بدأت القوات الامنية المشتركة العراقية عملية تحرير محافظة الموصل قبل عدة ايام بعد ان تم تطويق هذه المدينة ببطء، ثم بدأت عملية الاقتحام والهجوم بنجاح كبير في المحاور التي تحركت عليها، وتعد مدينة الموصل عاصمة تنظيم داعش في العراق ومعقل مهم من معاقله التعبوية والعسكرية والفكرية والاقتصادية والجغرافية وآخر مدينة تقع تحت سيطرة تنظيم داعش في العراق.
ومن المتوقع أن المدينة ستتحرر قبل عام 2017، بعد ان استمرت لأكثر من سنتين تحت يد هذا التنظيم، وبتحرير الموصل سيفقد التنظيم دعامة اساسية من دعامات خلافته المزعومة وتتبدد طموحاته داخل اراضي الدولة العراقية، ومع ذلك فإن سلاسة هذا المشهد والتخلص من التحدي العسكري في الموصل، يطرح عدة عقبات قد تعيق تثبيته فبالإضافة الى ان العراق سيواجه تحديات في القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتنموية لما بعد الموصل فإن تحدي تعارض اجندات الدول والاطراف المحلية المنخرطة بمشهد تحرير الموصل تمثل انصع عقبة لتعطيل مشهد التحرير او انفلاش مشهد ورؤية مابعد التحرير.
فلا يمكن ان يؤكد لنا احد أن خلف حالة الإجماع الظاهر بين الفاعلين الاساسيين في معركة تحرير الموصل من أجل القضاء على العدو المشترك، تنظيم داعش، لا توجد هنالك افتراق غايات وأهداف وتعارض مصالح، إذ إن كل طرف منهم يدافع عن مصالحه الخاصة تحديدا، وهي مصالح متعارضة أحياناً الى حدٍ كبير فيما بين الدول والأطراف المنخرطة في المعركة، وتشكل هاجسا كبيرا لحكومة بغداد في التوفيق والاستفادة والاستثمار من هذه المصالح المتعارضة لصالح استعادة هيبتها وفرض سلطتها كما كانت قبل 2014.
وفي هذا السياق، نقول ان من الصعب في ظل افتراق أجندات وأهداف القوى المنخرطة في معركة تحرير الموصل ان نجد موائمة في إدارة الاختلاف وتوحيد الصفوف خلال المعركة نفسها لكسب الرهان الذي تراهن عليه حكومة بغداد، والأصعب من ذلك هو كيفية إدارة ما بعد تحرير الموصل وماهي الاستراتيجية الناجعة لسد الثغرات وطمأنة السكان وتحييد المنخرطين في المعركة وترك المجالات الاخرى لبغداد.
وذلك لأن كل هؤلاء الأعداء المشتركين لتنظيم داعش ليسوا أصدقاء فيما بينهم، وليسوا حلفاء ومشتركاتهم معدومة وتقارباتهم مؤقتة تهدف الى تحقيق مآرب خاصة وطموحاتهم متقاطعة، في حالة تحييد هذا العدو المشترك حاليا لهم، وانا اركز على كلمة تحييد وليس دحر وهزيمة نكراء.
وهنا لابد ان نسجل عدة مؤشرات عامة من أهداف كل طرف منخرط في المعركة، وفي المقدمة من ذلك الولايات المتحدة الامريكية، التي ترى أن أول أهدافها هو تقديم وجه آخر إيجابي لأداء إدارة أوباما في المنطقة على نحو من شأنه أن يغطي على إخفاقات هذه الإدارة في الشرق الأوسط، حيث سيبدو في أيام عهده الرئاسي الأخيرة وقد أطلق معركة تحرير الموصل، ونجح في تحرير المدينة من التنظيم الإرهابي وهذا نصر سياسي ومكسب لسياسته الخارجية من شأنه أيضاً التغطية على تفاقم الانتقادات الواسعة لإدارة أوباما بسبب عجزها عن تحريك ساكن لإنقاذ سكان حلب، أو احتواء جموح النزاع الدامي في سوريا، وسيصب حتما في الصندوق الانتخابي لهيلاري كلينتون، كما ان تحرير الموصل يتماشى والرغبة الامريكية لإعادة التموضع في العراق والانتشار في المنطقة من جديد وهي رغبة واضحة مقترنة بضرورات هذه العودة التي سببت الانسحاب من العراق والشرق الاوسط الكثير من التراجعات لمكانة الولايات المتحدة الامريكية لصالح روسيا وايران.
وبالنسبة لتركيا فقد اعلنت ان هدفها هو عدم السماح بتغيير البنية السكانية في الموصل ذات الأغلبية السُّنية الساحقة، وأيضاً عدم السماح بتمادي القوى الكردية المتمثلة بحزب العمال الكردستاني لتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمتها أنقرة، وبدأت الحديث عن اقامة منطقة خالية من الارهابيين في شمال العراق كما في سوريا وهذه المنطقة العازلة ستقام بمعزل عن حكومة بغدد وبالاتفاق مع حكومة اقليم كردستان العراق، الا ان الهدف الخفي لتركيا هو (دولة الموصل) التابعة للنفوذ التركي وستستخدم كمنطقة حيوية نفطيا وجغرافيا وعسكريا ضد التمدد الايراني والكردي المعارض لتركيا ونفوذها وسطوتها وهذا قد يتطابق مع الطموحات التاريخية لتركيا باستعادة الموصل وكركوك وباقي مناطق الاقليم الى حدود او نفوذ تركيا ولو عن طريق الهيمنة والولاء والنفوذ، وانا أرجح ان الورقة العنصرية والطائفية ستوظف جيدا من تركيا في هذا الإطار كأقصى حد لطموحها بتحقيق تخيلاتها المللية.
وبالنسبة لإيران على رغم بعدها الجغرافي والتاريخي عن الموصل فالهدف من الانخراط في المعركة هو إعادة التأكيد من جديد لبسط نفوذها في العراق وبسط نفوذها على القوى السياسية الشيعية فيه، لانها تعتقد ان العراق منطقة نفوذ حيوية لامتداد مشروع الجمهورية الاسلامية في المنطقة عبر تثبيت محور الممانعة والمقاومة وتقويته عبر الساحة العراقية. وهي تسعى أيضاً لعرقلة آخر المطالبات بنوع من الحكم الذاتي للمناطق السنية في العراق لأنه يتعارض وطموحاتها الاقليمية ومشروعها ورؤيتها في العراق كملف مهم واظن ان ايران ستكون الى حد الآن الكاسب الاكبر من تحرير الموصل بسرعة اذا رسم وحدد موقف للحشد الشعبي في الموصل ولو كان محدودا رغم عدم شهيتها للمعركة حاليا لانشغالها باليمن وسوريا وملف الرئاسة بلبنان.
اما الاتحاد الاوربي فتمثل معركة الموصل خوفا متصاعدا من تداعيات التحرير اذ ان تحرير الموصل لن يوفر للاتحاد الأوروبي الخائف من تداعيات ديموغرافية وأعباء اقتصادية، حذر منها المفوض الأوروبي للأمن، جوليان كينغ قبل ايام بالتعبير عن خشيته من أن تؤدي تحرير الموصل إلى موجة هجرة واسعة والى تدفق العناصر المتشددة إلى أوروبا والقيام بنشاطات وعمليات ارهابية.
اما هدف وموقف الحكومة العراقية واجنداتها فهي واضحة وتتعارض مع كل اجندات الاطراف المنخرطة بمعركة الموصل، إذ مع أن القوات العراقية تمثل الجهد الرئيسي في معركة الموصل، فيما كل القوى الأخرى داعمة فقط، إلا أن أحد أهم أهدافها، إضافة لإعادة السيطرة على جزء من أراضيها، هو رد الاعتبار لجيشها الذي تلقى هزيمة كبيرة في مواجهته الأولى مع تنظيم داعش ما أدى حينها لسقوط الموصل وغيرها من كبريات المدن في يد التنظيم الإرهابي، في موقف يدعم حكومة العبادي بشكل كبير داخليا وخارجيا والحكومة تعمل على ارواء عطش العراقيين الشديد إلى انتصارات عسكرية تعيد شيئاً من ثقتهم المفقودة بدولة تستطيع مؤسساتها، والجيش في مقدمتها، القيام بمهماتها وواجباتها.
وتمد أخبارُ التحرير الوطنيين بالأمل وتدعم تشبّثهم بحلم عراق غير مفتّت جغرافيّاً أو مؤقلم طائفيّاً.
اما موقف الاطراف السياسية الاخرى فأيضا الاجندات متعارضة، فالموقف الكردي منشق على نفسه بين طرفين ويبدو طرف بارزاني الاكثر نفوذا في البيشمرگه لديه اهداف وغايات تبتعد عن غايات الحكومة الاتحادية رغم اتفاقهما مؤخرا على ترتيبات المعركة وتقسيم المحاور، لكن مابعد التحرير لا اظن ان رئاسة الاقليم ستلتزم بالاتفاق المبرم مؤخرا مع بغداد بخصوص المناطق المحررة وخصوصا المتنازع عليها وماحصل في كركوك وحصل في داقوق والحويجة والرشاد والرياض وسهل نينوى وسلسلة جبال حمرين من تعرضات سيعقد مشهد الوئام بين الطرفين، وسينزح الاقليم الى المظلة التركية لتأدية دور بيضة القبان المعتادة في اضعاف بغداد وتقوية سلطة وزعامة الاقليم ورئيسه المختلف حول شرعيته والبحث عن ادوار خارجية تقوي هذا الاعتبار وهذه الغايات ولهذا فأن غرض الاقليم هو استعادة اراضي تعد جزء منه وفق قناعته الخاصة وترسيخ قدرات ونفوذ بحكم الميدان وانعكاس ذلك على السياسة فالمعادلة كلما ضعفت بغداد ازدادت قوة الإقليم.
اما النخب السياسية السنية فلُعاب الكثيرين منهم يسيل منذ سنوات للاتجاه نحو أقاليم طائفية للأرباح التي تدرّها.
اما تنظيم داعش في العراق فأجندته مختلفة وتناقض ايضا مع أطراف اعدائها المشتركون ولهذا فإن نتيجة المعركة ستترتب عليها تأثيرات معنوية وسياسية اذ خسارة الموصل ستعني خسارة تنظيم داعش ثاني محافظة في العراق من حيث السكان والمساحة، وهي خسارة مادية ومعنوية في الوقت نفسه ناهيك عن التأثير الاقتصادي والنفسي والجغرافي والعقائدي الذي سينهي حلم الخلافة المنشودة المترتب على هذه المعركة. ولهذا يعمل التنظيم بشراسة على عدم الاستسلام بسهولة وجعل المعركة اكثر تعقيدا ازاء اعدائها المشاركون بالتحرير وستنفذ عمليات خارج الموصل لحرف مسار معركة الموصل قدر الممكن وتشتيت جهود القوات المقاتلة لها.
ان تعارض هذه الاجندات سيعقد عملية التحرير كما أن تبعات معركة الموصل على المدى البعيد قد تكون عكس ما يرومه البعض إذ قد ترسخ المزيد من التفتيت وتفتح باباً أوسع أمام الأقلمة الرسميّة والتقسيم الفعلي.
لكن المؤكد ان دحر تنظيم داعش في الموصل سيولد أثرا مماثلا لسقوطها في حزيران عام 2014 أي ستغير معادلة الحرب على الإرهاب في المنطقة.
اضف تعليق