إن المتابع للإحداث في سوريا منذ انطلاقتها عام 2011، يرى إن اغلب الصراع فيها هو بين مجموعات واتجاهات هما واجهات لدول عالمية وإقليمية تتصارع في سوريا، ومن هذه الدول إيران والسعودية، ففي الوقت الذي تدعم فيه إيران الحكومة السورية بقيادة الرئيس (بشار الأسد)، تقوم السعودية بتقديم الدعم للمجموعات المسلحة ذات التوجهات السلفية والتكفيرية، سواء كان دعما مباشرا لهذه المجموعات مثل (النصرة وجيش الإسلام وجيش الفتح وأحرار الشام)، أو دعم غير مباشر عن طريق طرف ثاني، مثل دعمها لتنظيم داعش عن طريق تركيا.
ولكن بعد أكثر من خمس سنوات من القتال في سوريا، وثبات النظام السوري، وفشل كل المحاولات لإسقاطه، وبعد تدخل روسيا المباشر في الحرب في سوريا إلى جانب النظام، انطلقت المبادرات والتوافقات الدولية بين القوى الكبرى من اجل وضع حل لهذه الأزمة، من خلال عقد صفقات بين أمريكا وروسيا، تتبعها الدول الإقليمية، وعقد مؤتمر نيويورك من اجل وضع حل لازمة سوريا، من خلال عقد مؤتمر بين النظام والمعارضة السورية –بعد تحديد هذه المعارضة- ثم تتبعها انتخابات بعد 18 شهرا.
إذ إن تحرير حلب المدينة المهمة في سوريا للنظام والمعارضة على السواء، الذي استمر لأكثر من شهر، ومقتل السفير الروسي في تركيا يوم 19 كانون الأول برصاص احد رجال الأمن الأتراك، قد يضع الحرب في سوريا في مرحلة أخرى، قد تقود إلى التحرك نحو حل سلمي للازمة في سوريا، بعد إن تدرك كل الأطراف أنها وصلت إلى مرحلة النهاية، وان مصالحها قد ضمنت في هذه الأزمة، حتى الدول الإقليمية مثل إيران والسعودية وتركيا، فان مواقفها قد تتوافق في إيجاد حل للازمة السورية بعد إن وصلت إلى نهايتها، وان هذه الدول تدرك جيدا إن التوازنات بين الدول الكبرى هي أساس كل الأزمات والحلول في المنطقة، حتى إن عملية مقتل السفير الروسي في تركيا، التي تمت إدانتها من كل دول العالم والأمم المتحدة، هي الأخرى سوف تقود إلى حل فوري للصراع في سوريا، لان بعض الدول الإقليمية ومها تركيا قد فقدت زمام السيطرة على إفرادها، إذ إن قاتل السفير الروسي حسب اغلب التحليلات هو ضابط في القوات الخاصة التركية، وهذا يدل على انفلات الأوضاع في أجهزة تعد عماد الدول التركية.
إن الأزمة بين الدول الإقليمية في المنطقة ربما في رأي البعض قد أثرت على مسيرة السلام في سوريا، وهذا جزء من المشهد الدولي والداخلي المختلف بشان سوريا ، إلا إن هناك عدد من الحقائق التي ظهرت على الساحة الإقليمية والتي سوف تضغط على كل الاطراف من اجل الاستمرار بالتسوية وعدم وضع العراقيل إمامها، فالوضع العسكري الميداني في سوريا يخضع بالأساس لصراع إقليمي ـ دولي حاد، يكاد يصل إلى نهايته القصوى، ولن تؤثر أية أزمة إقليمية أو دولية على مسار الصراع العسكري، كما أن المسار السياسي الذي لازال مستمرا، يخضع لاعتبارات دولية تتجاوز الدول الإقليمية (السعودية، إيران، تركيا)، فهو مسار مرتبط بروسيا والولايات المتحدة مباشرة، طبعا دون إغفال التأثير الإقليمي الذي لن يصل بالمقابل إلى حد إحداث خلخلة في هذا المسار، إضافة إلى أسباب أخرى هي:
1- عدم رغبة الإدارة الأمريكية في تصعيد الموقف في الشرق الأوسط، إذ تخشى إدارة الرئيس باراك أوباما من أن يؤثر تأزم العلاقات بين الدول الإقليمية في المنطقة على الحرب ضد تنظيم "داعش" في سورية والعراق، وعلى الجهود الدبلوماسية لإيجاد حل ينهي الحرب الأهلية في سورية.
هذا ما أكدته بعض وسائل الإعلام بان بعض أعضاء من الإدارة الأميركية "انتقدوا، بطريقة غير معلنة، استفزاز السعودية للشيعة" من خلال تنفيذ الإعدام على عالم الدين الشيعي (نمر النمر)، الذي اعتقل قبل سنتين وحكم عليه بالإعدام وأكد مسؤولون في الإدارة الأميركية قولهم "إنهم يلعبون لعبة خطرة"، في إشارة إلى الساسة في السعودية، وتعبر الإدارة الأميركية، من جهتها، في كثير من الأحيان عن مخاوف بشأن الممارسات القضائية السعودية، خاصة في قمع المعارضة السياسية السلمية، ويقول مسؤولون في الإدارة الأميركية إن تصرفات السعودية ستكون لها تداعيات في المنطقة وفي جميع أنحاء العالم الإسلامي، كذلك انتقدت أمريكا وبشدة مقتل السفير الروسي في تركيا، وبهذا فان هذه المواقف ستكون عائقا بوجه أي توجه سعودي لعرقلة الحل في سوريا، فقد أعلن السفير السعودي لدى الأمم المتحدة (عبد الله المعلمي) أنّ الأزمة مع إيران لن يكون لها تأثير على جهود السلام في سوريا واليمن، وأنّ الرياض لن تقاطع محادثات السلام المقبلة حول سوريا ا برعاية الأمم المتحدة.
2- على الرغم من إن الموقف الإيراني كان دائما يعتبر بقاء (بشار الأسد) في السلطة خطا احمر، ويعتبر أنّ كل المعارضة السورية تقريبا، وخصوصا المقيمة منها في الخارج لا يمكن أن تتجاوب مع مصالحه في سوريا والمنطقة، وانه من الداعمين الأساسيين لخط المقاومة، إلا إن موقف الحكومة الإيرانية لا يرتبط بسوريا ومصير الأسد فقط، بل يرتبط بوضعها الجديد بعد الاتفاق الدولي بشان ملفها النووي، والى ذلك تذهب اغلب التحليلات إلى أنّ الموقف الرسمي الإيراني من التسوية في سوريا يرتبط إلى حد كبير بالقوى الفاعلة في إيران، هل سيحدد التيار البراغماتي الذي يمثله الرئيس روحاني الموقف الإيراني لوحده أم سيستحوذ التيار الثوري الأيديولوجي على صياغة القرار لحل الأزمة في سوريا؟، أعتقد أن الحكومة الإيرانية ستبذل كل ما في وسعها لتجاوز حالة العزلة الإقليمية التي تحاول السعودية الآن فرضها من جديد وستحاول أيضا العودة إلى المجتمع الدولي من بوابة الصفقة النووية، هذه هي الأولوية الكبرى حاليا لطهران، حتى وان كانت إيران غير معنية كثيرا بالعلاقة المباشرة مع السعودية، لكنها تدرك مدى التأثير السعودي في المنطقة التي بدت ملامحه واضحة إذ إن (البحرين والسودان وجيبوتي يسحبون سفراءهم من طهران، الأردن والكويت وقطر يستدعون السفراء الإيرانيين)، ويمكن أن تتوسع الأمور إلى أكثر من ذلك.
3- إن توجه تركيا نحو روسيا وإيران بعد تحرير حلب لم يأتي من فراغ، أو من موقف المهزوم، بل من موقف الباحث عن حل للازمة يحقق لها الأمن والاستقرار في الداخل، وتحقيق بعض النفوذ في الخارج، كما إن حادثة مقتل السفير الروسي في تركيا، سوف تعجل من تراجع تركيا في المنطقة للحفاظ على استقرار وضعها الداخلي، إذ ان مقتل السفير من قبل ضابط امن تركي، وهو منصب رسمي يعد خرقا امنيا كبيرا على تركيا إن تتحمل نتائجه كافة، خاصة بعد إن تم إدانة العملية من كل دول العالم ومن اقرب حلفاءها وزارة الخارجية السعودية التي عبرت عن إدانة المملكة واستنكارها الشديدين لمقتل سفير روسيا في تركيا، وأكدت أن هذا العمل يتنافى مع القوانين الدولية، ومبادئ حماية الدبلوماسيين والمبعوثين الدوليين، والمبادئ والأخلاق الإنسانية، وهذا يعني ضمنا إدانة لتركيا لتقصيرها في حماية السفير، وفي نفس الوقت هروب من المسؤولية.
4- إن اغلب الدول العربية غير راغبة في إثارة التوتر مع إيران، أو قطع العلاقات معها، فاغلب الدول العربية المهمة في المنطقة لها سياساتها الخاصة البعيدة عن السعودية، مثل مصر والجزائر والعراق، حتى دول الخليج العربية لم تكن موحدة ضد إيران، فباستثناء البحرين التي قطعت علاقاتها بإيران، علما إن علاقاتهما شبه مقطوعة منذ الانتفاضة في البحرين عام 2011، فان اغلب دول الخليج غير راغبة بزيادة التوتر مع إيران، خاصة وان بعضها لها علاقات اقتصادية قوية مع إيران مثل الإمارات وقطر والكويت التي اكتفت باستدعاء سفيرها فقط، وسياسية وأمنية مثل وعمان، كذلك ضغط العديد من هذه الدول على السعودية بعدم زيادة التوتر مع إيران خوفا على دخول المنطقة في مرحلة من عدم الاستقرار، لهذا فان السعودية تدرك خطورة الموقف في المنطقة.
5- أما روسيا، فتدافع عن آخر قواعدها في الشرق الأوسط، وهي قاعدة طرطوس في سوريا، وبالتالي فإن تحالفها مع بشار الأسد تحالف مصيري يرتبط بالمصالح الروسية، لذلك فان عقد صفقة مع واشنطن على ضمان مصالحها في المنطقة، فانه سوف يجعل من روسيا تقبل بالحلول السياسية في سوريا، وتقف ضد كل من يحاول عرقلة الحل في سوريا، حتى لو كان من اقرب حلفاءها وهو إيران.
6- ظهور أصوات من حلفاء التحالف الغربي في التأثير على مواقف الدول الإقليمية من مسيرة التسوية في سوريا، وما ظهر منها تحديدا هو أصوات في أحزاب الائتلاف الحاكم والمعارضة في ألمانيا تعالت مطالبة بوقف توريد الأسلحة للرياض، وفي هذا الصدد، قال خبير شؤون التسليح في الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري، هانز- بيتر أول، في تصريحات لصحيفة (أوغسبورغر ألغماينه) نقلتها وكالة الأنباء الألمانية "من البديهي إعادة التفكير الآن في مستقبل العلاقات مع السعودية، التي كانت تعتبر لفترة طويلة عامل استقرار في منطقة غير مستقرة"، رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الخضر الألماني المعارض (أنطون هوفرايتر) طالب هو الآخر الحكومة الألمانية بمراجعة العلاقات مع السعودية وقال في تصريحات لصحيفة (نويه أوسنابروكر تسايتونغ) الألمانية " أنه لا يتعين على الحكومة الألمانية الاستمرار في دعم مثل هذا النظام الاستبدادي في الرياض"، كما إن هناك انتقادات واسعة في الصحف الأوربية لتصرفات ولي ولي العهد السعودي (محمد بن سلمان)، وان سياساته ستقود المنطقة إلى الفوضى.
7- إن جهود الأمم المتحدة منصبة على إيجاد حل للازمة في سوريا، فقد أعرب المبعوث الاممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا خلال زيارته للرياض وطهران عن عزمه العمل على ألا تؤثر التوترات الأخيرة التي طالت المنطقة سلبا على حل الأزمة في سوريا وفقا لاتفاق فيينا أو على مسار الحل السياسي الذي تعمل الأمم المتحدة بجانب مجموعة الدعم الدولية على تحقيقه في جنيف قريبا.
إن ما يجري في المنطقة من أحداث دراماتيكية، قد طالت بعض مسؤولي الدول الكبرى والإقليمية، وهي إن بدت مثيرة للأوضاع في المنطقة وقد تقود إلى حرب أو صراع وتنافس شديد بين هذه الدول، إلا إن الملاحظ إن هذه الأحداث بدأت تؤثر على أوضاع الدول الإقليمية والكبرى نفسها، وبدأت هذه الدول تراجع سياساتها في المنطقة، بل اتجهت أخيرا إلى اللقاءات وطرح الحلول من اجل إنهاء أسباب الصراع في سوريا، وان اللقاء المرتقب نهاية شهر كانون الأول بين وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا بعد تحرير حلب سوف يضع النقاط على الحروف وقد تكون هناك تسوية سياسية قريبا في سوريا.
اضف تعليق