ففي الحقيقة أن الفرق بين التغريب والحداثة صعب، وإذا قلنا أن دولة حققت الحداثة على أساس رفضها التام للتغريب كأن نقول أن هناك إنسانا شبعان مرتويا في حالة رفضه التام لتناول أي طعام، فالكلام هنا يناقض نفسه!!!...
العالم الغربي أو الغرب مصطلح متعدد المعاني وفقاً لسياق الحديث (أي حسب الفترة الزمنية والمنطقة والحالة الاجتماعية) وعليه فإن التعريف الأساسي لما يشكل "الغرب" متنوع حيث يتوسع ويتقلص مع الزمن وفقاً للظروف التاريخية المختلفة. يعود مفهوم الغرب أو العالم الغربي في جذوره إلى الحضارة اليونانية والرومانية في أوروبا وظهور المسيحية والانشقاق الكبير في القرن الحادي عشر الذي قسّم الدين إلى شطرين شرقي وغربي. وتأثرت الثقافة الغربية في العصر الحديث بشكل كبير بتقاليد الثقافة المسيحية وعصر النهضة والتنوير، وتشكلت من سمات أهمها النزعة التوسعية الاستعمارية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واستخدم هذا المصطلح من طرف الإتحاد السوفياتي (سابقا) وحلفائه خلال الحرب الباردة ضد أعدائهم من منتصف القرن العشرين حتى وقت متأخر من القرن.
في السياق السياسي والثقافي المعاصر يشير مصطلح العالم الغربي بشكل عام إلى دول الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وأوروبا الوسطى وأميركا اللاتينية وإسرائيل وجنوب أفريقيا، وتحرّك هذه اللفظة أو التسمية العديد من المعاني في ذهنية المتلقي، لكنه سرعان ما تحيله إلى الغرب من حيث الثقافة والسلوك وأنواع التفكير، بحيث يستطيع أي مهتم أو متابع أن يفرّق بين مصطلحين نقيضين (ثقافة وتفكير وربما سلوك في بعض المناطق) تتركز في الشرق.
يتبادر إلى الذهن مع الغرب مصطلح آخر هو (العولمة)، وتعني هذه المفردة فيما تعنيه بشكل أساس توحيد العالم، أو جعله ذا نمط واحد، ويحذو حذو نموذج واحد هو الغرب تحديدا، وقد سعى العالم الغربي سياسيا وعسكريا إلى نمذجة العالم وفقا للغرب، وتم استخدام أساليب كثيرة للوصول إلى هذا الهدف، وقد سبق الحديث عن جهود العلماء الغربيون في هذا المجال ومن أمثلة ذلك صمويل هنتغتون وكتابه (صدام الحضارات)، وسعى الغربيون نحو أهدافهم عبر الموجات العسكرية الاستعمارية التي اجتاحوا بها العالم، ثم غيروا أسلوب القوة إلى الأسلوب الناعم أو ما أطلق عليه بتيار التغريب.
ومما أشاعه مفكرو الغرب في دراساتهم وكتبهم، أن العبور إلى الحداثة لا يتم إلا عبر التغريب، وأن العولمة هي طريق البشرية إلى التطور والحداثة، ومن لا يتخذ من الغرب نموذجا له، لا يمكنه تحديث حياته في مجالات التفكير وطرق العيش في أدق وأصغر تفاصيلها، ومن الواضح أن مثل هذه الدعوات في تحجيم لعقلية الأمم الأخرى التي يدل تاريخها على أن أمم حضارية قدمت للعالم مثلما قدمت له حضارة الغرب ولكن وفق السياق التاريخي لها.
في هذا الموضوع يذهب صمويل هنتغتون إلى القول بأن تحديث وتغريب المجتمعات، القادة السياسيون والمفكرون في تلك المجتمعات استجابوا للتأثير الغربي بواحد أو أكثر من الأساليب الثلاثة التالية/ إما رفض التحديث والتغريب معا، أو تبنيهما معا، أو تبني الأول ورفض الثاني:
• الرفضية: بالنسبة للإسلام كتب "دانيال بيبس": وحدهم الأصوليون المتشددون هم الذين يرفضون التحديث والتغريب، ويلقون بأجهزة التلفزيون في الأنهار ويحرّمون ساعات المعصم، ويرفضون ماكينة الاحتراق الداخلي، استحالة تطبيق برامجهم يحد بشدة من الإعجاب بهم وفي حالات عديدة – مثل :ألين أزالا" في كانو وقتلة "السادات" ومهاجمي المسجد في مكة، وبعض جماعات التقوى في ماليزيا- فإن هزائمهم في المواجهات العنيفة مع السلطات أدت إلى اختفائهم تاركين أثرا قليلا". ويشرح هنتغتون كلامه بالقول أن هذا الاختفاء وترك الأثر القليل يلخص بشكل عام مصير السياسات شديدة التطرف في نهاية القرن العشرين والتعصب –ببساطة- إذا استخدمنا اصطلاح توينبي ليس خيارا قابلا للتطبيق.
• الكمالية: يقول بيبس نفس الشيء وهو يشير إلى الإسلام : " لكي ينجو من اللامعيارية أمام المسلمين خيار واحد، حيث أن التحديث يتطلب التغريب... والإسلام لا يقدم طريقا للتحديث... العلمانية لا يمكن تجنبها، العلم الحديث والتكنولوجيا يتطلبان استيعابا للعمليات الفكية التي تصاحبهما... ونفس الشيء بالنسبة للمؤسسات السياسية، ولأن المضمون يجب ألا يحاكي بأقل مما يحاكي الشكل، فلا بد من الاعتراف بهيمنة الحضارة الغربية حتى يمكن التعلم منها اللغات الأوروبية والمؤسسات التعليمية الفرعية لا يمكن تجنبها، حتى وإن كانت هذه الأخيرة تشجع على التفكير الحر والعيش السهل، فقط... عندما يقبل المسلمون بالنموذج الغربي صراحة، سيكونون في وضع يمكنهم من استخدام التقنية، ومن ثم يتقدموا...
ولكن في أحدث دراسة لصمويل هنتغتون – لم يُسلط عليها الضوء كما جرى مع دراسته السابقة (صدام الحضارات)- يتبين التناقض الذي تقع في القوة الجديدة المنفردة بزعامة العالم وتتضح الحيرة العاصفة التي تسود مجتمع النخبة في الغرب، فقد كتب هنتغتون في عدد شهري (نوفمبر/ ديسمبر 1996) من مجلة "شؤون خارجية" تحت عنوان :الغرب: متفرد وليس عالميا"، يفرق فيها بين التحديث والتغريب ويقول: " إن شعوب العالم غير الغربية لا يمكن لها أن تدخل في النسيج الحضاري للغربي، حتى وإن استهلكت البضائع الغربية، وشاهدت الأفلام الغربية، واستمعت إلى الموسيقى الغربية، فروح أي حضارة هي اللغة والدين والقيم والعادات والتقاليد، وحضارة الغرب تتميز بكونها وريثة الحضارات اليونانية والرومانية والمسيحية والغربية، والأصول اللاتينية للغات شعوبها، والفصل بين الدين والدولة، وسيادة القانون والتعددية في ظل المجتمع المدني والهياكل النيابية والحرية الفردية".
ويضيف قائلا: " إن التحديث والنمو الاقتصادي لا يمكن أن يحققا التغريب الثقافي في المجتمعات غير الغربية، بل على العكس يؤديان إلى مزيد من التمسك بالثقافات الأصيلة لتلك الشعوب، ولذلك فإن الوقت قد حان لكي يتخلى الغرب عن وهم العولمة، وأن ينمي قوة حضارته وانسجامها وحيويتها في مواجهة حضارات العالم، وهذا الأمر يتطلب وحدة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ورسم حدود العالم الغربي في إطار التجانس الثقافي".
وقد عرض هنتغتون بعض الدول كأمثلة ناجحة في الاقتراب من الحداثة دون التخلي عن الحضارة المحلية كليّا.
والواقع يدل على أن تأثير الحضارة الغربية يكون قوة دافعة للدول غير الغربية في تحقيق الحداثة، إذ أن الغرب الذي بادر إلى تحقيق الحداثة وضع أهدافا ومعاييرا لحداثة الدول غير الغربية.
ففي الحقيقة أن الفرق بين التغريب والحداثة صعب، وإذا قلنا أن دولة حققت الحداثة على أساس رفضها التام للتغريب كأن نقول أن هناك إنسانا شبعان مرتويا في حالة رفضه التام لتناول أي طعام، فالكلام هنا يناقض نفسه!!!.
اضف تعليق