البلاد التي شهدت تحولات ثورية أفضت الى تشكيل أنظمة حكم جديدة على أنقاض أنظمة ديكتاتورية، توقفت طويلاً في مسيرة التنمية والنهوض الاقتصادي، عند مفهومين متعارضين في الظاهر تجسد في افراد المجتمع، وخلق طبقة اجتماعية من نوع جديد؛ فهنالك الانسان المتخصص في مجال عمله ضمن المؤسسات العاملة في النظام السابق، فيما ظهر على الساحة الانسان الثوري "الملتزم"، وقد كلف الجدل العقيم حول هذا التعارض سنوات من التخلف وضياع القدرات والكفاءات وخسائر فادحة، فيما ينشغل الطرفان بتوظيف ما لديهما لتعزيز موقفهما، وأن الحق معه.
إن الخيانة، تمثل الهاجس الاكبر في نفوس الثوريين، وتشكل المنظار العام لأهل الاختصاصات العلمية والتوجه العلمي البحت، وهذا ما عانت منه بلاد ثورية مثل ايران ومصر وكوريا الشمالية وكوبا ودول اخرى، مع بعض التفاوت في حدّة التعامل مع هذا الموضوع، وكان أبرز الافرازات ما عُرف وشكل ظاهرة مستمرة بـ "هجرة العقول" الى الدول الاكثر تقديراً للعلم والعلماء، بل وأكثر أمناً لهم.
وطالما كان أهل الثورة في قمة السلطة، يصرون على أن الولاء والايمان بالعقيدة والفكرة وحتى شخص الزعيم، أولى وأكثر فائدة للدولة والشعب من التخصص العلمي، لذا شهدنا تبوء اشخاص فاقدي الخبرة العلمية والمهنية لمناصب كبيرة ليس لشيء سوى أنهم يحظون بمستوى عالٍ من الولاء والالتزام بالأيديولوجيا الحاكمة، ويبرر منظري هذا الاتجاه من إن بالامكان تحول هذا الانسان الملتزم الى متخصص، بينما من الصعب جداً تصور مهندساً او مديراً وعالماً في مجال ما، ينتمي ويؤمن بفكرة وايديولوجيا معينة خلال أيام الثورة والتحول السياسي، علماً أن حالة التنافر بين الاثنين دائماً تكون هي سيدة الموقف، ففي كثير من الاحيان يتم تجاهل معايير علمية ومعنية لتحقيق إرادات معينة، وإن حصل التقاطع والمواجهة، فان التهديد بالموت والاعتقال، يكون جزاء المعارضين او حتى المنتقدين، وهو ما يجعل الطرف الآخر يشعر أنه غير ذي فائدة في المجتمع والدولة، و عليه البحث عن مكان آخر يكون فيه محترماً.
بيد أن ضرورة مواكبة التطورات العالمية في مجال التنمية والإصلاح والابداع، دفع بالحريصين على التفكير مليّاً بمخرج لا يخسر الاثنين، بل يجمعهما في إطار واحد لخدمة المجتمع والدولة والمضي قدماً في مسيرة التطور والتقدم، فكان تسليط الضوء على مفهوم "الالتزام" في دلالته الدينية أو الانتماء في دلالته الايديولوجية، فلابد من الكشف عن حقيقة هذا الالتزام والانتماء، ولمن يكون؟ فالادعاء أن يكون هذا ملتزماً بالدين او "مؤمناً"، او ذاك ملتزماً بانتمائه وافكاره، غالباً ما تكون فضفاضة وغير ذات مصداقية حقيقية، كون السلطة والجاه والمال، لاسيما لأشخاص يلمسون رزم الاموال لأول مرة في حياتهم، تضع أكبر مسؤول ثوري ومناضل ومجاهد على محك الاختبار، ومن الصعب رؤية من يخرج سالماً نظيفاً من هذا الاختبار، إلا وقد ترك ورقة استقالته على طاولته وغادر الحكم الى الأبد.
لذا فاذا كان الايمان والالتزام الديني هو المعيار لتسنّم المناصب الحكومية، ينبغي أن التقوى، وهي أحد أهم معالم الشخصية الملتزمة دينياً، المعيار لأهلية هذا او ذاك، فالتقوى الذي يعرفه العلماء بأنه يعني بالجانب الحياتي والسلوكي للانسان المؤمن، يوجه الانسان الى المنصب الذي يستحقه ويتطابق مع قدراته وكفاءاته، واذا حصل العكس، فمعنى ذلك؛ التشكيك بصحّة وجود هذه التقوى في ذلك الانسان اساساً، مهما بلغت تضحياته وانجازاته.
وفي حالات وظروف كالتي يشهدها العراق، فان التقوى المهنية، كما التقوى السياسية، لها بالغ الأثر في تقويم الانحراف ومكافحة الفساد ومن ثم الإسهام في إنجاح المشاريع التنموية في المجالات كافة، والقضية أقرب الى الواقعية منها الى المثالية، لأن قيم مثل الصدق والامانة والنزاهة، تمثل سمات أي انسان يمارس نشاطاً معيناً في المجتمع، ربما يكون صاحب دكان صغير او عامل بسيط او فلاح او معلّم، فنلاحظ دائماً اعتماد الناس على من يحملون هذه السمات، فيضعون فيهم ثقتهم، فهو في الوقت الذي يتقن عمله مهنياً، يلتزم جانب التقوى أخلاقياً، وليس فقط لا تعارض بينهما، إنما نجد أن هذه التقوى تقيم جسور العلاقة المتينة بينه وبين افراد المجتمع بما يعود بالنفع عليه وعليهم في وقت واحد.
وهذا يؤكد دور التقوى المهنية في مسيرة التنمية الحقيقية في بلادنا – وأي بلاد في العالم- فالادعاءات بالجهاد والتضحية والولاء والانتماء لن تفيد - بأي حال من الاحوال- مشاريع التطوير في الزراعة والصناعة والطب والطاقة وغيرها، وإن اردناها حاضرة في هذه المسيرة، فيجب ان ترافقها التقوى المهنية التي تدفعهم قبل أي شيء آخر الى التخصص والتعلّم واكتساب التجارب والخبرات من شتى أنحاء العالم، كما فعل المخلصون لبلادهم وشعوبهم من ابناء الدول النامية التي نجد أنها بلغت شأواً في التنمية الاقتصادية والبشرية ايضاً.
اضف تعليق