ليس هناك مفهوم أكثر اغترابا في حياتنا الاجتماعية من مفهوم الدولة، فالدولة لا زالت تعاني من ذلك النبذ على مستوى الوعي الاجتماعي، بعد ان رسخت في بواطنه مفاهيم القبلية والعصبية والتي هيمنت كمفاهيم اجتماعية على صورة الدولة في هذا الوعي في ما بعد الحرب العالمية الاولى، وكانت اسوأ اقتران بين الاجتماع والسياسة، وتكشف عن اختفاء تمايزات المجالات في حياتنا لأنها جاءت نتاج مؤثرات خارجية صرفة هي الهيمنة الاستعمارية الغربية وتطورات الرأسمال–الصناعي في القرن التاسع عشر الميلادي، فهي لم تعبر عن جدلية تطور داخلي اقتصادي، سياسي، اجتماعي، وانما منحت هذه الدولة هويتها القطرية ونظمها السياسية الحديثة بإرادة كانت تتشكل وفق متغير دولي خطير هو الحرب العالمية الأولى مما أكسبها ذلك البعد الأكثر اغتراباً في طروئها على مستوى الشعور الاجتماعي العام.
لقد عانت الدولة في مخيلتنا الاجتماعية بين اغتراب مفهومها في وعينا غير المستجيب الى تحولات العصر الحديث وبين طروء الشعور بها، فلم نعهد هكذا دولة في تاريخنا، في تراثنا، في ثقافتنا.
لقد تحول اغتراب الدولة في وعينا وطروء الشعور بها الى علامة فارقة على طريق السلطة في الدولة، فالسلطة استثمرت اغتراب مفهومها في تجيير الدولة لصالحها ومن ثم الاستحواذ عليها، واخيراً استبدالها بذاتها اي ذات السلطة، فعانت الدولة اغترابها في السلطة، واختفت في نسق حياتنا الاجتماعية بعد عملية الاستبدال تلك، وكان يشجع على استبدالها ومن ثم الغاءها واختفاءها في حياتنا هو مستوانا الثقافي–الاجتماعي، ومستوانا الاجتماعي الخاص، طبقاتنا وفئاتنا التي ألفت تلك الهوامش وإقصاءات المركز ونبذه السياسي وغالباً ما عبر الفكر الاجتماعي التقليدي لدينا عن قناعات خاصة وقدرية تكشف عن قبول ذاتنا بهذا القدر السياسي الذي كان ينظر اليه على أنه قدر تاريخي بل وقدر تاريخاني، ويفسر في غالبه تفسيرا دينياً بدخول فكرة القدر في تفسيراتها –تفسير الدولة والعلاقة بها– وهو ما كان يعزز في ذاتنا اغتراب مفهوم الدولة الحديثة التي تنبني تفسيراتها وفق مقولات نظرية، تاريخية، اجتماعية، اقتصادية، وقاسم تلك المقولات هو اختفاء فكرة القدر في تفسيراتها.
ومن خصائص دولة القدر إنها تنشأ وتتكون في لحظة واحدة عبر القوة والاستيلاء والحرب-الفتح وهي طبيعة الدولة القديمة ودولة الانقلابات العسكرية التي تتشكل دولنا وفق قواعدها وأساليبها ورؤاها السياسية الضيقة والمستنبطة بمفاهيم وتصورات القبيلة والعصبة، بينما تستند الدولة الحديثة في تكونها الى جدلية تطورية داخلية تمر عبر مستويات اقتصادية وسياسية واجتماعية ومن ثم ثقافية، وهي وليدة عمليات تحول طويلة الأمد وهي عبارة نقتبسها من روبرت ماكيفر في وصفه للديمقراطية باعتبارها شكلاً من أشكال الحكومات التي يشترط أعداداً طويلاً لبلوغها بخلاف الأوليغاركية التي تظهر في لحظة انقلاب وتكون ذات طابع فجائي في ظهورها وحكمها – تكوين الدولة، روبرت ماكيفر، ص219-.
اذا فالدولة الحديثة أو دولة الديمقراطية والمواطنة هي رهينة عمليات تحول واعداد وفي عملية تحولها طويلة الأمد فهي مرتهنة تبعاً لذلك بتحولاتها نحو أشكال من الحكم أكثر ملائمة ومعبأة بتجارب التحول نحو الأصلح في النظام.
لقد كانت العلمنة تمر بسيرورة تاريخية طويلة من أجل تثبيت صورتها القانونية والسياسية في الدولة الحديثة وعانت صراعاتها مع الكنيسة بالرغم من صعود العلمانية المبكر في دول مثل فرنسا، فقد انقطعت فرنسا جزئياً عن الكرسي الرسولي في عهد فيليب الجميل وقد حكم من 1258م الى 1314م ووصولاً الى شارل السابع الذي أصدر مرسوم بورج عام 1438م وهو ينص على عدم اعتراف ملك فرنسا بأية تبعية لأية سلطة عليا على هذه الأرض، وهو ما عرف بالغاليكانية وصولاً الى مرسوم 12 تموز عام 1790م الذي اخضعت فيه الكنيسة الى الدولة حتى النظام الوئامي في عام 1801م الذي حكم العلاقات بين الدولة والكنائس، وكانت الدولة تعترف وترى كل الكنائس والديانات، واستمر حتى عام 1905م حيث وضعت فرنسا قانوناً يقضي بفصل الكنائس عن الدولة والغاء نظام العبادات المعترف بها، وبذلك انفصلت السلطة المدنية في فرنسا عن الدين وتمت علمنة فرنسا بشكل عام بعد أكثر من أربعة قرون، وفي دستور عام 1946م تم تأكيد مبدأ الحياد والعلمنة بالنسبة للدولة الفرنسية–العلمانية، غي هاشير، ترجمة رشا الصاغ، ص8 – 18.
وعلى ضوء المعيار او شروط التحول طويل الأمد في الدولة الحديثة نستطيع ان نفسر اغتراب مفهوم الدولة في ثقافتنا وفي حياتنا بالنظر الى فجائية تكونها وعنصر استحداثها وبقصد ظاهر مما جعل من استساغتها في ذاتنا أمر خارج عن ارادتنا لأنها طارئة لم تخضع الى جدلية او قانون التحول الطويل الامد في الدولة الحديثة، ولم تستوعبها قناعاتنا الفكرية والنفسية لانها قناعات لم تمر بإعداد ضروري ومكثف ودؤوب في استيعاب حداثة الدولة او الدولة الحديثة ضرورة او شرط في بنى التغير والتطور التي يشهدها العالم الحديث خصوصاً وان ما صنعته الحداثة العربية كان هيامات على هامش الحداثة في الغرب الذي خلفها نحو عالم ما بعد الحداثة وأعاد صياغة سؤاله نحو الدولة بشكل آخر وصياغة جديدة.
لقد كان المأزق كبيراً بين ضرورات واشتراطات العالم الحديث وانكسارات ذاتنا في استساغتها كل أمر خارج عن إرادتها بما فيها الدولة التي تشكل في اغترابها إحدى انكسارات ذاتنا أمام إرادة العالم الحديث.
وهناك مصدر آخر في اغتراب مفهوم الدولة في حياتنا الاجتماعية والسياسية هو تعبير عن غربة تاريخية عاشتها الدولة في مجتمعاتنا، فالدولة التي تستمد وجودها المادي والمعنوي في الحكم وأمساك السلطة ويعيش فكرتها وحقيقتها القابضون على سلطتها المستفيدون من ثمار الحكم فيها وقد اختصت بها اقوام وسلالات في عالمنا العربي بعد أن تم حسم المصير العربي السياسي على يد المغول بعد سقوط بغداد عام 1258م – المحنة العربية الدولة ضد الأمة، برهان غليون، ص 142 – وتعاقبت اقوام وسلالات تركية على حكم بلادنا حتى العقد الثاني من القرن العشرين بعد انسحاب الترك – العثمانيين من بلادنا، وقد أشار الاستاذ برهان غليون الى أن العرب قد ابعدوا عن السلطة والشأن العام منذ القرن التاسع الميلادي لصالح شعوب اخرى في الدولة الاسلامية ويحدد الفترة التاريخية التي خرج فيها العرب من اللعبة السياسية في القرن العاشر الميلادي مع صعود البويهيين الى الحكم عام 945م وقد فقدوا بهذا النبذ السياسي والطرد المبرمج لهم عن السلطة معنى الدولة والسياسة والممارسة التاريخية في الوقت نفسه – م.ن، ص42.
واذا ادركنا ان مدار هذه الحوادث السياسية وافرازاتها التاريخية والاجتماعية كانت في بغداد عاصمة العراق واستمرت في أقصاء أهل البلاد عن السلطة والسياسة حتى مع قيام الدولة الوطنية في العراق في العقد الثالث من القرن العشرين، أدركنا حجم الانفصال التاريخي لمجتمعاتنا العراقية عن الدولة او الدول المتعاقبة للعراق، ومن ثم ندرك حجم الانفصال النفسي والذهني المتولد عن الانفصال السياسي تجاه الدولة شكلاً سياسياً قانونياً ونظاماً وسلطة، والمعنى في الدولة كهيأة اجتماعية سياسية.
وهذا الانفصال كبادرة في الاغتراب عن الدولة عاشها العراقيون في مختلف مراحل تاريخهم صبت باتجاه انتقال مفهوم الاغتراب الى الدولة ذاتها التي عاشت غربتها الذاتية في المجتمع العراقي لأنها لم تألف مجتمعاً بل اصطدمت بتغريب المجتمع لها، فألفت الاغتراب واقعاً تاريخياً وحالا اجتماعياً وهكذا صار الاغتراب متبادلاً بين الدولة والمجتمع في العراق، لكن الاغتراب بالنسبة للدولة كان باتجاه تخليها عن ذاتها كهيأة اجتماعية سياسية وقانونية باتجاه اختزال ذاتها في السلطة كقوة تمارس القهر تجاه الهيئة الاجتماعية العامة التي هي المجتمع.
أما اغتراب المجتمع عن الدولة فأخذ صورة تخليه عن التماهي السياسي والاجتماعي بهذه الدولة نحو ولاءات محلية – فرعية نابذة وطاردة للدولة او ولاءات خارجية دينية او مذهبية او عرقية اشتركت فيها كل الهويات الفرعية ولذلك يعد من السذاجة الفكرية وتخلف التحليل السياسي الذي ينسبها الى التآمر والخيانة انما هي جدلية الاغتراب في مفهوم الدولة بالنسبة لمجتمعاتنا.
اضف تعليق