كان الكثير من المحللين والمتابعين للحرب في سوريا والعراق يعتقدون بان التطورات التي حدث في الاشهر الاخيرة اعطت دلالة على قرب انتهاء ملف الحرب في هذين البلدين، من خلال اقتحام الجيش العراقي لمدينة الموصل اخر معاقل داعش في العراق وتقدمه مع القوات الساندة، فيما تقدم الجيش السوري وحلفائه للسيطرة على مدينة حلب الاستراتيجية واستعد محور (٣+١) (سوريا، ايران، روسيا+ حزب الله) للاحتفال بالنصر التام على الجماعات المدعومة خليجيا وامريكيا بعد معارك انهكت الطرفين.
لكن عدة تطورات حدثت في الايام الاخيرة اكدت مرة اخرى صعوبة التنبؤ بما يحدث في ميدان الحرب ضد الارهاب في سوريا والعراق، ففي سوريا انقلبت الموازين رأسا على عقب في ضل الاستعدادات لإنهاء ملف حلب، بعد هجوم عنيف شنّه مسلّحو تنظيم "داعش" على محاور عدة في بادية تدمر شرق حمص، أسفر عن تراجع على بعض المحاور لقوات الجيش السوري والفصائل التي تؤازره، وانتهاء باعتراف سوريا وروسيا رسميا سيطرة داعش على مدينة تدمر وانسحابهما منها، في وقت تستعدّ فيه مدينة حلب لإخراج ما تبقى من مسلحين من الأحياء الأخيرة المحاصَرين فيها في القسم الجنوبي الغربي للأحياء الشرقية، مع عودة نشاط عمليات مسلّحي "درع الفرات" التابعين لتركيا نحو مدينة الباب شرق مدينة حلب، والتي توقفت خلال الأسبوعين الماضيين. اذ تابعت الفصائل المشكِّلة لـ "درع الفرات" التي تديرها تركيا عملياتها باتجاه مدينة الباب، تحت غطاء جوي تركي مكثف، حيث تمكنت الفصائل، التي تضمّ فصائل "مسلحة" مثل "أحرار الشام"، من التقدم والسيطرة على قريتي الدانا وبراتا ومدرسة الزراعة والصوامع غرب المدينة، بمشاركة قوات خاصة تركية.
هجوم "درع الفرات" الجديد يأتي بعد إعلان تركيا إرسال 300 جندي تركي جديد إلى سوريا، وعودة تنشيط الطلعات الجوية على مواقع تنظيم داعش الارهابي في الباب ومحيطها، حيث تسبّبت الغارات التركية بمجزرة في المدينة راح ضحيتها 15 مدنياً وأصيب نحو 20 آخرين، وفق مصادر اعلامية وشهود العيان الذين أشاروا إلى أن عدد الضحايا قابل للارتفاع في ظل وجود مفقودين تحت الركام، موضحين أن من بين القتلى عائلتين كاملتين.
تزامن هذين الهجومين يوحي بانه جاء ردا على الانتصار المنتظر للجيش السوري وحلفائه، فداعش ارادت اثبات وجودها مجددا بعد ان غاب نجمها تحت رحمة الهجمات المتتالية للقوات العراقية والسورية والتحالف الدولي، واستغلت فرصة انشغال محور روسيا في انهاء ملف حلب للانقضاض على مدينة تدمر التي تمثل رمزية كبيرة يسطع من خلالها نجم داعش مجددا الذي اعتاد على اقتناص الفرص والاماكن المناسبة، اما هجوم القوات التركية على مدينة الباب يبدو انه خرق للتفاهمات الروسية التركية حول حدود التوغل التركي في الاراضي السورية.
الجانب الروسي القى بمسؤولية سقوط تدمر على الجانب الامريكي، باعتباره طرفا فاعلا في الحرب ضد الارهاب لم يسهم في الارتقاء بمستوى التعاون العسكري مع روسيا، وقال دميتري بيسكوف، الناطق الصحفي باسم الرئيس الروسي، الاثنين 12 ديسمبر/كانون الأول، إن التنسيق الفعلي للعمليات العسكرية والتعاون مع دول أخرى، وبالدرجة الأولى الولايات المتحدة، كان من شأنه أن يسمح لكافة الأطراف بالحيلولة دون وقوع مثل هذه الهجمات. لكن واشنطن ترفض حتى إطلاق التعاون مع روسيا. كما أشار بيسكوف إلى "عملية دفع مجموعات كبيرة من الإرهابيين" على الخروج من العراق باتجاه سوريا، ما يتيح لهم إنشاء تشكيلات ومجموعات كبيرة نسبيا في أراضي هذا البلد والبدء بشن هجمات.
روسيا لم تترك الامور تسير خارج نطاق سيطرتها ولا تريد الخروج خاسرة في هذه المرحلة الحاسمة فقد حاولت توظيف هذه الانتكاسة لصالحها من خلال العمليات الدعائية التي تروج لأهمية التدخل الروسي في سوريا، وتجدد تمسكها بمشروعية ذهابها الى الحرب هناك، لا سيما وان تدمر تمثل قيمة حضارية للبشرية كما يصفها المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف اذ قال: "تدمر مدينة سورية. والحديث يدور ليس عن فقدان روسيا لتدمر، بل علينا أن نطرح الأسئلة بالصيغة الصحيحة. ويمثل خطر فقدان تدمر ضربة تضر بالبشرية المتحضرة برمتها، التي باتت، بسبب انقسامها على خلفية خلافات، وبسبب تأثرها بمواقف مسيسة منحازة ومفاهيم لا تصب في إطلاق التعاون، تجلس مكتوفة اليدين، ولا تفعل شيئا في الواقع لمحاربة الإرهابيين الدوليين في تنظيم "داعش".
ما حدث في الايام القليلة الماضية يثبت مجددا ان لا حلول في الافق وان الصراع الدولي لا يزال على اشده على الميدان السوري، فالحسم بعيد المنال وتعكير المزاج الروسي من خلال بعثرة اوراق الاستعداد للاحتفال بالنصر في حلب قد يثير تحركات عسكرية كبيرة لإثبات السطوة الروسية في سوريا، اما التفاهمات التي تجري هنا وهناك فلا يمكن التعويل عليها كثيرا ولا تتعدى اصول تكتيكات الحرب، وبما ان الحرب لم تفرز اي رابح او خاسر بشكل واضح وجلي حتى الان؛ فان الحرب لا تزال قائمة وفاتورة القتل مفتوحة لكل الاحتمالات، واعان الله الشعب السوري على جراحاته.
اضف تعليق