هل يمكن للمرء ان يعيش حالة الأصالة Authenticity؟. قيل لنا "لكي تمتلك ذاتك عليك ان تكون حقيقيا". ولكن ماذا نعني عندما نقول ان شخص ما هو أصلي او شخص حقيقي جدا؟
اصلانية(1) الشخص تُعرّف عادة بكون الشخص صادق وحقيقي مع ذاته ومع الآخرين، يمتلك المصداقية في كلماته وسلوكه ولن يسمح لأي مظهر للتزييف والتظاهر. معنى الأصلانية اذاً يتوضح بمقارنتها مع اللااصلانية inauthenticity تماما كمقارنة الضوء بالظلام. ولكن غياب اي معايير واضحة للحكم على الاصلانية يجعل الحدود بين الاصلي واللااصلي هي غير مؤكدة وغير آمنة.
ان السعي للاصلانية متصل جزئيا بتحقيق بعض معايير الاستقلالية والحرية او الرغبة في ان نكون المصممين المعماريين لحياتنا. الكفاح لأجل الأصالة الفردية يوفر العلاج للظروف الخارجية، وهو الى حد ما يمثل رد فعل للااصلانية السائدة في الحياة الثقافية والدينية والسياسية اليومية. الرغبة بالأصلانية هي ايضا ضرورية لإكتشاف الحقيقة والعثور على الانجاز في الحياة، بجعلها اكثر شمولية ومعنى. وبشكل عام، ان حالة اللااصلانية يمكن ان تكون مصدراً لتوتر عميق، يدفع الناس للسعي ليصبحوا اكثر اصلانية، وفي انسجام مع حياتهم الداخلية والخارجية.
تعريفات
الاصلانية هي مفهوم فلسفي يشير الى الذات الاصلية، الحقيقية للوجود الانساني. المفهوم برز من رؤية ان الكائن الانساني يوجد او يعيش بشكل عام بطريقة غير اصلية، وان المعنى الحقيقي للذات وعلاقتها مع الآخرين (بما فيهم الله) قد ضاع. ولكي يتمكن الانسان من استعادة ذاته الاصلية لابد من اعادة فحص راديكالية للسياقات الثقافية واساليب الحياة المعتادة وطرق التفكير.
وفي علم النفس تشير الأصلانية الى محاولة الفرد ليعيش حياته طبقا لحاجاته الداخلية بدلا من طلبات المجتمع او الظروف المبكرة للفرد.
ان نصبح اصلانيين هي مهمة فردية، طالما ان كل فرد له طريقته الخاصة في ان يكون انسانا، وبالتالي فان ما هو أصلي سيكون مختلفا لدى كل فرد. كذلك، الاصالة الفردية تتحدد ضمن سياقها الخاص وتعتمد على مختلف الخصائص الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية. لكن الطبيعة المتفردة لكل فرد تجعل النظر اليه ليس بصيغة منْ هو وانما بصيغة منْ سيكون، وان كون الانسان اصيلا هي عملية مستمرة وليست حدثا. انها تستلزم ليس فقط معرفة الذات وانما ايضا الاعتراف بالآخرين وبالتأثير المتبادل بين الافراد. اذا كان السعي للأصالة الفردية هو فقط لغرض الانجاز الذاتي، عندئذ فانه سيكون فردانيا ومبنيا على الانا، ولكن اذا كانت الاصالة مصحوبة بالوعي بالآخرين والعالم الأوسع، عندئذ ستكون هدفا ذو قيمة.
فلسفة الأصالة
ان مفهوم الأصالة جرى استكشافه طوال التاريخ من جانب العديد من الكتّاب بدءً من فلاسفة اليونان القدماء مرورا بمفكري التنوير وصولا الى الوجوديين والمنظرين الاجتماعيين المعاصرين.
فمثلا يمكن اعتبار قول سقراط "الحياة اللامُختبرة لا تستحق العيش" او "اعرف نفسك" محاولة لدفع الآخرين لاكتشاف الذات الاصلية وطريقة الحياة. العائق الاجتماعي لإنجاز الأصالة او (ادراك الذات) جرى التأكيد عليه من جانب جان جاك روسو (1712-78)، الذي جادل بان الاصالة الفردية انحسرت بفعل الحاجة الى احترام الآخرين في مجتمعات تميزت بالتراتبية الهرمية واللامساواة والاعتمادية المتبادلة. طبقا لروسو، الاصلانية تُشتق من الذات الطبيعية بينما اللاصلانية هي نتيجة لتأثيرات خارجية.
مارتن هايدجر
الفيلسوف الوجودي مارتن هايدجر(1889-1976) ذكر بان الاصالة هي اختيار طبيعة وجود الانسان وهويته. هو ايضا ربط الاصالة بوعي الاخلاق لأن وعي المرء بموته الحتمي هو فقط من يقود الى حياة اصلية حقيقية. مشروع هايدجر في ادراك هوية المرء ضمن سياق العالم الخارجي وتأثيراته، ينطوي على علاقات معقدة بين الاصالة واللااصالة والذي يعني انهما يجب النظر اليهما ليس كمفهومين متناقضين لبعضهما وانما كمكملين ومستقلين. يرى هايدجر ان كل من الاصالة واللااصالة هما شكلان اساسيان للوجود في العالم ولا يمكن فصلهما.
جون بول سارتر
فيلسوف وجودي آخر هو جون بول سارتر (1905-80) أكّد بان هناك جوهر غير متغير للذات، لكننا نمتلك رغبة حرة تسمح لنا بحرية تامة في تقرير حياتنا من بين الخيارات المتوفرة. طبقا لسارتر، الوجود يسبق الجوهر: وبكلمة اخرى، اول منْ يأتي الى الوجود هو الكائن الانساني الذي يستمر في تعريف ذاته، بدلا من المجيء الى الوجود بطبيعة معطاة سلفا. بالنسبة لسارتر، تتطلب الاصلانية تبنّي المسؤولية الكاملة عن حياتنا، وعن الخيارات والافعال. ولذلك، فان القلق الذي ينتج عن ادراكنا لحريتنا والذي لا مهرب منه هو جزء مكمل لحياتنا الاصلية. لكن يجب التأكيد بان حرية الفرد هي مقيدة بالطبيعة والمجتمع بالاضافة الى محددات الافراد ذاتهم وهو ما يسميه سارتر "حقيقتهم" facticity. اما البرت كاموس (1913-60) ادّعى بان الوعي الكامن في الكون والذي لا يهتم بنا ولا يقدم لنا الخلاص يجبر الفرد للاعتراف بان المسار الوحيد للحرية هو ادراك الذات الاصلية. لكي يكون المرء اصليا، يجب ان يكون واع بحماقة عالمه السخيف الخالي من الهدف والاخلاق الموضوعية، وان يخلق معنى للحياة من خلال التمرد ضد هذه السخافة. هذه الاصالة الفردية تبرز من إحتقار أي عزاء خارجي غير وجودي بما يعني ان الفرد يقيم في منفى ابديا مغتربا عن حياته وعالمه و مجتمعه.
غير ان العالم ليس فيه اي ميول خاصة للخير ولا للشر: انه كما هو. لا قيمة حكمية يمكن الحاقها به، حتى عندما لا يصبح للحياة معنى من منظور الانسان.
كير كيجارد
اما كير كيجارد اعتبر الاصلانية تكمن في عثور الفرد على ايمان اصلي وحقيقي له. هو يرى ان الميديا والبرجوازية المسيحية جسّدتا تحديا للفرد الذي يسعى ليعيش اصالته ضمن المجتمع. هو يرى ان تدخّل الكنيسة والميديا أغلق الطريق امام الناس للوصول الى التجارب الحقيقية والى الاصالة والله. ان ثقافة الجماهير قادت لضياع اهمية الفرد، وبدلا من ان تكون الميديا كمساعد للمجتمع في تشكيل افكاره الخاصة نرى المجتمع يستعمل الافكار المصنوعة اعلاميا، فلابد من استعادة الذات الاصلية التي فقدتها الجماهير.
هذه الرؤى الفلسفية حول الاصالة الفردية تتغير، ولكن هناك فكرة مشتركة للاصالة الفردية كعملية ديناميكية لكينونة لا متناهية في عالم و مجتمع متغيرين بدلا من ان تكون حالة ثابتة للوجود. الاصالة وعدم الاصالة لا يجب النظر اليهما كحالتين منفصلتين، وانما كمفهومين ذوي اعتماد متبادل.
بعض الاشتراطات الاساسية
ان مفهوم "الاصالة" هو بناء انساني، وبهذا هو لا يمتلك حقيقة مستقلة عن الذهن. ولكن هل الاصالة ممكنة او مرغوبة؟ السؤال ربما مثير للالتباس كونه يتضمن جوابا مطلقا بنعم او لا، ولا يشير الى اي امكانية "لأصالة جزئية". هذا يرشدنا نحو تفسير لمفهوم الاصالة كمطلق، ولكن بشكل عام البحث عن المطلقات هو بلا طائل. لذا دعنا ننظر في بعض الاشياء التي يمكن ان تقيّد الاصالة المطلقة.
البعض يرى ان الاصالة يستحيل تحقيقها طالما ان اي اصالة حقيقية هي مؤقتة ولا يمكن المحافظة عليها الى ما لانهاية. وكما في الهوية، لا يمكن تعريف او قياس الاصالة بما يكفي لأن العديد من خصائص الفرد هي في تغيّر دائم وبلا نقاط اشارية ثابتة.
الافراد يباشرون تغييرات طوال حياتهم بسيل من المشاهدات والتفسيرات، لذا فان الهوية الانسانية هي ديناميكية ومتعددة الأبعاد، انها عمل متواصل بدلا من كونها حالة ثابتة. ولذلك، فان اكتساب بعض معايير الاصالة الفردية هو مشروع دائم مدى الحياة لا يمكن تحقيقه ابدا. الاصالة الفردية تستلزم مبادئ ومُثل يُعاد تقييمها باستمرار من خلال اختبار ذاتي وتفاعل اجتماعي، لذا السؤال الاساسي هو منْ سيحكم على شخص ما بالاصالة او عدمها؟ كيف نستطيع التمييز بين الاصالة الحقيقية وما هو مجرد عرض للأصالة؟ اذا كانت "اصلانية" المرء يتم تعزيزها وتجسيدها وتسليط الضوء عليها فهي اذاً ليست اصلانية حقيقية. الاصلانية لايمكن التصريح بها او اشاعتها بين الناس او تسويقها وبنائها واستبدالها بأنواع اخرى من السلع. انها يجب ان يُعبّر عنها بوضوح وبلا تظاهر.
كونك صادق ونزيه تجاه نفسك والآخرين هي عملية ارتباطية متصلة بالعالم الخارجي بالاضافة الى العالم الداخلي للمرء ذاته. ولكن، لكي يتجنب ازعاج الاخرين، يجب على المرء ملاحظة الحاجة لتقييد التعبير عن الاصلانية في مواقف محددة. لهذا ربما يميز احد بين "الاصلانية الداخلية" و "الاصلانية الخارجية". لكي نتجنب تحميل الاخرين بعبء قضايانا الخاصة، نحن عادة نميل لإخفاء شعورنا الحقيقي. الاصالة الحقيقية هي ليست حول تعبير المرء عن ذاته الداخلية بكل ما تحمل من طيف واسع من العواطف المتغيرة في كل المواقف. الوعي الذاتي غير المتحيز في اللحظة الراهنة هو ذو اهمية كبرى، كونه يعزز وضوح الحوار الداخلي ويُضعف الوصول الى الايغو.
ولكن لا يكفي ان تكون صادقا ونزيها. هناك صفات معينة بدونها سيبقى مفهوم "الاصالة الفردية"قشرة فارغة، معرّفة بشكل غامض وبفهم فقير وبدون تلك الصفات سيصبح السعي نحو الاصالة مؤذيا للعلاقات الفردية وللمجتمع. هذه الخصائص الضرورية للاصالة تتضمن طاقات للاختبار الذاتي غير المتحيز ومعرفة ذاتية دقيقة ومسؤولية فردية وحكم معرفي وتواضع وعاطفة لفهم الآخر بالاضافة الى الرغبة للاستماع للتغذية من الآخرين. انجاز الاصالة الفردية يصبح اكثر تعقيدا بوجود الاوهام والتحيزات بما فيها الخداع الذاتي واماني التفكير والنزعة للسلوك المختلف حين يكون المرء تحت المراقبة.
اشكاليات الأصالة
من المفارقة ان يكتشف المرء بعض مقاييس الاصالة الفردية ليس عبر تجنب العالم الخارجي، وانما فقط عبر الانغماس فيه، ومع ذلك تتحقق الاصالة عبر مقاومة التاثيرات الخارجية على الادراك الذاتي للمرء. وطالما ان الانسان يعيش في حالة من عدم اليقين، فان الاصالة سيتم اكتشافها فقط في عدم اليقين هذا. وهكذا فان المأزق الآخر هو ان الاصلانية يمكن بلوغها فقط من خلال الانغماس في عدم اليقين، لكن عدم اليقين يمنع اكتشاف الذات الحقيقية، التي بدونها لا يمكن ان تتحقق المعرفة بالاصالة. كذلك، اي اكتشاف موضوعي للذات يكون ممكنا فقط بدون تحيزات واحكام مسبقة – لكننا جميعا لدينا تحيزات و احكام مسبقة، لذلك لا يمكن ابدا لاي اختبار ذاتي مفصّل وطويل ان يكشف تماما عن الهوية الحقيقية ومن ثم عن الاصالة. كذلك يمكن للظروف الصعبة ان تقود الى شك ذاتي وعدم آمان، فالمعرفة الحقيقية يجب ان تضع ذلك في الحسبان. السؤال هو كيف تعرف حقا ان كنت اصليا ام لا؟ لا يمكن للمرء الواعي معرفة ما اذا كان اصليا اثناء حياته اليومية.
ولكن من جهة اخرى، المعرفة الذاتية التامة مستحيلة: لا يمكن للفرد استكشاف كامل الشبكة المعقدة للوعي الانساني. لأن العمليات الادراكية مثل التصور والتحليل والجزء الاكبر من محتوى الذاكرة هي غير متاحة للاطلاع الواعي. النزعة هي لملأ الفجوات بين المعروف واللامعروف بالحقائق المعروفة والافكار حول الشخص لكي يعطي وصفا منسجما. وبالتالي فان الاختبار الذاتي قد يقود الى تصور ذاتي غير دقيق. ان مقدرة الذهن الانساني على فحص كميات كبيرة من المعلومات او المظاهر المتعددة لموضوع معين هي محدودة وتقود مرة اخرى الى فهم غير كامل او الى تجسيد خاطئ لما يُشاهد ويُمارس.
المعرفة الانسانية تبقى دائما غير تامة ومؤقتة، ولكن مع ذلك، بدون الوعي الكامل لا يمكن الحصول على اي اصالة تامة، لذا ستكون الاصالة في اية لحظة جزئية فقط. كذلك، سيكون هناك تزامن في الهويات المتعددة للفرد بالاعتماد على الادوار التي يقوم بها في المجتمع بما في ذلك الهويات الفردية والمهنية والثقافية والقومية والدينية. التغيرات في ديناميكيات الهوية تكون معقدة ولا يمكن التنبؤ بها مع التغيرات في المجتمع والاقتصاد والسياسة.
هذه العوامل تجعل اي اكتشاف غير غامض للهوية الفردية تحديا صعبا خاصة عندما تكون التحليلات مبسطة او حين يحصل تجاهل للعلاقات المتبادلة المعقدة لمختلف العناصر. هذا يقود الى وهم في فهم الهوية الفردية ومن ثم الى وهم مماثل في الاصالة. ترتكز الاحكام الانسانية والمواقف على تفسيرات للواقع اكثر من ان تكون معتمدة على تفسيرات الواقع ذاته. ان حدود التصور الانساني والافكار والمعرفة الذاتية هي جزء من المشكلة الرئيسية للاصالة الفردية. لا احد يمكنه الوصول الى معرفة ذاتية تامة، معرفة هي ذاتها تُعرّف ويُعاد تعريفها باستمرار على اساس فهم جديد مقابل خلفية العالم ومتطلباته.
مشكلة اللغة
عامل محدد آخر للسعي نحو الاصالة يتصل باللغة المستخدمة المعرّضة لسوء الفهم حيث ان الكلمات واللغة ليسا كافيين للتعبير عن الطيف التام لأفكار المرء ومشاعره. الاستعارات والمجازات وايحاءات ورموز اللغة هي المصدر الكبير لسوء الفهم. كذلك، الكلمات والأبنية هي عادة ما تكون غامضة وتحمل اكثر من معنى. لا توجد لغة واضحة تماما تحمل مطابقة مباشرة بين الكلمات والتجربة. ان التحول في افكار الفرد وتصوراته حول نفسه قد لا تكون دائما شمولية، لذا فان تعبير الافراد عن انفسهم في اللغة قد لا يكون منسجما. ايضا اللغة التي تصف الاصالة هي ذاتها ربما تكون اعتباطية وغير واضحة وعادة تستخدم كلمات غامضة مثل "حقيقي"، "واقعي"، "اصلي"، ذات"، "طبيعي". الاتصالات الاصلية تعتمد على قدرة الافراد على تمييز ماهو حقيقي لأنفسهم، وعلى كفاية اللغة في التعبير عن افكارهم، لذا فان قيود اللغة والتفسيرات والتعبير تمنع بناء علاقات اصلية بين الافراد. في مثل هذه الاتصالات لا يتضح ما اذا كانت الاصالة او عدم الاصالة في التفاعلات تعود الى الظروف ام الى اللغة او الموضوع او الى المشاركين وتصوراتهم وتفسيراتهم.
مأزق الثابت والمتغير
مأزق آخر في الاصالة الفردية يتصل بحقيقة ان معظم الصفات الفردية تتغير بمرور الزمن، لكن الاصالة الفردية يُتوقع ان تجسد بعض معايير الانسجام. هذا التناقض الواضح يستلزم تلبية متطلبات كل من التغيير والثبات. وبكلمة اخرى، اذا كانت هوية الفرد تتطور باستمرار، فكيف يمكن للمرء تمييز واكتشاف معنى الاصالة الفردية اثناء حياته؟ ان قيمة الاصالة لا تكمن في استمراريتها وانما في تطورها المتواصل طوال حياة الفرد.
إشكالات اخرى
عوامل اخرى ربما تمنع تطور اصالة الفرد من بينها النقص في فهم الاصالة، البرمجة المسبقة للفرد، الخوف من الرفض والفشل، الضغوط الاجتماعية للامتثال لكي يعيش اصليا. في هذه الحالات، يحاول الفرد اولا السعي لإظهار افضل وجه لديه والتعبير عما هو متوقع منه لكي يمكن النظر اليه بشكل افضل. في عدة مواقف، ربما يتطلب التعاون مع الآخرين بعض التكيّف، اي بعض التسويات غير الاصلية. كون الفرد تحت ملاحظة وفحص مستمرين فهو قد يجسّد اصلانية في افضل الاحوال ولكن ذلك يكون مستحيلا في اسوأ الاحوال. وهكذا، لا يستطيع السياسيون ان يكونوا اصليين طالما هم دائما عليهم الظهور بمظهر الثقة وبلا عيوب بدلا من الظهور بمظهر الشك وهشاشة المصداقية. السياسيون هم على منصة مسرح الحياة حيث يتوجب عليهم اداء فنهم في اقناع وإسعاد جماعات الناس من مختلف القيم والطموحات والعقائد والاحلام والحاجات. لذا، في ميدان السياسة، تصعب المحافظة على الاصالة رغم ان السياسيين يسعون لإبداء مقدرة في التفكير الذاتي والرغبة بضمان الانسجام بين افعالهم ومبادئهم، وبهذا هم ربما قادرين على انجاز الاصلانية في بعض المواقف. مع ذلك، تتوقع الجماهير من السياسيين الوفاء بوعودهم وان العامل الاساسي دائما هو تحقيق الازدهار وتوفير الوظائف والأمن، وبهذا تتراجع الاصالة الى المرتبة الثانية ضمن الاهتمامات الاخرى.
ان محاولة انجاز الاصالة الفردية تزداد سوءا بفعل التقدم التكنلوجي الذي يغمر تصورات الفرد بأوهام الواقع، كالتلفزيون. تكنلوجيا اخرى هي الواقع الافتراضي. الاستخدام السائد للواقع الافتراضي يؤدي بالنهاية الى صعوبة التمييز بين التجربة والواقع الافتراضي وهو ما يفاقم ميول الانسان اللامتناهية للخداع الذاتي والانطباع الزائف. عموما، يرتبط مستقبل التجربة الانسانية بنشوء التكنلوجيات المعززة، بما فيها الذاكرة وتقنيات تعزيز الادراك. الاتحاد بين الانسان والماكنة ربما يجعل من الضروري ايجاد تعاريف جديدة لماهية الكائن الانساني، وخلق مشاكل جديدة متصلة بطبيعة الانسان وهويته، وطبيعة المجتمع ومعنى الوجود والاصالة الانسانية.
اذا كانت الحياة فنا، كما في اي شكل فني آخر، فان المرء يمكنه الاقتراب من الكمال لكنه لايستطيع ابدا الوصول اليه. ان هناك منْ لا يشقى في الاصالة الفردية ابدا، البعض الآخر يكتشفها في افعال محددة، وهناك آخرون يكافحون للاقتراب منها في مجالات الحياة والفن، ولكنهم نادرا ما يصلون اليها.
اضف تعليق