الأسرة السليمة هي اللبنة الأولى لإقامة صرح المجتمع السليم المتحصِّن داخليا والذي تكسبه حصانة ومناعة خارجية، والزواج الطبيعي ضمن قوانين ومواثيق كل أمة من أمم الأرض هو الحصانة الطبيعية، من هنا أولى الشرع الإسلامي أهمية كبرى للأسرة، لإدراكه بأهمية سلامة الأساس للظفر بمتانة البناء...
ليس من المستغرب أن تجد إرتفاع معدلات العنوسة في هذا البلد أو ذاك، فالأمر طبيعي بلحاظ ارتفاع عدد الإناث في مقابل الذكور بشكل عام في عدد غير قليل من بلدان العالم حسب تقارير هيئة الأمم المتحدة، ناهيك عن البلدان التي تشهد حروبا خارجية وداخلية تطحن الرجال وتترك خلفها أرامل وأيتاما، يُضاف الى هذه الحقيقة شيوع مصطلح (الخيانة) التي روّجت لها دوائر التمثيل السينمائي والتلفزيوني العربية بغير وجه حق تماشيا مع السينما الغربية القائمة على الزواج الكاثوليكي واعتبار الثانية خيانة عظمى، وذلك إذا ما أقدم المرء على الزواج من ثانية التي تعقبها في أغلب الأحيان طلب الأولى الطلاق والتخلي عن منزلها وأسرتها حتى يذعن الزوج بطلاق الثانية أو التخلي عن فكرة الزواج بالثانية من أصله، أو أن يُجبر على إخلاء سبيل الأولى من غير معروف في أكثر الأحيان، وترك الأولاد حيارى بين دارين طريقهما مزروع بالأشواك.
هذا هو الشايع من العنوسة، ولكن للعنوسة وجها آخر وذلك عندما يعزف الرجل عن الزواج وتكوين الأسرة، ويتمسك بالعزوبية أو أن يكتفي بعلاقة ثنائية خارج إطار الزوجية المعهودة، وربما يضع لهذه العنوسة الطوعية فلسفة يتمحور حولها وينظّر لها، معتبرا أن الزواج الطبيعي وتكوين الأسرة هو السجن بعينه، وليس قفصا ذهبيا كما يُشاع يتناجى فيها الحبيبان، غير مدرك لتفاعلات الحياة وعوامل الزمن التي تعمل على تعرية الجبال الصلبة فما بالك بجسم الإنسان الذي يغزوه الشيب ويداهمه الخوار، وعندها لا يجد المرء من يعينه على تخطي صعوبات الحياة لا زوجة كريمة الأصل ولا ولد صالح، ولات حين ندم، والعنوسة الذكورية تكون أكثر خطرا بخاصة في البلدان التي تشهد ارتفاع أعداد النساء في مقابل الذكور، فحينئذ تكون أشبه بقنابل إجتماعية موقوتة لأنَّ العنوسة الأنثوية هي في واقعها من نتاج العنوسة الذكورية التي تقفز على الموازين الإجتماعية والنواميس الفطرية، وتكون مرتعًا خصبًا لتفشي الأمراض النفسية والعوارض الإجتماعية القاتلة التي تنخر في جسد المجتمع وتفتك به.
والأسرة السليمة هي اللبنة الأولى لإقامة صرح المجتمع السليم المتحصِّن داخليا والذي تكسبه حصانة ومناعة خارجية، والزواج الطبيعي ضمن قوانين ومواثيق كل أمة من أمم الأرض هو الحصانة الطبيعية، من هنا أولى الشرع الإسلامي أهمية كبرى للأسرة، لإدراكه بأهمية سلامة الأساس للظفر بمتانة البناء، هذه الأهمية أدرج معالمها الرئيسة الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب "شريعة الأسرة" الذي صدر حديثا (2018م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 56 صفحة، ضمًّ مسألتين ومائة، إلى جانب 32 تعليقة لآية الله الشيخ حسن رضا الغديري، وقد سبق المسائل والتعليقات مقدمة الناشر ومقدمة الغديري وتمهيد الكرباسي.
الأسرة درع المجتمع
من المفروغ منه أن الأسرة عمود المجتمع وقوامه، وهي كما يؤكد الفقيه الكرباسي في التمهيد: (الدرع الحصين الذي يتحصن بها أفرادها، والظاهر أن المفردة مأخوذة من الأسْر والإسارة حيث إنَّ المرء مقيد بعائلته وهو الأكثر لصوقا بها، ومن هنا عرَّف بعضهم أُسرة الإنسان بعشيرته ورهطه الأدنين)، وفي الأدب الشعبي يُشبّه رب الأسرة بعمود الخيمة التي يستظل تحتها أفراد أسرته من زوجة وأولاد وكنات ونسائب وأحفاد، وهو الحائط التي تستند إليه الزوجة وأولادها، ومهما بلغ الزوج من القوة والضعف في شبابه وكبره فهو أمان لأهل بيته، ولهذا يضيف الفقيه الكرباسي: (والأسرة أيضا القوة، ولعل المراد بالأسرة هم الذين يتقوى المرء بهم وهم ظهيره في النوائب)، وقد أولى الشرع أهمية كبرى للأسرة ووضع لها تشريعاتها: (وإذا ما تحدث الفقهاء أو المشرعون للقوانين بأحكام الأسرة فالمراد بها مجموعة الأحكام التي تنظم العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة)، وهي ما يعبر عنها بقانون الأحوال الشخصية.
ولأنَّ الأسرة بناء تراكمي قابل للزيادة عموديا وأفقيا، فلابد أن يحسن الزوج الأساس، مع مراعاة عامل الزمن وتفاوت المدارك بين جيل الآباء والأبناء والأحفاد، على أن البنى الأخلاقية والقيم الإنسانية من الثوابت، لأنَّ الخير على الدوام وعند جميع الأقوام هو الخير، والشر هو الشر، والقيم الإنسانية النبيلة من روضة الخير التي يزداد إنتشار شذاها وضوعها.
ولتفاوت المدارك بين الأجيال أهميته القصوى في البناء الأسري وفيه (يكمن سر تماسك الأسرة فيما بينها)، ويضيف الكرباسي: (فإن الذي عاش في بيت أبويه لا بدّ وأن يعلم أن ظروف نشأته قد تختلف عن ظروف نشأة أولاده في ظل الأسرة الجديدة، ربما لتطور الحياة من حيث المكان والزمان، أو لأسباب أخرى كالتعليم مثلًا، ولا بدّ أن يسعى كل من الذكر والأنثى إلى سد النواقص التي لاحظاها في النشأة الأولى ليعالجها قبل أن يكوّنا لنفسيهما أسرة سعيدة ومتفاهمة، وربما احتاجا إلى المزيد من المقومات لها، ولا يجوز لهما أن يكونا نسخة طبق الأصل –أعني الوالدين- وإلا تكررت النسخ وتكررت معها المآسي فيما إذا كانت الظروف غير طيبة).
مقومات البناء السليم
ولتفادي تكرار الأخطاء على طريق بناء الأسرة السليمة، يقدم الفقيه الكرباسي مجموعة من الرؤى، تتلخص في التالي:
أولا: مراعاة الوالدين حسن الأداء والتطور للأبناء والبنات بما يمليه عليهم الشرع والعقل والتجارب لمواكبة التطور.
ثانيا: مراعاة مراكز التعليم والتثقيف لنشأة الفتى أو الفتاة بما يحملان من مكونات مختلفة.
ثالثا: من سعادة الأسرة الجديدة وسعادتها أن يدخل الزوجان في دورة لا اقل من ستة أشهر ويتعلّما بإشراف مختصين في علم الفقه والطب والإجتماع والنفس والقانون والإقتصاد والجنس ليفهم كلٌّ واجباته ومسؤولياته تجاه نفسه والآخر الشريك والمجتمع والدولة والبيئة وبالطبع الخالق أيضا.
رابعا: مواصلة التثقف بعد الزواج بثقافة الأبوة والبنوة والأمومة والبنوتة.
خامسا: نقل التجربة الى الأبناء بدفعهم نحو تكوين أسرة جديدة لمرحلة أخرى جديدة.
وفي طريق البناء الأسري السليم، يستعرض الفقيه الكرباسي مجموعة من النقاط تتمحور في التالي:
أولا: لا يقع الإختيار على الرجل فحسب بل أن يختار كل من الزوجين شريك حياته بدقة لا متناهية.
ثانيا: تقدير معنى الشراكة وتبادل الشعور والإحساس والغرائز والطموح والأهداف.
ثالثا: لابد أن يكون الحوار سيد المواقف المختلفة دائمًا وأبدًا.
رابعا: في الخلاف يُسترشد برأي من يُسترشد به.
خامسا: فطرة الله تبقى فطرة سليمة وعلى الزوجين صيانتها لولادة طفل سليم، والجنين أمانة في رحم الأم لدرء التشوهات الخلقية والنفسية، ولابد من الالتزام بما ورد في الشريعة في الاتجاه الحكمي أو الأخلاقي لسلامة الطفل ومسيرته وسعادته.
سادسا: لا ينبغي للوالدين أن يتوقعا من الأبناء رد الجميل لما قدماه لهم، فحركة العطاء بين الآباء والأولاد حركة تسلسلية لا دائرية تنتقل من جيل لآخر، وإنما مصدر العطاء الذي لا ينقطع أبدًا هو البارئ.
سابعا: لكل من الزوجين دوره المقدس في الحياة، ولا يمكن لأحدهما أخذ دور الآخر إلا في مجال ضيق وأن كل واحد منهما مكمل للآخر، وتفهم هذه التكاملية تنعكس إيجابا على الأبناء.
الأسرة مدرسة الطفل
في العادة ينظر االزوجان في الأسرة الجديدة الى سيرة الوالدين في تنظيم حياتهما مع الأخذ بنظر الإعتبار عامل الزمان والمكان واختلاف الأجيال، لأن الزوج في العادة من سنخ أبيه والزوجة في العادة من سنخ أمها، ولكن هذا لا يكفي فلابد من معرفة الحقوق والواجبات قبل الإقتران، وهو ما يؤكد عليه الإسلام ويشير إليه الفقيه الكرباسي في أكثر من مسألة، لأنَّ: (أي خلل في ذلك يعد أمرًا محرَّمًا قد يصل الى الذنوب الكبيرة)، شريطة كما يعلق الفقيه الغديري: (أن يكون وقوع الخلل بالتقصير دون القصور)، ومقتضى الأمر كما يؤكد الكرباسي: (إنَّ الجاهل عليه أن يتعلم ولا يجوز التأخير في التعلم ولا يحق له الإعتذار بالجهل) من هنا فإنَّ: (الجاهل المقصِّر لا يُقبل عذره ويلاحق شرعًا لكي يُصلح ما أفسده)، كما: (لا يحق للزوج أن يفرض على زوجته العمل بالبيت، ولكن من حسن التبعُّل أن تقوم هي بذلك حسب القدرة)، في المقابل: (يجب على المرأة أن تعرف بأن الرجل هو المسؤول الأول في هذه الأسرة وعليها أن تساعده في ذلك وتطيعه، وعلى الرجل أن يستشيرها ويطيّب خاطرها) وبإزاء هذه المسؤولية المتبادلة: (ينبغي للزوج أن لا يتدخل بالشؤون الداخلية للبيت فإن البيت كما يقال مملكة الزوجة، كما ينبغي للزوجة أن لا تتدخل في شؤون عمل الزوج وعلاقاته التجارية وما إلى ذلك، وإن تفاهما على ذلك فلا بأس)، وبالطبع عدم التدخل ليس مطلقا كما يعلق الشيخ الغديري لأنَّ: (التدخل لأجل الإصلاح والصلاح والإرشاد إلى ما يصلح للبيت وما يتعلق به لا إشكال فيه، بل ويستحب ذلك، وقد يجب إذا كان يخاف من وقوع حادث أو إرتكاب محرّم، وهذا من الطرفين أي من الزوج والزوجة)، ومن أجل بناء أسرة متماسكة منذ البداية كما يرى الكرباسي: (يجب أن يكون التفاهم سيد الموقف في كل المجالات من الجنس، والأكل، والشرب، والنوم، والسفر، والحضر، والزيارات، والعلاقات، والشراء، والبيع، وتربية الأطفال، وكل ما له علاقة بهما).
ومن معالم الأسرة المتماسكة أنه: (يجب على الزوجين الإحتفاظ بأسرار البيت) وعليه: (يحرم على كل طرف نقل خصوصيات الآخر حتى إلى أقرب الأقرباء)، بل (لا يجوز للطرفين نقل خصوصيات الآخرين)، ولأنَّ لكل زوج وزوجه أسراره الخاصة قبل العقد فإذا تم الزواج ومضى: (لا ينبغي للزوج أن يستنطق زوجته ليعرف أحوالها قبل الزواج، وكذلك لا ينبغي للزوجة أن تفعل ذلك)، بل وكما يعلق الشيخ الغديري: (وقد يحرم ذلك للسائل والمسؤول عنه لمكان هتك الحرمة ووقوع الفساد والمفسدة أحيانًا أو ضياع بعض الحقوق الثابتة ونحوها من المفاسد).
مسرى لقمة الطفل
ولأن المال هو عصب الحياة وأول الزينتين يتبعها البنون، لذلك: (ينبغي على المرأة أن لا تضايق زوجها في الإنفاق، وعلى الزوج أن لا يكون معسرًا، بل سبّاقا الى ذلك حتى لا تحتاج المرأة إلى المطالبة بذلك)، ومقتضى الحال: (على الزوجين مراعاة حالهما الإقتصادي فلا يحسن التبذير والإسراف كما لا يحسن البخل والضيق).
ولكن ما هو الموقف؟ إذا قامت جهة رسمية او أهلية بتكفل المعيشة كلا أو بعضا كما في نظام الضمان الإجتماعي لمن فقد العمل كلا أو بعضا، أو لوجود علة مرضية مؤقتة أو ثابتة، فهل يسقط واجب الإنفاق على الزوجة، يرى الفقيه الكرباسي أنه: (إذا تبرعت جهة بالنفقة بدلًا عن الزوج ورضيت الزوجة بذلك فلا يحق لها مطالبة زوجها بالنفقة، كما هو الحال في الضمان الإجتماعي المتعارف عليه في الدولة الغربية) في الوقت نفسه: (لا يحق للزوج أنْ يأخذ منها ما زاد على نفقتها، والأصلح التوافق فيما بينهما)، لكن المعلق يرى أنه: (لا يسقط وجوب الإنفاق على الزوج بالضمان الإجتماعي إلا في حال يتعسّر عليه ذلك بسبب فقره وعدم استطاعته به)، ويؤكد في الوقت نفسه أنه: (لا يجوز التوسل بالكذب وعدم إظهار الواقع لأجل الإستفادة المالية من الضمان الإجتماعي ألبتة، ولا يشمل ذلك ما قيل ويقال من باب التقاضي من الكفار، وليس هو إلا لعبة سياسية ولا علاقة له بالمباني الفقهية بوجه) بل يدعو الى ما هو أكثر من ذلك باعتبار أن: (الضمان الإجتماعي الموجود في الدول الغربية قد يوجب الإفساد في الأسرة، فلا يجوز الإتكال عليه إذا كان من الممكن التوسل إلى مخرج آخر، ويستثنى منه حال الإضطرار كما في سائر الموارد).
وقد دلّت التجارب أن تقاعس الزوج عن العمل والإتكال على الضمان الإجتماعي والتحايل على القوانين ساهم في تفكيك الأسر وزيادة الطلاقات، فالآباء الذين يتوسلون بأعذار غير حقيقية لنيل المعونة الحكومية معتبر إنما يقدمون لأبنائهم نموذجا سيئا عن الأب الذي لا يحسن إدارة بيته، وربما سار الإبن على سيرة أبيه وتلك مصيبة أخرى، من هنا يشدد الفقيه الكرباسي على هذه المسألة ويرى أنه: (لا يحق للزوجين أن يلجآ إلى الضمان الإجتماعي إذا كانا قادرَين على الإنفاق)، بل ويزيد الشيخ الغديري أنه إذا: (كان هناك مداخل قانونية عدة لإثبات استحقاقه أو استحقاقها فردًا وجمعًا، فلا يجوز اللجوء إليه في صورة القدرة على العمل ونحوه من أسباب الإنفاق وإمرار المعيشة).
لا خلاف بأنَّ الأسرة هي المدرسة الأولى للطفل، وكل ممارسة سليمة او غير سليمة تنغرس في خلد الطفل وذاكرته، وتبرز مع نموه وتقدمه في العمر إن خيرًا فخيرٌ وإنْ شرًّا فشرٌ، واللقمة التي يتناول الطفل لها تأثيرها الخفي على مسيرته في الكبر ولهذا يرى الفقيه الكرباسي أن: (تغذية الطفل من الحلال واجب شرعي، ولها تأثير في تربيته وإنمائه)، كما: (لا يجوز ممارسة الجنس أمام الأطفال بحجة أنهم لا يدركون)، وقد أفرد الفقيه الكرباسي مجموعة مسائل في علاقة الوالدين بالأبناء وخلاصة الأمر: (كل الآداب الإسلامية والأخلاق الفاضلة لابد وأن يكتسبها الأولاد من مدرستهم الأولى وهو البيت، ثم المدرسة السليمة، ثم المجتمع السليم، ومراعاة ذلك يقع على عاتق الوالدين).
في الواقع إن تطبيق ما أورده الفقيه الكرباسي من مسائل فقهية لتنظيم الأسرة، ليس بالأمر الهين والسهل، ولكن مراعاتها بالقدر الممكن دون تساهل وتقصير، لها كبير الأثر في قيام مجتمع سليم، وهذا ما يرجوه كل أمين على أسرته ومجتمعه، وهذا هو محور رسالة الأنبياء والأوصياء وقادة الإصلاح في كل مجتمع بغض النظر عن الدين والمعتقد.
اضف تعليق