القضية الاكثر اهمية لدى الكثير من العراقيين "قادة ونخب ومواطنين" هي مرحلة ما بعد التحرير، حتى اصبحت هذه العبارة مملة وغير مستساغة للكثير من المواطنين، وكل ما يقدم من طروحات في هذا السياق يدور في فلك ادارة الدولة بشكل عام على المستوى الداخلي والسياسة الخارجية وادارة المناطق المحررة بشكل خاص.
كيف سوف يدار العراق في المستقبل؟ هذا هو السؤال الابرز ومنه تتفرع الاسئلة الاخرى والتي غالبا ما تعبر عن مخاوف اكثر من كونها تساؤلات، فالثقة مفقودة بين الطبقة السياسية الحاكمة والكل يخشى من الكل، هناك من يخشى ان يستاثر غيره بما حصل عليه اثناء فترة الحرب ضد العدو الارهابي، والبعض الاخر يطمح للمزيد قبل فوات الاوان، وقد انعكست هذه الاوضاع المرتبكة على ثقة المواطن بمن يتولى امر ادارة شؤون الدولة العراقية، فهو (المواطن) ايضا يسال عن الادارة المقبلة للبلاد ويتخوف من تكرار سيناريوهات الماضي، خشية اني "يعيد التاريخ نفسه" كما هو شائع لدى الشارع العراقي.
التسوية السياسية التي طرحها التحالف الوطني لا يمكن التعويل عليها، فمواثيق الشرف التي اطلقتها الكتل السياسية في مراحل سابقة لم تغير في معادلة الازمات اي شيء ومخرجاتها كانت لا تتعدى ضخ بعض الوقود للعملية السياسية المتعطشة لمن ينقذها، والتسوية الحالية يُعتقد انها لا تختلف كثيرا عن سابقاتها بل قد يضاف لها متغير الصراع الجديد، فقد كانت سابقاتها تتعلق بالصراع الدائر بين الكتل السياسية نفسها، اما الان فهذه التسوية تأتي لاستعادة مكانة تلك الكتل مقابل صعود الصوت الشعبي الذي استطاع ان يربك ساسة المنطقة الخضراء.
التسوية تفتقد للبوصلة ولم تحدد نقطة الانطلاق لهذا المشروح ولا برنامج عمل يرتبط تنفيذه بمدة زمنية محددة، اما ان يكون مفتوح النهايات فهذا اكبر خطأ، بل ربما هذا هو اكبر دليل على عدم جدية المشروع، فمشروع وطني كبير كهذا يفترض انه سوف يخضع للتقييم والتقويم خلال مدد زمنية مختلفة للوقوف على المعوقات وايجاد البدائل، وكلمات التسوية الانشائية قد تكون سبب اخر سوف يعجل في فشلها.
لهذه الاسباب نجد ان صوت الشارع العراقي ارتفع عاليا متخوفا من مشروع التسوية من اجل ان لا يستخدم كستار للتغطية على مشروع "دفن المطالب الاصلاحية" بصمت قبل بدء الموسم الانتخابي، وهذا يعني عودة نفس شخوص العملية السياسية التي كانت احدى اكبر الاسباب في وصول البلد الى ما هو عليه الان، وبالفعل فان هذه المخاوف الشعبية في محلها، فمشروع الاصلاح لم يعد له ذكر في نشرات الاخبار وانتصارات الجيش والقوى الساندة وُظِفتْ بطريقة ذكية لكبح جماح اي صوت اصلاحي.
بعض المتابعين يقولون ان هذه التسوية محاولة للعودة الى مرحلة ما قبل الاصلاح، فأوراق ساسة المحاصصة قد تبعثرت اما بسبب الازمات الامنية والعسكرية التي اربكت الوضع العام، او بسبب الضغط الجماهيري الذي حطم ابواب القصور السياسية.
الصراع الدولي كان سببا كبيرا في وصول العراق الى هذا المستوى من التأزم ومن ثم لا يمكن الحديث عن مشروع وطني جامع لمرحلة ما بعد التحرير دون الاخذ بالاعتبار مستوى النفوذ الدولي والاقليمي الذي سوف يقوض اي مشاريع سياسية وطنية، وبما ان الصراع الاقليمي يأخذ منحى متصاعدا مع صعود الاحزاب اليمينية المتطرفة واسترار نشاط الجماعات الارهابية، فلا يمكن الحديث عن مشاريع عراقية قابلة للتطبيق، فكل دولة تجد في العراق الحلقة الاسهل لإظهار قوتها وتفوقها على خصومها، فمن الصراع الايراني السعودي التركي القطري الى الصراع الروسي الامريكي، بل ويتشابك هذا الصراع ويتداخل الى حد صعوبة فهم بعض اتجاهات الفاعلين فيه.
في ظل هذا الكم الهائل من الصراعات داخل العراق نجد وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء والكثير من مسؤولي الحكومة التنفيذيين يؤكدون على ضرورة عدم تبني سياسة المحاور، وهنا لا يمكن بالضبط فهم المغزى الاساسي من هذا الطرح، فهل نحن لدينا نفس النموذج السويسري حتى لا نتبنى سياسة المحاول؟ أليست السياسة الحديثة تقوم على المصالح؟ وهل يعرف ساسة العراق ان هناك عشرات الاحلاف السياسية والعسكرية التي لا تعني دائما الحرب بل انها تؤدي في الكثير من الاحيان الى تجنب الحرب، والدولة التي لا تملك الكثير من الخيارات والتحالفات سوف تصبح الحلقة الاضعف ما يجعلها ساحة لتصفية الحسابات بين الخصوم الكبار في الوقت الذي ينتقل العالم الى تبني حروب الوكالة.
اذا ما اريد للعراق ان يستقر فالأولى بحث الاسباب التي اوصلته الى هذا الوضع، ومن اهم هذه الاسباب هو الفساد السياسي الذي يراد له ان يعود عن طريق التسويات السياسية، وفي المقابل على العراق باعتباره دولة غير محددة التوجهات على الساحة الدولية ان تحدد وجهتها مع من تكون، هل هي في المعسكر الشرقي ام في المعسكر الغربي مع الاخذ بعين الاعتبار مصالح البلد العليا، وفي كلا الحالتين لا يمكن توقع حدوث اي تغيير لا في الطبقة الحاكمة ولا في سياسة العراق الخارجية، ما يعني ان البلد لا يزال يراوح في مكانه بل ربما يتراجع للوراء، وكيف لا وهو يعيش تحت رحمة تقبات اسعار النفط التي اجبرت المواطن ان يعيش التقشف بأقسى صوره.
اضف تعليق