يتميز صاحب الأخلاق بالهدوء والقدرة على ضبط النفس.. وبالتالي فهو ينتزع صفة أهم أطلق عليها الأخلاقيون.. الحلم.. وهنا لا تنعي الرؤيا في المنام.. الحلم يجيء من التروّي والتحكم بأقصى نوازع الغضب.. فقد قيل في الكلمات المأثورة .. إحذر غضبة الحليم.. وهذا يعني أنك بأمان مع الحليم.. فهو عصيّ على الغضب وفقدان التحكم بالأعصاب.
ما مؤثرات الإنسان الحليم.. كيف حاز هذا الموقع.. إنها الأخلاق هي المصنع المعنوي للإنسان المتمكن من نفسه.. تبني له جدارا سميكا عاليا يحميه من الغضب والضعف والغرائز المتراخية.. إنه الصمود الأخلاقي للنفس.. كيف يفوز به هذا أو ذاك من الأفراد؟؟.
جاء في تعريف الأخلاق بأنها قيم أو منظومة قيم، تعرف عليها الإنسان باعتبارها جالبة للخير وطاردةً للشر.. وهكذا تعرفها الفلسفة الليبرالية إذ تعطيها معنى نسبياً يخضع للواقع ولفهم الناس ولطبيعة البيئة.. ولهذا هي ليست من المطلقات.. وقد قيل عنها بأنها شكل من أشكال الوعي الإنساني.. كما أنها تمثل مجموعة من القيم والمبادئ تحرك الأشخاص والشعوب كالعدل والحرية والمساواة.. بحيث ترتقي إلى درجة أن تصبح مرجعية أخلاقية وثقافية لتلك الشعوب لتكون سنداً عرفياً وربما قانونياً تستقي منه الدول الأنظمة والقوانين.
وفي تعريف آخر أنها السجايا والطباع والأحوال الخفية أي غير المدرَكة.. بل هي التي تُدرك بالبصيرة والغريزة.. وبالعكس يمكن اعتبار الخلق الحسن من أعمال القلوب وصفاتها.. وأعمال القلوب تختص بعمل القلب بينما الخلق يكون قلبياً ومن خصائصه أنه يكون ظاهريا.. يمكن إدراكه من خلال الاحتكاك والتعامل المتبادَل مع الآخرين.
ويذهب بعضهم الى أن الدين بشكل عام يشكل سندا للأخلاق.. ويُنظَر إليها على أنها نوع من أنواع الدراسة.. حيث يقيَّم السلوك الإنساني على ضوء القواعد الأخلاقية التي تضع معايير واضحة للسلوك.. يضعها الإنسان لنفسه أو يعدّها التزامات وواجبات تتم أعماله وفقا لها أو في ضوئها.. أو هي محاولة لإزالة البعد المعنوي لعلم الأخلاق، وجعله عنصرا مكيفا، أي أن الأخلاق هي محاولة التطبيق العلمي والواقعي للمعاني التي يديرها علم الأخلاق بصفة نظرية، وتكون الأخلاق حزمة من المعتقدات.. أو المثاليات الموجهة.. التي تتخلل الفرد أو مجموعة من الناس في المجتمع.. وتؤطّر سلوكهم العملي.. وأنشطتهم.. وتحدد آماد التزاماتهم الأخلاقية.
بعض الدعاة ورجال الدين الأجلّاء ينظرون الى فحوى الأخلاق يكمن في ضبط النفس.. وأن الصمود الأخلاقي للفرد محكوم بمدى تحكمه بشهواته.. أو ما تتطلع إليه نفسه.. فصمود الإنسان أخلاقيا يرتبط بقدرته على ضبط نفسه.. والهدف الأخير من الصعب أن يتم.. ما لم يتحقق اشتراط المحاسبة اليومية باستمرار.
مما ينطبق من أقوال المراجع العظام على ما جاء في أعلاه.. قول للمرجع الديني السيد صادق الشيرازي.. فسماحته يعلن في كتابه الذي جاء بعنوان (نحو بناء النفس والمجتمع).. رأيا مقاربا لاشتراط المحاسبة اليومية.. يقول السيد صادق الشيرازي: (يقال: إن بعض الأفاضل طلب من أستاذه العالم أن ينصحه نصيحة تنفعه طيلة عمره، وكان على وشك مفارقته، فقال له العالم: خصص لنفسك كل يوم وقتاً تحاسب فيه نفسك، وإن قلّ. يقول ذلك الفاضل: عملت بنصيحة أستاذي العالم حتى أصبحت محاسبة النفس حاضرة في ذهني ما دمت مستيقظاً).
وحينما تُصبح محاسبة النفس حاضرة في كينونة الفرد.. حينئذ سوف يتحرّز من اقتراف المحظور.. وشيئا فشيئا سوف يتولد السور الشاهق.. أو مجموعة الأسوار - الأخلاقية- العالية التي تضرب طوقا حول نفس الإنسان.. وتمنعها من الانحدار والتدحرج الى القاع الأسفل أو ما يسمى بالحضيض.. وحينئذ يكون الإنسان في مأمن من السقوط بسبب تحليه بالصمود الأخلاقي الذي يحميه ويجعله حاكما لنفسه بدل أن يكون محكوما منها.
فنلحظ بأن تركيز المرجع الشيرازي على اشتراط محاسبة النفس لم يأت جزافا.. لأنه ينبع من رؤية ثاقبة تتوغل بعيدا في الأعماق السحيقة للنفس البشرية.. كما أن الالتصاق بالذات الإلهية للفرد الخلوق يجعله راصدا لنفسه حاكما لها ومرغما إياها على الالتزام بالقيم.. ويبقى حارسا أمينا ومستيقظا على الدوام كي ينجز مهمة الضبط الأخلاقي للنفس.. حتى لا تتهالك تحت ضغط الشهوات والرغبات.. فتترك الأخلاق وراء ظهرها.. وتتمسك بما يبسطها ويريحها.
النفس كما يصفها بعض العلماء.. كالفرس الجموح يصعب مسك لجامها وتقنين حركاتها ومساراتها بالاتجاهات الصحيحة.. إلا لمن هو ملمّ بأسرارها ومقتدر على لجمها.. وعامل مواظب يوميا على محاسبتها.. فالمحاسبة الدورية وضبط ذلك بتوقيت زمني لا يقبل النسيان أو الإهمال أو الخطأ.. كفيل بمنح الإنسان شهادة متفردة تحمل في طياتها علامات النجاح المؤزّر.
وقد جاء في المتن القرآني المبارك ما نصه: (لئن شكرتم لأزيدنَّكم).
هذا يُثبت بأن الإنسان إذا كان شكوراً.. فاز بخيرات وفيرة من الله جلَّ وعلا.. وهذا الدعم الإلهي من الصعوبة بمكان الفوز به.. ما لم يُنجَز المقدار الكافي للأخلاق والالتزام الناتج عن محاسبة مستدامة للنفس.. قوامها الضبط والزجر والردع والمحاسبة دون كللٍ أو مللٍ.. لأن ارتخاء الإنسان عن ضبط نفسه ومحاسبتها.. في ظل توافر المغريات الهائلة في عالم اليوم.. يجعلها ضعيفة ومنقادة ولاهثة الى رغباتها بلا حلم ولا تأنٍ.. أما فيما لو كانت المراقبة قوية والرصد حاضرا والمحاسبة على قدم وساق.. والتمسّك بالحضور الإلهي باستمرار.. فإن هذا سوف يجعل النفس ترتدع وتلتزم السير فوق الجادة البيضاء وعدم الانحراف الى سواها.
يكرر سماحة السيد المرجع الشيرازي هذا المعنى في محور نفسي آخر.. حين يُفصح عن ذلك في فحوى هذا النص: (هكذا هو حال من كان الله تعالى حاضراً عنده دائماً، فإن محاسبة النفس لا تغيب عنه ما دام مستيقظاً، وهذا ممكن بترويض النفس بأن يخصص المرء وقتاً من يومه يزيده قليلاً كل يوم، يراجع فيه نفسه وينظر إلى أعماله ونواياه، فكلما رأى خيراً شكر الله وطلب الزيادة وسعى لها، وكلما رأى شراً استغفر الله وطلب منه التوفيق للإقلاع عنه).
بهذا يستطيع الفرد أن يضع بينه وبين السقوط الأخلاقي جدارا متينا من القيم.. يصمد أمام سيول الانحراف التي تتدفق عليه عبر قنوات لا حصر لها ولا حد.. وسوف يكون قادرا على الصمود في عالم المغريات العاري من المحددات الأخلاقية أو سواها.. فلا شيء يمنع عن الإنسان حالات التهافت والضعف سوى رادع أوحد.. تصنعه محاسبة النفس.. في فعل يومي مستمر يصون عالمنا من الانحدار نحو مآل مجهول.
اضف تعليق