يقال أن الزرع زرعان، زرع الشجر وزرع الأثر، فإن زرعت الشجر ربحت الظل والثمر، وإن زرعت طيب الأثر حصدت محبة الله والبشر.. هناك من يزرع الشجر كي يرتاح تحت ظله ويستفاد من ثمره، وهناك من يزرع الأثر هنا وهناك فيكسب محبة الناس وودهم.
الإنسان باستطاعته أن يصل إلى أعلى المراتب ويكون مبدعا متميزا وذا شخصية نافرة، فيكسب ودّ الناس وإعجابهم واحترامهم بالإضافة الى كسب أعلى درجات الرضا والرضوان، وباستطاعته أن يتكاسل فينتكس ويتراجع ويضمر، ثم يكون في أسفل سافلين.. تُرى أيهما سيختار الإنسان الذكي الواعي.. وهل يحتاج هذا الى سؤال من هذا النوع؟؟، بالطبع سوف يكون الاختيار نحو الأفضل.. لكن هذا يتطلب جهدا وإرادة إذا امتلكهما الإنسان نجح، وإذا تراخى عنهما أخفق.
يا ترى كم مرة جلسنا وفكرنا واختلينا بأنفسنا، ثم فكرنا بأقوالنا وأعمالنا وواجباتنا؟ هل اعتدنا أن نراقب ذواتنا، هل فكرنا بمتابعة أنفسنا لمعرفة الاتجاهات التي تقودنا إليها؟ أم أننا تعلمنا أن نركض مع الأيام كما تشتهي، ونترك باقي الأمور للريح تأخذها حيث تشاء بلا مراقبة أو توجيه أو تصحيح؟.
هناك مواقف نُحِتَتْ فوق جدران ذاكرة الدهر بواسطة أناس عظماء..
إنهم أولئك الذين نبتسم عندما نسترجع ذكرياتنا معهم..
الذين كلامهم يمثل بلسماً لجروحنا..
الذين هم، هم!.. ولا بديل لهم.. ولا أحد يشغل مكانهم في الذاكرة أو الواقع..
إنهم أولئك الذين لا يعرفون التمثيل أو وضع الأقنعة على وجوههم، أولئك هم من يجب أن يُحترَموا لأجل معدنهم الأصيل !ويجب أن يحترَموا لذواتهم وشخصياتهم ومشاركاتهم وأفعالهم ومساهماتهم في تطوير الميدان البشري بكل مكوناته ونقاط ضعفه وقوته، نحترمهم لأنهم غيروا العالم.. غيروا المكان والزمان.. غيروا الإنسان.
لا نحترمهم لأجل ملابسهم الجديدة الغالية الثمن، أو ماركاتها المسجلة الثمينة، ولا نحترمهم لأجل أموالهم، لاسيما أننا نعيش في زمن أصبح فيه أكثر الناس يبحثون عن أي شيء يُضاعف جمال المظهر بصورة أفضل، في حين هناك أناس يتركون كل هذه الأمور وراء ظهورهم، ويسلكون طريق الإنتاج والإبداع والتميز ببساطة وهدوء ومن دون لغط أو صخب أو هرج.
هناك أناس نشعر معهم بأن الخير لا زال يحكم العالم.
هناك أناس يعيشون ببساطة، يقدمون للآخر كل ما يتمكنون منه.. وكل ما يسعد الآخرين، في نفس الوقت لا يتوقعون أي مقابل ولا يبحثون عن شيء إزاء ما يقدمونه لنا، إنهم أولئك الذين يحبون الإنسان والخير بصدق، الذين هم يدُ عَون في كل الأمور كما أوصى بذلك أمير المؤمنين عليه السلام: "يا بنيّ عاشروا الناس عشرة إن غبتم حنّوا إليكم، وإن فُقدتم بكوا عليكم".
هذه الحياة كأنها مسرح، كل شخص يقدم فيها ما لديه، البعض يقدم أفضل ما لديه والبعض لا يكترث للأمر وكأنه لا يعنيه من قريب أو بعيد، هنا يكمن الاختلاف بين الصنفين، الصنف الأول هو من يبقى اسمه خالدا بسبب دوره الجميل في تطوير الحياة والوقوف الى جانب الناس. والصنف الثاني سوف يُمسح اسمه من ذاكرة التاريخ.
لو أننا قرأنا سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام، لوجدناها مليئة بأخبار الذين اعتنقوا الإسلام تأثراً بالمعاملة التي قابلهم بها نبينا الأكرم وأئمتنا عليهم أفضل الصلاة والسلام، كقصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ذلك اليهودي الذي كان يرمي القمامة على باب النبي وهناك نماذج كثيرة من هذا النوع.
كذلك فإن القرآن الكريم ينادي إلى حسن العشرة كما ورد في قوله تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورا).
فيما يوصي النموذج الأمثل للإنسانية الإمام علي عليه السلام، بنيه بالمحافظة على مداراة الناس والمعاملة الحسنة التي تصل إلى المستوى المطلوب، الى الحد الذي لو غاب صاحب تلك المعاملة الحسنة، لحنَّ الناس إليه واشتاقوا إلى رؤيته ومجالسته والاستماع إلى قصصه الرائعة، وكذلك إن فُقِد أو مات لبكوا عليه لأنهم لم يقدوا برحيله إنسانا متكاملا فقط، بل إنه ملاك في ثوب إنسان، كونه صاحب قيم عظيمة، ونظرة رأفة وود، ووجهاً من وجوه الأمل والسعادة، لأنها متجسّدة تماما في صاحب العشرة الطيبة.
إذاً باستطاعة الإنسان أن يزرع الخير أو الشر، ولكن لو زرع الشر سوف يقول عنه الناس عند غيابه أو فقدانه، لقد انقطع ظلمه، وانتهت كلماته الجارحة وأراحنا اللَّه من وجوده!.
أحيانا لو مررتَ بذكرياتك، لابتسمت عند تذكر بعض الأشخاص، واشتقت لرؤيتهم ودعوت لهم بالخير، وفي المقابل ربما يعتصرك الألم وأنت تتذكر أقوالا ومواقف قد تفقدك صوابك وتكره مرورها في ذاكرتك مرة أخرى! فهنالك أناس كثيرون يدخلون حياتنا بطريقة أو أخرى، نحن لم نختر ساكني قلوبنا بل هم من يفعلون ذلك بمواقفهم وأخلاقهم.
كنموذج من النماذج الجيدة للناس الذين مروا في حياتي عمتي، كانت امرأة عظيمة في بساطتها، وقد علمتني أن الأخلاق تصنع للإنسان شخصية مرموقة في المجتمع وتميزه وتحببه للناس، علمتني أن أبادر دوما بالأعمال التي تأخذ بيد الإنسان الى النجاح والدرجات العُلى، وعندما أوشكت عمتي على الرحيل، كنت أراقبها كي أرى ماذا سيكون مصيرها، وهي التي لم تترك صلاة الليل ولم تتكلم عن أي أحد بالسوء، أردت أن ألحظ كيف سيكون وضعها وحالها عند لحظات الوداع؟ وكيف تكون هذه اللحظات العصيبة بالنسبة لزائر الشهيد الحسين عليه السلام، من المؤكد أن لحظات النهاية ستكون أحلى من العسل، نعم لقد ودعت العالم بصمت، ولكن بيَّنت بأعلى صوتها، إن من عمل عملا صالحا سيرى نتيجة أفعاله في الدنيا قبل الآخرة، وقد نالت شرف مجاورة الحسين عليه السلام.
لقد تعلمت من هذا النموذج الذي يسكن ذاكرتي الى الأبد، بأن البساطة هي جمال طبيعي أفضل ألف مرة، من ربطة عنق أنيقة وملابس فاخرة وحقيبة آخر ماركة.. فيا أيها الإنسان.. رجلاً أو امرأة..
كن بسيطا متعاونا مبادرا للخير.. تكن أجمل دائما.
اضف تعليق