في ظل ما يعانيه العالم من حالة اضطراب في الموازين.. خصوصاً حول العدالة بين الشعوب والخلل الحاصل في توزيع الثروات والموارد.. وانعكاس ذلك على الزيادة المضطردة لنسبة المسحوقين في العالم مقابل الأقلية المرفّهة.. بات اليسار العالمي وحتى العربي في وضع ميئوس منه.. فرغم تشبث قيادات اليسار بدور رئيس لتحسين صورة العالم (لا جوهره).. إلا أن الوقائع تشي بالعكس.. حيث اليسارية تواصل انحدارها نحو الضمور والتفسخ.. وفي أفضل الحالات اتجاه بوصلة اليسار نحو التبعية للحكومات القمعية.
وقبل الولوج في معترك الرصد لما آلت إليه اليسارية أو الجناح اليساري.. نجد أهمية في توضيح هذا المفهوم.. فاليسار عبارة عن مصطلح يمثل تيارا فكريا وسياسيا يسعى لتغيير المجتمع إلى حالة أكثر مساواة بين أفراده.. ويرجع اصل مصطلح اليسارية إلى الثورة الفرنسية عندما أيد عموم من كان يجلس على اليسار من النواب التغيير الذي تحقق عن طريق الثورة الفرنسية.. ذلك التغيير المتمثل بالتحول إلى النظام الجمهوري والعلمانية.. ولا يزال ترتيب الجلوس نفسه متبعا في البرلمان الفرنسي.. ثم بمرور الوقت تغير وتشعب استعمال مصطلح اليسارية بحيث أصبح يغطي طيفا واسعا من الآراء لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت مظلة اليسارية.. فاليسارية في الغرب تشير إلى الاشتراكية أو الديمقراطية الاشتراكية أو الليبرالية الاجتماعية.. في أوروبا والولايات المتحدة.. من جهة أخرى تدخل تحت المصطلح العام لليسارية حركة يطلق عليها اللاسلطوية والتي يمكن اعتبارها بأقصى اليسار أو اليسارية الراديكالية.
يُطرح في الساحة المعنية.. تساؤل حول انتهاء دور اليسار علميا (وعربيا).. خصوصا بعد الاصطفاف الشائن (باسم الحرية الفردية) الى جانب الشذوذ والتفسخ الأخلاقي.. بحجة أن اليسارية هي المعين الأول للمكبوتين سياسيا ودينيا.. بيد أن الميدان سرعان ما يكشف الانتهازية اليسارية.. وركونها الى اللفظ الفارغ.. ما يعني انطفاء تلك الجذوة النضالية التي كانت التيارات اليسارية العالمية والعربية تتسم بها.. فيعلن الواقع بلا مواربة أو تردد وقوف اليسار موقف المتفرج ازاء السلطة (الحكومات التعسفية).. والتخلي عن دور المواجهة.
هذا الانشطار في المواقف.. الخداع السياسي من جهة.. والسقوط في الانحلال والتفسخ من جهة أخرى.. جعل من اليسار في خبر كان.. خصوصا أن العديد من المفكرين أعلنوا موت اليسار بصوت عالٍ وبلا أدنى تردد.. فيما لا يزال هناك من هو متمسك بالجذوة الفكرية لليسارية.. والانبهار بالمفاهيم والمصطلحات التي كان لها الدور الفكري الواضح في التصدي للطغاة.. بيد أن الحال تغيّر كثيرا مع اشتداد أزمة المسحوقين عبر العالم.. والازدياد المخيف في الفقراء.. والتراجع المذهل للعدالة المعيشية على مستوى عالمي.. مع محاباة يسارية بائنة للسلطة والطغيان.
عند هذه النقطة بالذات يتساءل أحد المفكرين المعنيين بمعضلة اليسار وتشبثه بماضٍ لم يعد له وجود.. وتمسكه بفضاء فكري بات مندثرا.. قائلا (ماذا تقدم هذه المصطلحات وهذه الطبقة من المثقفين اليساريين لحياة المهمّشين في الضواحي؟ للآباء والأمهات الذين يعملون بوظيفتين لتعليم أولادهم؟ ماذا يقدّم هذا اليسار للشباب المستعدين لركوب قوارب الموت بحثاً عن مستقبل لهم وراء بحار بلدانهم و لملايين الناس الذي يسحقهم النظام يومياً والذين لا يرون من الأنظمة سوى خوذ الأمن وربطات عنق الرأسمالية وعباءات رجال الدين التي تتحالف كلّها ضدهم؟ سيجيب أحدهم أن اليسار سيقدّم لهؤلاء الناس الأدوات الفكرية لفهم واقعهم، لكن في ذلك احتقار هائل للناس، فهل تعتقدون أن من يبيع ملابسه ليدفع ثمن رحلة على قارب للموت لا يعلم أن العالم مكان غير عادل وأنه هنالك طغاة يجب دفنهم وحكومات يجب التمرّد عليها وأغنياء يجب استرجاع حقوقهم منهم؟).
ولكن ليس الإنسان في عصرنا الراهن من الغباء بحيث أنه لا يعرف من الذي يظلمه.. ومن الذي يصادر حقوقه بالعيش المقبول.. فالكل يعرف ما فعلته الرأسمالية.. وصار مألوفا للفقراء ذلك الثراء الفاحش للأقلية.. يعرف المعروفون أن موارد الأرض.. الثروات والأموال تحتكرها الأقلية.. فيما يتضور نسبة عظمى من سكان الأرض جوعا.. ومن المعيب أن نتهم الإنسان بعدم فهم هذا الوضع.. كما من المعيب أن يقصر اليسار دوره على المصطلحات والتبجح الفكري لا أكثر.. خصوصا أن (كل شخص مهمّش وكل شخص فقير يعلم بالفطرة بأن الترتيبات الاقتصادية والسياسية التي يعيش في ظلّها هي غير عادلة بحقّه، وأنها تفيد الأغنياء على حسابه هو، فهل يحتاج هذا الشخص لمصطلحات فاخرة ليسمّي بها واقعه، أم يحتاج لأخوية من المقاتلين إلى جانبه تتيح له انتزاع حقوقه من السلطة؟).
هذا عندما يتم التطرق الى الأفكار والسياسة.. حتى بات من المؤسف أن اليسار قد تحوّل إلى جزء من السلطة خلال العقود الأخيرة، إمّا عبر المشاركة المباشرة فيها أو عبر تبنّي خطابها ومنهجها.. وكما يقول الكاتب نفسه (في العالم العربي جلس جزء كبير من اليسار على يسار الطغاة، وقبِل بالفتات السياسي الذي كان يحصل عليه من الحكم مقابل الاضطلاع بدور استيعاب تململ الفقراء والتنظير لضرورة بقاء الطاغية في الحكم).
وقد يكون هناك قادة أو مفكرون يساريون وعوا واستوعبوا ما يحدث بالضبط على الصعيدين الفكري السياسي والتأثير العملي لتلك الأفكار.. بيد أن زمام الأمور لم يعد بالإمكان مسكه مجددا.. خصوصا في ظل تراجع دور اليسار عالميا وعربيا.. بعد اتهامات له بمحاباة السلطة.. والتعاطي بنعومة معها، فبحسب متابعين أن اليسار الذي بقي خارج السلطة، صار مسحورا بالسلطة، يتعامل معها كأنها أب كلّي القدرة، يخاف منها تارة ويغضب عليها تارة أخرى ويلومها على وضعه أحياناً ثم يطالبها بتحقيق مطلب آخر بنعومة ورفق في أحيان أخرى. في كلّ ذلك تبقى أنظار اليسار موجهة للسلطة ومفتونة بها بشكل دائم، كأن السلطة هي كل ما هناك في المجتمع الذي يعيش فيه.. في حين يؤكد الكاتب نفسه قائلا (يفوت اليسار أن معظم الحكومات باتت أجسام فارغة لا حول لها ولا قوّة، وأن بعضها هي مجرّد عصابة معادية لشعوبها، وأن توسّل أي تغيير منها هو مضيعة للوقت. السلطة الحقيقية اليوم هي في الشركات والجيوش والمؤسسات الدينية والمنظّمات العقائدية وما شابه، ومع هذه السلطات ليس هنالك من مكان للمطالبات السياسية، هنالك مكان فقط للمواجهة والصراع).
أما في جانب الانحلال والانحدار الأخلاقي اليسار.. فهذا صار بيّناً لمن يتابع ويرصد ما آلت إليه مواقف اليسارية تجاه التمادي في تدمير القيم الضابطة للعلاقات الاجتماعية وسواها.. لقد دأب اليساريون على دعم مظاهر التفسخ تحت حجج لم تعد تقوى على تأكيد صحتها.. يقف اليسار عالميا مع الشذوذ والمثلية وتقنين أو شرعنة المواد المخدرة لتدمير ما تبقى من عقول لا يزال التعويل عليها ممكنا.. بيد أن اليسار بات من التراجع بحيث صار يدعم التفسخ جهارا نهارا.. ما أدّى الى صنع بون شاسع بين ماض يدعم كرامة الإنسان وحاضر يدمر أخلاقيات الإنسان وقيمه.. من أجل فتات السلطة أو مراكز الأموال.
بالنتيجة نتساءل.. هل صار اليسار في خبر كان.. وهل بات موته أمرا محتوما.. هذا ما يجيب عنه مفكرون بلا تردد.. فقد أكدوا أن الدور المحوري في حقبة ما لليسار.. لم يعد كما هو.. ويضيف هؤلاء بتأكيد قطعي.. أن اليسارية في سقوطها بمنحدر التفسخ والانحلال الأخلاقي.. وبمحاباتها للسلطة السياسية المتغطرسة.. كُتب عليها الموت.. أو الضآلة في أفضل الأحوال.
اضف تعليق