صارت إلى الحرية المقيدة اقرب منها الى الحرية المطلقة وذلك بفعل الحدود الإدارية التي تسالمت عليها المجتمعات القديمة والتي تحولت إلى حدود إدارية سياسية وخطوط وهمية مرسومة على الخارطة تحولت فيما بعد إلى حدود واقعية حالت دون انتقال الناس بين بلدين إلا بورقة عبور أو جواز سفر....
دلت تجارب الأمم، أن العدوان العسكري يمكن دفعه بالإرادة والقوة وتنظيم الصفوف، فقوات الإحتلال مهما أوتيت من قوة لا يمكنها أن ترسِّخ أقدامها في أرض لينة يرفضها شعبها ويتحين الفرص للفظها عن حريم أرضه، بخاصة مع شعب يرى في الموت من أجل الوطن عزة في مقابل قوة عدوانية تجد في الأرض المحتلة مرتعا لها، والذي جاء يبحث عن الغنيمة يحب الحياة ولكن دون أن يموت دونها وإلا فلا معنى للحياة عنده، والذي يسعى لدفع غائلة العدوان العسكري يعشق الموت دون أن يتوارى خلف الصفوف، وإلا فلا معنى للحياة عنده دون الإستقلال.
وهذه المعادلة المتوازية الخطين يدرك مغزاها المحتل المعتدي الذي يتنمّر للغُنم ويفهمها الشعب الذي وقع عليه الإعتداء الذي يتنادى لمنفذ للخروج من دائرة الغُرم، ومن ديدن المحتل أن يظهر للآخر أنه الأقوى في كل شيء والأكبر في كل شيء والأفضل في كل شيء، محاولا في كل خطوة يخطوها أن يُشعر الشعب المحتل أن له اليد الطولى في كل صغيرة وكبيرة، وبتعبير آخر محاولة لغسل أدمغة الشعب المحتل وإشعاره بضعفه وضآلة حجمه وخطره، واحتياجه لكبير ينظم أموره وحياته السياسية والإقتصادية والإجتماعية وما أشبه، وهو يحاول في أحد أوجه الإحتلال والعدوان تطبيق القاعدة الشعبية التي تتغنى بها بعض الشعوب العربية والإسلامية "اللي مالو كبير يشتريلو كبير" أي الذي ليس له كبير عليه أن يجد له كبيرا أو يشتري له كبيرا، فيأتي الإحتلال الأجنبي ليحل محل هذا الكبير الذي يتصيَّده المواطن للتعكز عليه!
ولأن المحتل يسعى لأن يبقى كبيرا ومهولا في الأنظار، فإنه يحرص على خلق هذه الأفضلية بخاصة مع شعب رضع من ثدي أدبياته ومعتقداته حب الحرية ورفض الآخر من غير ما يعتقد به ويدين به، أي أن المحتل يبحث عن خلق هذه الأفضلية ولو بالكذب والتحايل على الواقع، ومن ذلك الواقع الجغرافي، حينما يكون البلد الغازي صغير الحجم من حيث الحدود الإدارية والبلد المحتل كبير الحجم، لكن الأول نجح بقوته ومهارته وحجم مؤامرته وتجاوزه للقيم الإنسانية والأعراف الدولية وفشل الثاني بقلة حيلته وضعفه العسكري والسياسي.
وينقل في هذا المقام أن المحتل البريطاني عندما غزا العراق في الحرب العالمية الأولى واحتل العاصمة بغداد سنة 1917م، كان شديد الحرص على إظهار قوته وكبر حجمه بشتى الطرق لإبقاء نفوس العراقيين على ضعفها وإقناعهم لا شعوريا أن المحتل أكبر منهم في كل شيء، ومن ذلك كبر حجمه الجغرافي، فالعراقي الذي مساحة أرضه الجغرافية 438 ألف كيلا عليه أن يقنع في داخله أن بريطانيا العظمى التي مساحة أرضها الجغرافية 242 ألف كيلا هي الأكبر.
أما كيف ذلك؟ وواقع الجغرافية تكذب الأحدوثة البريطانية؟
كان المحتل البريطاني من ضابط أو مندوب او معتمد يعلق في جدار دائرته في بغداد أو المحافظات العراقية الأخرى خارطتين واحدة لبريطانيا والثانية لخارطة العراق، ويحرص أن تكون خارطة بلده أكبر من خارطة العراق بمرتين أو أقل أو أكثر رغم أن العراق جغرافيا هو ضعف جغرافية بريطانيا، على أنه رسم خارطة بريطانيا بإحداثية أكبر والعراق بإحداثية أصغر ليبدو للسياسي العراق أو المواطن العراقي الداخل على الحاكم البريطاني أن بريطانيا هي بريطانيا العظمى التي لا يغيب عنها الشمس، أي محاولة دونية للمحتل لخلق الدونية في نفس المواطن العراقي حتى يرضى بالقدر الذي رسمته ريشة المحتل.
هذا الواقع السيء من التلاعب بالمشاعر عبر التلاعب بالخارطة الجغرافية استذكرته وأنا أتابع كتيب "شريعة الحدود" الجغرافية للمحقق الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر في بيروت نهاية العام 2019م عن بيت العلم للنابهين في 56 صفحة ضم 75 مسألة شرعية مع 30 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، إلى جانب كلمة للناشر وأخرى للمعلق وثالثة للمصنِّف مهَّد لأحكام الحدود.
هوية وحدود
من المقطوع به أن الحرية قاعدة فطرية، فلم يخلق الله الإنسان حرا وعبدا، وإنما تقلبات الزمان والأحوال وما تنفثها نفس الإنسان من شرور، خلقت في سجل البشرية أحرارًا وعبيدا.
ومن مستحقات الحرية أن يتحرك الإنسان في شرق الأرض وغربها دون أن يردعه رادع أو يحجر عليه حاجر، فالإنسان وما يشاء، ولكن هذه المشيئة مع مرور الزمان ونشوء المكونات البشرية التي اكتسبت مع الزمن هوية عرقية أو دينية أو جغرافية وما شابه ذلك، صارت إلى الحرية المقيدة اقرب منها الى الحرية المطلقة وذلك بفعل الحدود الإدارية التي تسالمت عليها المجتمعات القديمة والتي تحولت مع القرن التاسع عشر الميلادي إلى حدود إدارية سياسية وخطوط وهمية مرسومة على الخارطة تحولت فيما بعد إلى حدود واقعية حالت دون انتقال الناس بين بلدين إلا بورقة عبور أو جواز سفر.
والحدود كما يتناول الفقيه الكرباسي في التمهيد هي على أربعة أنواع:
(1) الأحكام الشرعية: التي وضعها الله ليميز الإنسان بين ما هو محرَّم وما هو جائز.
(2) الأحكام الجزائية: التي تُجرى على المخالفات كحد السرقة والزنى والإفساد في الأرض.
(3) الحدود السياسية: التي توضع بين الدول لتمييز حدود كل بلد بريا وبحريا.
(4) الحدود الإدارية: التي تقطع البلد الواحد إلى مقاطعات ومدن وبلدات وأحياء لأجل أمور إدارية.
فالحدود التي تضعها السياسة الظالمة هي مرفوضة عند المشرع المسلم، بل ولكل ذي لب، لأنها تحد من حرية الإنسان وتنقله، وحيث أخذت كل أمة هويتها فإن الحدود الإدارية التي وضعت من أجل تنظيم الحياة هي مقبولة أما إذا تحولت إلى حدود للتمييز داخل البلد الواحد أو شعوب الأمة الواحدة فهي مرفوضة، من هنا يرى الفقيه الكرباسي: (إنَّ الحدود الإدارية التي توضع بين الدول الإسلامية أو بين الأراضي الإسلامية والأراضي غير الإسلامية، فهذه ضرورة بمكان، حيث إنَّ أي تعدٍّ من قبل غير المسلمين يستوجب الصد لهم)، فالأصل في وضع الحدود كما يفهم من سياق الأحكام التي جاءت في "شريعة الحدود" هو التنظيم، من هنا يؤكد الشيخ حسن رضا الغديري في تعليقه أن الحدود الإدارية إذا كانت: (لأجل تنظيم أمور الشعب وسهولة الإدارة والإستفادة من المنابع الطبيعية للقاطنين في المنطقة فلها عبرة واعتبار وقيمة وآثار)، كما: (للإنسان الحرية الكاملة في الإستفادة أو الإستمتاع من النعم الوجودية في الحياة ولا يحق لاحد إيجاد المانع له في ذلك فردًا أو حاكمًا، شخصًا أو نظامًا، فالحدود المفترضة إذا أصبحت ذات أهمية واعتبار فلا يجوز التجاوز عليها إلا بمبرِّر حقيقي من الشرع أو اعتباري من القانون، وذلك لأجل الحفاظ على الشخصية الحقيقية أو الحقوقية).
حدود ووظيفة
من خلال قراءته للواقع الجغرافي والسياسي والإداري للحدود الإفتراضية أو الحقيقية، يرى الفقيه الكرباسي في التمهيد وجود معايير عدة ومختلفة تفرض الحدود بين الشعوب لخصها في التالي:
أولا: المعيار الطبيعي: كالفواصل الجغرافية من قبيل البحر أو النهر أو السلسلة الجبلية وما شابه.
ثانيا: المعيار القومي: مثل بلد فيه قوم من جنس واحد، على سبيل المثال آذربايجان حيث يسكنها الآذريون الأتراك.
ثالثا: المعيار العقائدي: حيث يجمع البلد الواحد دين واحد فتتشكل الدولة على أساسها مثل باكستان الإسلامية بعد انفصالها عن الهند الهندوسية.
رابعا: المعيار الهندسي: إشارة إلى الحدود الجغرافية التي فرضها المحتل الأجنبي كالحدود بين السودان ومصر.
خامسا: معيار القوة: وهو خاضع لمنطق القوة التي تفرضها كتلة بشرية على أخرى فتزحف على موطن الأخرى وتفرض وضعا جديدا، وهو منطق التوسع.
وربما تداخلت المعايير لفرض واقع مرفوض كما هو الحال في فلسطين المحتلة.
ويواصل الفقيه الكرباسي في "شريعة الحدود" الجغرافي بيان الوظائف المترتبة على الحدود المقامة ولخَّصها في خمس:
1/الوظيفة الأمنية: أي قيام الدولة بحماية البلاد والعباد على المستوى الداخلي وفرض الأمن المجتمعي.
2/ الوظيفة الإقتصادية: الإستفادة من الطبيعية في داخل الأرض وعلى سطحها ومائها من أجل صالح البلاد والعباد.
3/الوظيفة العسكرية: قيام الدولة بحماية الداخل من خلال مراقبة الحدود وردع الآخر.
4/الوظيفة الثقافية: إشاعة ثقافة حب الوطن بحدوده القائمة والإنتماء إليه، لأن الحب يوحد المجتمع المختلف العرقيات والمعتقدات واللغات، وفي الحديث النبوي الشريف: (حب الوطن من الإيمان).
5/الوظيفة العلاقاتية: إشارة إلى الروابط السياسية بين البلدان لخلق التقارب بين الشعوب.
وهم الحدود
ومع أن الحدود المضروبة بين الدول القائمة اليوم باعتبار المعاهدات الدولية: "تُعدُّ محترمة يجب الإلتزام بها اعتمادًا على التوافقات بين الدول" كما يشير الفقيه الكرباسي، لكنه: "في الأساس لا يجوز ترسيم حدود بين المناطق الإسلامية ومنع المسلمين من التجوال والانتقال من منطقة إسلامية إلى أخرى"، نعم: "يجوز ترسيم الحدود بين الدولة الإسلامية وأخرى غير الإسلامية حيث يترتب عليها أحكام شرعية"، ويرى الفقيه الغديري الوجوب في تعليقه على المسألة: (بل وقد يجب بوجوه، إذا كان الأمر لا يتنافى مع المصالح الإسلامية).
وعندما يضع الفقيه الكرباسي مائزًا بين الحدود الإدارية والحدود السياسية فإنه يذهب إلى أنه: "يجوز تحديد البلاد الإسلامية إداريا إلى مناطق وأقطار ولكن لا يجوز تقسيمها سياسيا وما هو عليه اليوم وهو غير شرعي).
وحيث الحدود السياسية قائمة داخل البلدان الإسلامية فهل يصح تجاوزها بسبب الحرمة الشرعية إبتداءً؟ يضيف الفقيه الكرباسي: "ولكن لا يجوز خرقها لا لشرعيتها بل لوجوب دفع الضرر عن النفس حيث إن المُخترق لها فيما ليس فيه فساد جائز، إلا إنه يعاقب عقوبة قد تصل إلى الإعدام أحياناً)، ولهذا السبب ينبغي عدم تجاوز الحدود لتفادي الوقوع في المحذور، وقد تدفع الظروف بالمرء فردًا أو جماعة إلى عبور الحدود إضطرارًا كما في المطاردة السياسية أو أثناء الحروب الداخلية، ويبقى على دول الجوار تفهم الواقع واستقبالهم ليسوا كلاجئين بل كمسلمين لأن اللجوء في العرف الإسلامي يطبق على غير المسلم.
وحيث كان العالم الإسلامي إلى ما قبل ترسيم الحدود الدولية عالما واحدا تقسمه الحدود الإدارية التنظيمية دون السياسية، فإن الفقيه الكرباسي يرى: "أن لا إشكال إذا عُدت هذه الحدود الدولية بين الدول الإسلامية حدودًا إدارية شرط أن يُترك للمسلم حرية الإنتقال إليها والعمل فيها كما في قطره"، ويضرب بذلك مثلا: "الإتحاد الاوروبي حيث ينتقل أهل كل قطر ودولة إلى أخرى ويعمل أينما شاء ويسكن حيثما أراد".
وبشكل عام فإن العقل يحكم بالوحدة على التفرقة، والحدود الإدارية مسألة تنظيمية لا تخالف الوحدة داخل الإطار المجتمعي الواحد، بل إن الدعوة إلى الوحدة في إطار التعاون على البر والتقوى هي قيمة إنسانية وعرفية وإسلامية وأكثر من ذلك كما يفيد الفقيه الكرباسي: "يرى الإسلام أن ثروات العالم توزع على العالم وأنَّ ما يصيب الإنسان في الشرق يصيب الإنسان في الغرب، ولابد من النظر إلى الآخر من منظور: الناس صنفان إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق" كما نوَّرنا بذلك خليفة المسلمين علي بن أبي طالب (ع) في رسالته إلى واليه على مصر مالك الأشتر النخعي.
اضف تعليق