حين ابصرت جامعة شيكاغو النور في خريف العام ١٨٩٢ كانت المدينة قد اضحت مع نيويورك وفيلادلفيا احدى اكبر ثلاث مدن امريكية، بعد ان شهدت نسبة نمو مثيرة للدهشة؛ فالبلدة التي كان عدد سكانها ٤٤٧٠ نسمة خلال احصاء العام ١٨٤٠ بلغ تعدادها السكاني بعد خمسين عاما مليون ومائة الف نسمة في العام ١٨٩٠ ووصل الى ثلاثة ملايين ونصف في العام ١٩٣٠.
كانت المدينة مركز استقطاب للمهاجرين في الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اذ وصل مهاجرون ريفيون من وسط الغرب الامريكي على حو كثيف، وكذلك عدد كبير من المهاجرين الاجانب اغلبهم من اوربا، وفي مطلع القرن العشرين كان اكثر من نصف سكان شيكاغو قد ولدوا خارج امريكا.
اصبحت المدينة مركزا صناعيا وتحاريا هاما وبورصة مزدهرة، وتطورت فيها الرأسمالية الوحشية، وشهدت بناء ناطحات السحاب الامريكية الاولى، ونمت فيها حركة معمارية حديثة ستعرف فيما بعد تحت اسم مدرسة شيكاغو.
هذه البيئة الاجتماعية للمدينة الامريكية يستعرضها الباحث "آلان كولون" في كتابه الذي ترجمه للعربية "مروان بطش" وحمل عنوان "مدرسة شيكاغو". ويقول الكاتب في معرض تعريف مدرسة شيكاغو انها تشير الى جملة من البحوث السوسيولوجية التي اجراها ما بين الاعوام ١٩١٥ و١٩٤٠ مدرسون وطلبة من جامعة شيكاغو، حيث استخدمت هذه العبارة (مدرسة شيكاغو) لاول مرة بعد فترة من انطلاق هذه الحركة العلمية وبالتحديد حين عمد "لوثر بيرنارد" الى عرض مختلف المدارس الاجتماعية القائمة ذلك الحين.
وعن اسلوب مدرسة شيكاغو في البحث العلمي يقول كولون انها تميزت باتجاهها نحو البحث التجريبي وهذا شكل منعطفا في التاثير الذي يمارسه البحث السوسيولوجي على المجتمع، اذ كانت البحوث الخاصة بعلم الاجتماع موجهة نحو اجراء "تحقيقات اجتماعية" متاثرة جدا بالاخلاقية وهي اقرب للتحقيقات الصحفية منها الى البحث العلمي.
وتمثل مدرسة شيكاغو علم اجتماع "مديني"، وقد شرعت باجراء سلسلة من الدراسات حول المشاكل التي كانت مدينة شيكاغو تعاني منها، بيد انها كرست بخاصة عددا من اعمالها وبحوثها لمشكلة سياسية واجتماعية هامة كانت تستقطب في ذلك الوقت اهتمام المدن الامريكية الكبرى كافة، ألا وهي مشكلة الهجرة ودمج ملايين المهاجرين في المجتمع الامريكي بالاضافة الى مشاكل الجريمة في المدينة.
بالنسبة لمسألة دمج المهاجرين في الولايات المتحدة التي تعد مشكلة تثير الكثير من التساؤلات في بلد تشكل تدريجيا، وفي اثناء الحقبتين الاولى والثانية من القرن العشرين جرى خلالهما جدل سياسي كثيف حول مسالة امركنة المهاجرين القدماء من جهة وامكانية مواصلة السماح بتدقيق امواج كبرى من المهاجرين من جهة اخرى.
يقول كولون في كتابه ان علماء مدرسة شيكاغو لهم الفضل في تنشيط حركة البحث الاجتماعي فيما يتعلق بمسالة الهجرة، وقد اعطوا تصورات رئيسية لعلم الاجتماع الامريكي من بينها اختلال النظام الاجتماعي وتعريف الوضع والهامشية والمثاقفة.
وتؤدي الهجرة بحسب علماء مدرسة شيكاغو الى اختلال النظام الاجتماعي وهو المفهوم الذي نفهم كيف ان القوانين الاجتماعية فقدت فاعليتها في بعض الظروف، الا ان هذه الحالة مؤقتة او يمكن تسميتها بالحالة الانتقالية، فعلى سبيل المثال تختل الاسرة الريفية حين تتسرب اليها ممارسات جديدة في الاستهلاك وقيم جديدة تغيّر من السلوك الاقتصادي في حين يدل على اختلال الجماعة غياب رأي عام يؤدي بدوره الى افول التضامن في صفوف الجماعة. وسوف تعزز الهجرة هذا الاختلال الذي يتخذ شكلا واسعا ومأساويا في بعض الاحيان، ويجر نظام الاسرة وراءه الى الفقر والجنوح بين الشباب، الا ان الجماعة المهاجرة ستقوم باعادة تنظيم مواقفها وحالاتها لمواجهة الاختلال.
ان هناك دورة من التغيرات فبسبب التطور التقني والاقتصادي ستتعرض مجموعة اجتماعية جرى تنظيمها اولا الى الاختلال ثم اعادة تنظيم نفسها من دون ان يؤدي ذلك الى استيعابها كليا في مجموعة الاستقبال، وذلك في الحدود التي تستطيع البقاء فيها اشكال ثقافية مخففة من المجموعة الاصلية وذات تحديدية بدرجة اقل.
يلقى مفهوم اختلال النظام معظم البحوث التي تشكل إرث مدرسة شيكاغو، وقد استخدم لدراسة التغيرات الاجتماعية التي اتاحها النمو السريع للمدن الامريكية، حتى ان هذا المفهوم يمثل التطور الرئيسي الذي انطلق منه جيل كامل من البحاثة للعمل في المدينة.
بالنسبة للجريمة، فيشتهر علم اجتماع جامعة شيكاغو ببحوثة حول مفهوم "الجرمية" او نسبة الاجرام والانحراف والجنوح بين الشبان وما يقترن بذلك من مسائل. و يؤكد "آلان كولون" في كتابه ان تاريخ الجرمية في شيكاغو موسوم بامواج المهاجرين المتوالية التي اجتاحت المدينة واستقرت فيها، بدءا من هجرة الالمان والايرلنديين في مطلع القرن العشرين ثم هجرة البولونيين والطليان في السنوات العشرين من ذلك القرن الى ان اضحت هذه الهجرة اسبانية امريكية وزنجية بعد ثلاثين سنة.
كان علم اجتماع مدرسة شيكاغو منذ نشوئه متاثرا باساليب بحثية نشطة برز فيها باحثون ذوو اهمية كبرى. فالفلسفة على سبيل المثال كانت السابقة لانشاء مدرسة حقيقية معروفة تحت تسمية الفلسفة البراغماتية، وبحسب هذا المذهب الفلسفي الشهير، فانه ينبغي النظر الى النشاط الانساني من زاوية ثلاثية الابعاد لا يمكن الفصل بينها وهي البعد البيولوجي والبعد البسيكولوجي والبعد الاخلاقي. وبحسب فلاسفة شيكاغو ينبغي على كل من السيكولوجيا والفلسفة ان يكون لها تاثير على الواقع، اذ ستكون الفلسفة المرجع النظري الذي سيسمح بحل المشكلات الاجتماعية والتربوية والاقتصادية والسياسية والاخلاقية التي تواجه كل مجتمع.
انه وبحسب البراغماتية ينخرط الفيلسوف في حياة مدينته ويهتم بامور بيئته وبالعمل الاجتماعي الذي يرمي الى التغيير الاجتماعي، وقد جعل علماء مدرسة شيكاغو في مطلع القرن العشرين من البراغماتية الفلسفة الاجتماعية للديمقراطية، وكان اكبر تاثير لها في التطور الديمقراطي للتربية وبشكل عام في تطور العدالة الاجتماعية وفي العلمل البلدي، انها فلسفة العمل او فلسفة التدخل الاجتماعي كما يصفها "آلان كولون".
اضف تعليق