ترفع الدول الغربية والشرقية الكثير من الشعارات التي غالبا ما تكون هي نفسها قيم تلك الدول، والتي يفترض انها تكون منهجا تسير عليه للتعامل مع مختلف القضايا المطروحة على الساحة المحلية والدولية، لكن هذه الدول تعود لتنتهك قيمها تحت ذرائع عدة، وقد يأخذ الامن القومي النصيب الاكبر من هذه الذرائع.
البرلمان الأوروبي اعتمد، مؤخرا قرارا حول مواجهة وسائل الإعلام الروسية، والذي وصفت فيه وكالة "سبوتنيك" وقناة "RT" بأنهما "الأكثر خطورة"! ويصف القرار وكالة أنباء "سبوتنيك"، وقناة "ٌRT"، وصندوق "روسكي مير" (العالم الروسي) ومنظمة "روس سوترودنيتشيستفو" بأنها أحد التهديدات الإعلامية الأساسية على الاتحاد الأوروبي وشركائه في شرق أوروبا.
بعض الصحفيون كتبوا باستغراب عن هذا القرار على اعتباره يتناقض مع مبادئ الاتحاد الاوربي وقيمه التي تقوم على حرية الراي والتعبير، لكن الحقيقة ان القرار لم يكن مستغربا وكان اعتياديا جدا، فكل الشعارات التي تحاصرنا صباحا ومساء لا تتعدى الحصول على بعض المكاسب على حساب الخصوم، فالتضليل هو القدرة على اخفاء نواياك الحقيقية خلف شعارات براقة!.
قامت الفلسفة الاوربية على حرية الراي والتعبير تحت مظلة النظم الديمقراطية وهذا القرار يناقض المبادي الاساسية التي نادى بها فلاسفة الفكر الاوربي مثل جون ستيوارت ميل الذي كان من بين الفلاسفة الذين اسهموا في ترسيخ مبدأ حرية وسائل الاعلام إذ يرى ان من حق الفرد الناضج في المجتمع ان يفكر ويتصرف كيفما يشاء ما دام لا يؤذي احدا بتفكيره وتصرفه. وكان له مجموعة من الآراء المعبرة عن فلسفته والتي منها: " اذا اسكت رايا فقد اخفيت حقيقة وان الراي الخطأ قد يحوي بذورا للحقيقة ومن الجائز ان يؤدي اليها كاملة كما ان الراي الصائب كثيرا ما تسيء الجماهير ظنا به ولا ترجع الجماهير عن هذا الاعتقاد الا اذا اضطرت الى الدفاع عنه".
ويقدم جون ستيوارت ميل ثلاثة اسباب تجعل من اختلاف الراي ميزة كبرى الاول: احتمال ان يكون الراي السائد باطلا او زائفا، وبالتالي لا بد وان يكون هناك راي اخر هو الصواب. والثاني: احتمال ان يكون الراي السائد صوابا، وفي هذه الحالة يكون صراعه مع الخطأ امرا جوهريا لنفهم حقيقته فهما واضحا ونشعر بها شعورا عميقا. والثالث: احتمال لحالة اكثر شيوعا، هو ان يكون الرأيان المتعارضان يشارك كل منهما في الحقيقة بنصيب بدلا من ان يكون احدهما صوابا والاخر خطأ، فيحتاج الراي المرفوض الى ان يكمله الراي الصواب او جانب الحقيقة الذي يشتمل عليه الراي الشائع.
هذه المبادئ الفلسفية وغيرها تمثل الكتاب المقدس بالنسبة لاوربا فهل قامت بانتهاك قدسية تلك الفلسفة، ام انها تتعلق بالتطبيق الخارجي فقط فمن جانب يوبخ "الاتحاد الاوربي" تركيا بشكل دائم "لانتهاكها" مبادئ حرية الراي والتعبير ومن جانب اخر يعود ليفرض قيودا على وسائل الاعلام الاجنبية، وكأن قيود الاتحاد الاوربي حلال ومبررة وقيود تركيا حرام ولا مبرر لها، فقد انتقد الاتحاد الأوروبي ما وصفه "تراجعا" لدى تركيا في التزامها بمعايير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وخصوصا على صعيد حرية التعبير ودولة القانون، وذلك في تقرير أصدرته المفوضية، بداية الشهر الجاري. وأعرب هذا التقرير المرحلي عن الأسف "للتراجع الكبير خلال السنة الماضية على صعيد حرية التعبير".
وأشار المفوض الأوروبي للتوسيع يوهانس هان لدى تقديم هذا التقرير حول عملية انضمام تركيا، إلى أنه "حان الوقت لكي تقول لنا أنقرة ماذا تريد فعلا. هذا اختبار لمصداقيتها، ولمصداقية الاتحاد الأوروبي أيضا". نسال المفوض الاوربي عن قرار دوله التي يتحدث بالنيابة عنها كيف سوف ترد دول اوربا على قرارها بانتهاك حرية الراي والتعبير؟ نعتقد ان المبررات موجودة ووسائل الاعلام الكبرى مستعدة لاخفاء هذا القرار من خلال اسلوب تحويل الانتاباه على قضايا جانبية اخرى تجعل من الصعب تذكر انتهاك اوربا لقيمها.
ما يجري على الساحة العالمية هو صراع على النفوذ السياسي والعسكري والاعلامي، وتمارس جميع الدول المشتركة في هذا الصراع كل انواع التضليل الكذب والخداع من اجل تبرير سياساتها التي تناقض قيمها، وعزائنا على الدول النامية والعربية على رأسها التي بقيت في الهامش تنتظر عطف هذا الطرف او ذاك.
ولو نظرنا بشكل متفحص لما تعرضه وسائل الاعلام العالمية الغربية نجدها لا تعرض ما يتعارض مع مصالح تلك الدول، والحيادية هي الحصان الذي تصل فيه الى غاياتها، وبمجرد حدوث تفجير ارهابي في بلدين مختلفين احدهما اوربي والاخر من البلدان الفقرة، سوف نجد ان ما حدث في اوربا هو "اعتداء" ارهابي يستهدف قيم الانسانية السمحاء وعلى العالم التعاطف معه، اما في التفجيرات التي تستهدف الدول الفقرة مثل العراق، سوف يفسر على انه صراع بين القبائل او صراع طائفي وعلى العالم ان يدين الضحايا والجلاد حتى لا يكرروا ما حدث.
لسنا من المدافعين عن وسائل الاعلام الروسية فادواتها واذرعها الاعلامية كافية لبث الرعب في اوربا والدول الغربية كلها، لكن ما يهمنا من كل ما يحدث ان ننجر وراء الشعارات البراقة ويكفينا من صعود احزاب اليمين المتطرف دليلا على عودة الغرب الى جذوره الحقيقية في الصراع، وبالتالي وهو ما يمهد الى بداية المسيرة لتشييع مبادئ الديمقراطية على اكتاف العنصرية والتطرف.
اضف تعليق