لم يكن مشهدهُ طبيعيا.. شاب لم يطأ العشرين.. يدهُ ترتجف بشدة.. سائبة متدلية الى الأسفل.. لا يتمكن من السيطرة عليها.. ولا يقوى على تحريكها كما يريد.. عيناه حمراوان.. أرنبة أنفه حمراء أيضا.. ورؤوس الحبوب الدموية تنتشر حول شفتيه.. وجه شقيّ.. هكذا صفة تنطبق عليه بكل ما يعنيه هذا الوصف.. إنه شاب مدمن على أخذ المخدّرات.. فإذا تأخرت عليه الجرعة المطلوبة التي اعتاد عليها جسده في توقيت معين وكمية محددة.. أصيب بهستيريا مدمَّرة ورعاش يصيب ذراعية وكتفيه لينتقل الى جسده كله.. فيكون حاله حال أي كائن يفقد السيطرة على أعصابه وحركاته.. إنه يسير نحو الهاوية.
هذا نموذج واحد لشاب لم يكن محصّنا بالعقيدة كما يجب.. فبدا كأنه قلعة بلا أسوار تحميها من هجمات الأعداء.. فانهال عليه التفسخ والانحلال.. كونه لم يكن محصّنا بفحوى العقيدة التي تعد بمثابة أسوار شاهقة تمنع التفسخ من الاقتراب منه.. ولكن عندما تخلّت القلعة عن الأسوار بإرادتها أو غصباً عنها.. صارت مكشوفة لكل الهجمات (الثقافية السلوكية المحملة بالانحلال).. فأصابت الجسد المكشوف والنفس التي تفتقر الى الحماية.. وبات حاملها شاباً منحلاً متفسخا.. وصار عرضة لموجات لا أخلاقية جعلت من جسده مرتعا لأنواع المخدرات.
آية الله العظمى الإمام الشيرازي الراحل.. يقول عن العقيدة بأنه: (تعد من أهم المسائل المرتبطة بالشباب العقيدة، فإن العقيدة هي التي تحمي الإنسان في مختلف المراحل الحياتية.. والعقيدة الصحيحة هي الضمان بشكل كامل لعدم الانجراف في مختلف المفاسد) كما يأتي ذلك في كتاب يحمل عنوان (الشباب).
بعد أن عرفنا ما يصنعه فراغ العقائد من مآسي.. لنأتِ الآن ونبحث عن الأسباب التي تحرم الشباب من نعمة العقيدة.. لماذا لم يحصل عليها هذا الشاب أو ذاك.. ومن الذي يقف خلف هذا الخلل الكبير.. هل السبب ذاتي فردي يتعلق بالفرد نفسه وأُسرته (أبوه وأمه).. أم هو سبب جمعي مجتمعي.. منظماتي.. مؤسساتي.. ثقافي.. ديني؟؟.. فكل هذه التسميات والعنوانات لها تدخّل شبه مباشر في حرمان الشباب من التحصين العقائدي الديني.. والفكري الذي يكون بمقدوره أن يحمي الشاب من الوقوع فريسة للانحراف بأنواعه.
لقد صار أمرا محسوما ذلك الدور الأخلاقي الذي تقوم به العقيدة للإنسان.. وبالخصوص لشريحة الشباب.. ولكن الحسم الأكثر وضوحا.. تلك الجهات المسؤولة عن حدوث هذا الخرق الكبير.. فالشواهد تؤكد أن الأسرة تتحمل مسؤوليتها عن هذه المعضلة.. والنخب التوعوية التثقيفية الدينية وسواها.. تتحمل مسؤوليتها أيضا.. خصوصا أن الجميع يعرف ماذا يحدث للشباب.. إذا تم تركهم بدون حماية عقائدية فكرية.. إنهم يكونون نهبا للثقافات الغربية والشرقية الداعية للتفسخ والانحلال.. ولأن الشاب بلا درع عقائدي.. فإن اختراقه أسهل ما يكون.
هنا تتوهج العقيدة.. ويتّضح حضورها الآسر والحاسم في وضع الحواجز اللازمة بين الشاب والتفسخ.. بوساطة زرع صمامات وسدود فكرية عقائدية حيوية تجعل من الشاب في منأى عن التأثير الأخلاقي المضاد الذي يستدرجه نحو الانحلال.. هذا هو بالضبط ما تؤديه العقيدة من دور حاسم.. يجعل الشاب في مأمن من الانزلاق في منحدَر التفسّخ والضياع في غياهب المخدرات أو المثلية وسواها من أمراض منقولة عبر ثقافات خطيرة.
الآن يتضح دور العقيدة.. فهي بحسب رؤية الإمام السيد محمد الشيرازي تمنح (عصمة للإنسان وللمجتمع ولو في الجملة، واستنادا لهذا ينبغي على القادة والعلماء الاهتمام بعقائد الشباب كل الاهتمام، وإلاّ أصبح أمره مبعثراً، كما قال سبحانه وتعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً) فإن الإنسان الذي لا ينظّم في مختلف مراحل حياته وفي مختلف أبعادها العقيدية يكون أمره فرطاً، لا يعرف من أين يأخذ وأين يعطي وأين يسير وماذا يعمل وكيف يبني..؟ إلى آخر هذه القائمة).
ومن أسباب فقدان الشباب للعقيدة.. المؤسسة الدينية.. وتخلخل دور الخطباء والموجهين الدينيين عبر المنابر.. أو منصات المحاضرات العقائدية والفكرية.. المنظمات أيضا تتحمل جانبا من هذا الخرق.. الجميع يقع عليه جزء من المسؤولية.. وهذا يدعو بجدية الى البدء بفعاليات عقائدية تملأ الفراغ الحاصل لدى الشباب.. فهل من سبيل الى ذلك.. أو بالأحرى كيف نبدأ بهذه المهمة ومتى؟؟.
من حيث التوقيت.. ليس هناك مفصل زمني محدد.. فالعقيدة بالنسبة للشاب ذات أهمية قصوى.. إنها مثل الماء الجاري.. مثل النهر الذي يقدم للشاب ماء الفكر والعقيدة الصحيحة على طول المدى.. أي لا توقيت محدد ولا مرحلة بعينيها.. ولا زمن معين.. فالشاب يلزم أن ترافقه العقيد مثل ظله.. حماية وحاجز وسور شاهق .. يصد التيارات الفكرية العقائدية المضللة والمنحرفة.. فهذه لا سبيل لدرء خطرها وردع فحواها ومضامينها الشاذة إلا بالعقيدة الصحيحة المستدامة.
من هي الجهات والشخصيات التي تتبنى منح الشباب فرصة الحصول على الفكر العقائدي الصحيح.. وكيف تتم عملية تزويد الشباب بهذا الفكر.. إنها في الحقيقة مهمة ليست عادية ولا روتينية ولا تشبه عمليات التلقين التي تجري في مدارسنا وجامعاتنا بمختلف مراحلها.. نحن لا نرى ثمة فائدة من إعطاء العقائد كما تُعطى الدروس والمناهج بصورة آلية.. هذا الخطأ المستفحل لا يجوز أن يتسلل الى طرق تقديم الفكر العقائدي للشاب.
الخطباء.. رجال الدين.. العلماء.. الدعاة المخلصون.. المختصون في هذا النوع من الفكر.. النخب الدينية والثقافية المعنية.. المؤسسات والمنظمات والجمعيات ذات العلاقة.. هؤلاء جميعا يتحملون مسؤولية زرق الفكر العقائدي في أوردة وشرايين الشباب.. ونعني هنا عقولهم وبما يتناسب مع أذهانهم.. الاستعداد النفسي للشباب مهم في استقبال الفكر العقائدي.. وهذا بدوره لا يتم إلا بوساطة عملية تخطيطية سليمة مئة بالمائة.
التخطيط لوضع الأفكار.. نوعها.. درجة وضوحها.. تنقيتها من التعقيد والصعوبة في الاستقبال.. مراعاة المصدر الذي ننهل منه هذه الأفكار.. على سبيل المثال.. مهم بلا حدود أن يكون الفكر معتدل واضح ينتمي الى الإنسان ويسعى لحفظ قيمته ومكانته وكرامته.. هناك مفاصل فكرية عقائدية تتناغم مع النزعة الفطرية للشاب.. هذه بالتحديد يجب التركيز عليها.. حتى تكون عملية القبول والاستيعاب واسعة ومقبولة لدى أوسع شريحة شبابية ممكنة.
ينبغي أن تكون هناك تقديرات دقيقة لأعداد الشباب.. تُقام استبيانات دقيقة لمعرفة الميول.. تأسيس جمعيات ومنظمات تُعنى بالفكر العقائدي.. وضع برمجة عملية قابلة للتطبيق.. لا يتم ترك الحبل على الغارب.. التخطيط والتنفيذ محكوم بالدقة.. مهمة الدعم المالي والتمويل.. تهيئة كادر تزويد الشباب بالعقائد.. إنه جهد عملاق لا يمكن أن ينتهي الى النتائج المرتقبة بدون التخطيط الدقيق.
وحين توضع الخطط الصحيحة.. القائمة على مسح ميداني لكل ما يتعلق بهذه المهمة التي توصف بأنها صعبة وكبيرة وخطيرة.. وحين تتم تهيئة ما يلزم للشروع بحماية الشباب.. عندئذ نتكل على الله ونبدأ بالشروع في المشروع الضخم أو العملاق.. وتبقى هناك نقطة تتعلق بالدور الملقى على الشباب نفسه.. إنه يتحمل مسؤولية الاندفاع نحو أخذ العقائد.. والتسلّح بها.. فهي كفيلة بحمايته من موجات وتيارات التفسخ والانحلال مهما استفحلت.
اضف تعليق