد أن معظم المسيحيين قادرون على الجمع بين إيمانهم الديني والمعرفة العلمية، وفي بعض الحالات، بين إيمانهم ذاك وخبرتهم الشخصية الواسعة.
بحسب سميث، تتطلب هاتان الصعوبتان رواية مختلفة عن الصراع بين العلمانية والعلم من جهة، والمسيحية من جهة أخرى. وفي الرواية المعدلة أكد أن العلم حل محل الدين؛ فصار بذلك التقنية الأنجع في المجتمع الغربي. يتفوق العلم على الدين من الناحية الوظيفية، ويفسر الطبيعة والحياة الإنسانية تفسيرًا أفضل. مع ذلك، لم يطور العلم حتى الآن نهجًا أخلاقيًا ملائمًا، ولهذا لم يستطع العلم أن يقوم مقام المسيحية في ميدان الأخلاق.
علمانية وتاريخ اجتماعي
في الفصل الثالث، "العلمانية والتاريخ الاجتماعي"، يبدأ سميث بتقديم الإحصاءات التي تستعمل عادة في ما يتعلق بتراجع الكنيسة، ويلي هذا كشف التفسيرات المختلفة للعلمنة الغربية. فنظريات ستيف بروس المتعلقة بالتحديث، خصوصًا تلك المتعلقة بالتفكك الاجتماعي ونهاية الجماعة والعقلانية التقنية، هي نقطة البدء في هذا الاستقصاء. لقد اعترض عدد من الباحثين على تفسير بروس، فأكدوا أن ما يفسره الرجل هو تراجع الكنيسة، لكن هذا يختلف عن تراجع الإيمان المسيحي.
يضيف سميث أن هناك مجموعة إضافية من التساؤلات يثيرها عمل كالوم براون الذي يؤكد أن التراجع الكبير في الحياة الكنسية بدأ خلال ستينيات القرن العشرين، وهو نتيجة الأربعين سنة الأخيرة. يفضل براون التفسير الذي يهتم بهوية النساء المتغيرة. ولهذا التفسير صلة بالتصنيع والتمدين اللذين سادا المجتمع الغربي.
يقول سميث: "يتحدى عمل براون تحليل بروس تحديًا جوهريًا. وعلى الرغم من أننا انتهينا إلى الصورة ذاتها عن تراجع الكنيسة، فإن المسار الذي قاد إلى ذلك كان مختلفا جدًا. فقد اعتمد براون على الدليل الثقافي والإحصائي لدعم تحليله القائل إن ستينيات القرن العشرين كانت فترة حاسمة لفهم انهيار الانتماء إلى الكنيسة والتردد عليها. وما يتضح أيضًا من عمل براون أن الحقبة الفيكتورية نفسها كانت فترة نشاط ديني استثنائي. وسيبدو، بالمقارنة مع هذه الحقبة، أن معظم الحقب تظهر نمط التراجع الكنسي".
إعادة ابتكار المسيحية
في الفصل الرابع، "الناس العاديون يعيدون ابتكار المسيحية"، يبحث سميث في فكرة أن الناس العاديين يعيدون ابتكار المسيحية، ويبين أن تاريخ المسيحية كان دائمًا تاريخ تحول وإعادة ابتكار، "وما نصفه على أنه ظاهرة من القرن الحادي والعشرين هو في الواقع جزء عادي من حياة الكنيسة".
بحسب سميث، انتشرت المسيحية، تاريخيًا، بخضوعها للصياغة وإعادة الصياغة في ثقافات مختلفة. لذا يركز هنا على الكنيسة المبكرة، ليبين أن إعادة الابتكار كانت جزءًا لا يتجزأ من حياة الكنيسة منذ بدايتها. بعد ذلك يورد بعض المشكلات التي تنشأ إذا كان لدينا مثل هذه الفكرة المرنة عن الهوية المسيحية وبعض ما يواجهها من تحديات.
تشمل دراسة سميث البحث في ما إذا كانت شخصية المسيح التاريخية توفر أرضية مستقرة لبناء الهوية المسيحية، والبحث في إمكان كون المسيحية شاهدًا أمينًا في مجتمع كان هو الذي شكّل هذه الهوية. يقول: "يمثل البحث في يسوع التاريخي محاولة لتفكيك الحواجز التي نصبها التاريخ؛ إنه سعي إلى ردم الهوة التي تفصلنا عن المعايير الاجتماعية والسياسات والديانات والثقافات الغريبة. وهو محاولة لإحداث انسجام بين اللغات المتنافرة كي نستطيع معرفة المقصود أصلًا، حتى لو تم قوله وفعله في أزمنة وأمكنة لا يمكننا أن نتصورها".
كنيسة وحج
يعالج سميث في الفصل الخامس، "الذهاب إلى الكنيسة والحج في العصور الوسطى"، مجالين مهمين للمقارنة بين الغرب في العصور الوسطى والغرب المعاصر. القضية الأولى المثيرة للجدل هي قضية الذهاب إلى الكنيسة، والقضية الثانية هي مكانة الإيمان بما فوق الطبيعة في المجتمع القروسطي.
برأي سميث، إن الذين يقترحون علمنةً طويلة الأمد شملت الغرب لَيؤكدون أن الناس خلال العصور الوسطى كانوا يترددون إلى الكنيسة بشكل شامل تقريبًا. إضافة إلى ذلك، هيمنت على حياتهم وجهة نظر ما فوق الطبيعة عن العالم. ويقترح في رده على هذه الصورة تعديلين مهمين: الأول، أن من المشكوك فيه جدًا أن الجميع كانوا يذهبون إلى الكنيسة، "ففي الواقع، يمكننا أن نؤكد بشكل معقول أن شرائح واسعة من السكان لم تكن تذهب، ولا سيما الفقراء. علاوة على ذلك، لم يكن الذين يترددون إلى الكنيسة متدينين بالضرورة أو بصورة خاصة". أما التعديل الثاني فهو أن الرأي العام الذي يدعي أن الغرب ما عادت لديه وجهة نظر ما فوق الطبيعة، أي وجهة نظر العصور الوسطى، وهذا تعليق يحتاج إلى تنقيح. فما فُقد هو الدور الخاص الذي مارسه الإيمان بما فوق الطبيعة، أي تفسير الظواهر الطبيعية مثل المرض والعواصف. وهذه وظيفة محدودة بات العلم والتقنية ينهضان بها الآن.
يقول سميث: "على الرغم من تحول الدور هذا، فإنه لم يتزامن مع تراجع الإيمان بالله؛ ومنذ نشأة العلم الحديث، حدثت أحيانًا فترات شهدت زيادة في الإيمان والنشاط الدينيين. وما يوحي به هذا الأمر، أولًا، أن المسيحية قادرة على التغيير حالما يتغير السياق المحلي الذي توجد فيه. ثانيًا، لا ترتبط مرونة الإيمان المسيحي أو غيرها في المجتمع الغربي ارتباطًا مباشرًا بانتشار وجهة النظر الفائقة للطبيعة التي ترجع إلى العصور الوسطى".
قروسطية ومعاصرة
في الفصل السادس، "الحياة المسيحية القروسطية والحياة المسيحية المعاصرة"، يسلط سميث الضوء على سمات مشتركة بين الهوية الدينية الغربية المعاصرة ومسيحية العصور الوسطى. برأيه، يتميز المجتمعان على حد سواء بوجود معرفة تقنية بالدين الشعبي، ويشترك معظم السكان في هذه المعرفة. إنها تختلف عن العقيدة الأرثوذكسية الرسمية للكنيسة وعن المؤسسة اللاهوتية الأكاديمية. وكثيرًا ما تفتقد المؤسسة قيمتها وأهميتها، لكنها تظل مصدرًا قويًا بالنسبة إلى الناس في سعيهم إلى الاطمئنان والأمن.
يقول سميث: "إلى جانب الدين الشعبي هناك أيضًا فكرة الدين بالإنابة التي تمارس تأثيرها. ذلك أن أغلبية الناس تتوقع أن ينجز الآخرون وظيفة دينية معينة نيابة عنهم. ولا يتوقع هؤلاء إنجاز هذه الممارسة الدينية بأنفسهم، لكنهم يراقبون من ينجزها حتى يتأكدوا من أنها ستتاح لهم حين يحتاجون إليها".
في النهاية، يلاحظ سميث الأساس الأخلاقي للمجتمع القروسطي، فيجد فيه اهتمامًا بالأضعف والأفقر، ولا يزال هذا الاهتمام الأخلاقي قائمًا بعد أن ضعفت ممارسة الدين بوجه عام ضعفًا شديدًا، كما هي حال المجتمع الغربي. فلا معنى لأخلاق المجتمع الغربي إلا في ضوء التراث المسيحي.
تأثير التنوير
يؤكد سميث في الفصل السابع، "تأثير التنوير"، أن للأخلاق الليبرالية هوية مسيحية، نظرًا إلى فردانيتها الأساسية، "وقد رأينا كذلك حضور الأخلاق المسيحية الواسع في المجتمع الغربي من خلال دراستنا البديل العدمي. ومعنى ذلك عندما يسعى المجتمع العلماني إلى أن يكون أخلاقيًا، فإنه يظل معتمدًا على أفكار ومصادر مسيحية. فالمسيحية ما فتئت تتمتع بحضور متواصل داخل المجتمع العلماني الغربي".
برأي سميث، تستمر هذه الأخلاق المسيحية، جنبًا إلى جنب، مع الذهنية العلمية. وقد ظهرت هذه الذهنية خلال حقبة التنوير، وكان ذلك، إلى حد بعيد، نتيجة إبداعات إسحاق نيوتن الاستثنائية، الذي انتشرت آراؤه بفضل فولتير وتبناها علماء الاجتماع والفلاسفة وعلماء الطب والعلماء الطبيعيون، "فالتنوير في الأغلب كان معاديًا للإكليروسية وللكنيسة، لكن الأفكار المسيحية نجت من التحول إلى الإنسانوية. هكذا وفيما نقترب من الحقبة المعاصرة، نجد فكرة عن أناس العصر الحديث الذين يتمتعون بقدرة الاحتفاظ بمجموعتين من المعتقدات معًا. ففي تقنيتهم كانوا علميين، وفي أخلاقهم مسيحيين".
بيوريتانية أخيرة
في الفصل الثامن، "العصر البيوريتاني الأخير"، يبيّن سميث كيف كانت الحقبة الفيكتورية زمنًا شهد دعم الكنيسة وحضورها بشكل استثنائي. فقد كان القرن التاسع عشر ذروة في تاريخ المسيحية المتموج، وكان السبب هو الجهد الهائل الذي بذلته الكنيسة في التبشير. وهي ركزت على أداتين بارزتين للتبشير: الزيارة المنزلية وكراسات الدعاية الدينية. وكانت هاتان الأداتان جزءًا من ثقافة أوسع جلبت الناس إلى الكنيسة بأعداد كبيرة.
إلى جانب هيمنة الثقافة المسيحية الإنجيلية، يقول سميث إن العلمانية المنظمة أخفقت في تثبيت موطئ قدم مهم في الثقافة الغربية، "فكانت المجتمعات العلمانية ثانوية في الحياة الاجتماعية، كما لا تزال حتى في زماننا هذا. كان تأثير الأفكار في المجتمع أهم. غير أن ما بينته هو القدرة اللافتة للمسيحية على تبني تقريبًا أي مجموعة من الأفكار والمعتقدات وتحويلها".
في النهاية، يقف سميث عند إعلان نيتشه، السابق لأوانه، موت الإله، ويؤكد أن نيتشه كان محقًا من ناحية واحدة، أعني أن الإيمان بالله يستمر جنبًا إلى جنب مع الاهتمام بالأخلاق.
مجتمع الأخلاق
في الفصل التاسع والأخير، "مجتمع الأخلاق"، يقول سميث إن إحدى السمات الغريبة التي تميز المجتمع العلماني هي أن الأغلبية فيه تؤمن بالله، وتعبير الغربيين عن الإيمان مسألة جدية. ويرى أن الثقافة المسيحية تغيرت منذ الحقبة الفيكتورية، فهي الآن أقل هيمنة، وتقريبًا في كل أنحاء الغرب قلَّ عدد الذين يترددون إلى الكنيسة. لكن الحقبة الفيكتورية كانت استثنائية في مستويات ولائها العالية للكنيسة، "وما حدث هو أنهم وصفوا هذا الهبوط بأنه تراجع المسيحية. وقد أكدت، على نقيض ذلك، أن من الأنسب اعتباره رجوعًا إلى مستويات أكثر اعتيادية للإيمان والممارسة الدينيين".
بحسب سميث، تتكيف المسيحية وتتغير مع ظروفها المستجدة التي تلت الحقبة الفيكتورية. ولهذه المسيحية الجديدة سمات مميزة محددة، فالناس يميلون إلى اعتماد مبدأ الإنابة في ممارستهم لإيمانهم، ومعرفتهم بالمسيحية لا تتخطى حدود حاجاتهم الخاصة، "ويواصل الناس الاعتماد على الإيمان بالله وعلى حضور مسيحي كي يحفزوا اهتمامهم بالأخلاق ويلهموه. هذه السمات مجتمعة تؤلف ما سميناه مجتمع الأخلاق. وهذه هي الهوية الثقافية والدينية المهيمنة على المجتمع العلماني الغربي".
اضف تعليق