ليس من المعقول، ان تقدّم طلبا للتعيين في البنك وتكتب في المؤهلات والخبرة السابقة -على سبيل المثال- انك شاعر أو رجل دين، من المؤكد رفضُك فورا، شاعر، يعني مضطرب القرار، مزاجي، قلبك تحت لسانك، تتحكم عاطفتك بمجريات العمل، تؤثر على تقييمك للمواقف المالية الجماليات اكثر من المنطقيات. كذلك اذا قلت رجل دين، قلبك متورم بالتاريخ، لك ثارات يومية مع الرذيلة مما تراه او تتوهمه، كما تشغلك كثرة الاستغفار عن تدقيق الحسابات اليومية ومتغيرات السوق وامزجة الزبائن.
في المقابل :
لايمكن ان تقدم طلبا للانتماء الى اتحاد الادباء او نقابة الصحفيين لانك مدير بنك او ضابط شرطة او سائق تاكسي او بائع عقارات، كل جنس من هذه المؤسسات له نمط محدد من المواصفات، ليست هذه نصيحة من منتديات الانترنيت التي لن تبخل عليك باي معلومة ولن ترد لك سؤالا، لكنها عقده عراقية فقط، واقول عراقية لان المتوفر من الخبرات في اغلب الجنسيات المزدوجة والمفردة يؤكد أنّ لا قوم مثلنا بينهم كائنات ملتبسة مركبة، فتجد المرء ناشطا مدنيا مدافعا عن حقوق الانسان بشراسة، اذا استمعت اليه تقول : هذا هو مفتاح الفرج وتراه هو نفسه مقاولا وشاعرا وتاجرا صائما مصليا علمانيا، معارضا للحكومة وصديقا لوزير الداخلية، وفي الوقت نفسه تراه ضيفا على الفضائيات يتحدث عن كتلة سياسية بعينها ويمجد قائدها بطريقة مقرفة.
متى تنتشر نماذج كهذه وتعشش في حياتنا الثقافية والسياسية والعشائرية والمؤسساتية عموما؟، حينما تهبط المعايير ويتصدر المشهد العام والعمل العام قليلو الخبرات وهو وغير المحترفين. هذا بالضبط ما ينهي الدولة ويقوض مؤسساتها، وهذا بالضبط سبب غياب المحترفين في دوائر الدولة. ليس الحالية فقط بل الدولة العراقية في جميع مراحلها، لاسيما بعد ثورة 58 حيث دخل العسكر السياسة فدخل السياسيون العسكرية فدخل البلطجية على الاثنتين !، واختل توازن المجتمع والدولة، وغابت المهنية عن العسكري الذي اصبح وزيرا للتربية، والسياسي الذي اصبح ضابطا، والرياضي الذي اصبح خطيب جمعة، بل وصل الامر الى منح رجال دين رتبا عسكرية لأغراض القيادة او التقاعد لافرق. وتعيين الاطباء وزراء للمالية والخارجية واخطر ماحصل مؤخرا هو الاعتراف بشهادات فخرية وشهادات من تجمعات لا جامعات على انها اجازات علمية رصينة، فغدا العراق اكثر بلدان العالم فيها رتب عسكرية كبيرة وشهادات جامعية عليا دون اوليات او استحقاق او رصيد.
هذا التلفيق المشرعن حرام في شرع الله وفي القوانين الوطنية وفي قياسات احترام الاصول التي تسير عليها البلاد، وهو سبب جوهري في اختراق الارهاب حياتنا واشاعة الفساد وتعبيد دروب الاحتيال وتسطيح المثل والقيم والمناهج والمؤسسات العلمية والوصول السريع للمناصب والمراتب دون معلم وباقل التكاليف، لاسيما وان مايقابل ذلك هي ارواح ابنائنا التي تزهق في سوح المواجهة مع الارهاب، ومصائر ابنائنا من خريجي الجامعات –الحقيقيين– الذين تنعدم فرص استثمارهم والافادة من خبراتهم. واخيرا الوطن الذي لم يعد يعرف عدوه من صديقه، طالما كان ابناؤه على هذا النحو.
اضف تعليق