عجيب وغريب أمر السياسيين في العراق.. ومصدر العجب.. يبان في تهرّبهم من مواجهة مشاكل بلدهم وشعبهم.. وانشغالهم بمشاكل أحزابهم ومصالحهم.. مثلهم مثل القبطان الذي يترك الثقوب الخطيرة في قاع السفين بلا معالجة.. وينشغل بالمكاسب والملذات المعروضة في سطح السفين ومطاعمه وقاعاته ومرافقه الاخرى.. وشتان بين من ينشغل بالخطر المحدق به.. وبين من تأخذه سكرات اللذة المادية.. فيغيب فيها.. ناسيا أن الغرق سوف يسلب منه كل شيء.
السياسيون هكذا بالضبط.. يكدحون ويتصارعون كي يحصلوا على مكاسب فردية او عائلية او حزبية.. لكن مصير شعب وبلد كامل.. لا يشكل شيئا بالنسبة لهم.. نحن لا نرغب بالتعميم.. ولكن ما يحدث في مجلس النواب يثير الريبة.. ويجعلنا نكتب بهذه الطريقة من المباشَرة.. فالمجلس المعني مؤلّف من 325 نائبا.. كلهم ينتمون الى كتل واحزاب.. ويندر أن نجد المستقل من بينهم.
اكثر من عقد ونيّف من السنوات.. ولم يتعلموا كيف يديرون هذه المؤسسة التشريعية الأهم.. لم يضعوا القوانين الضابطة لعملهم.. سياقات العمل السياسي المهني ضعيفة او متلاشية.. عاصفة الاستجواب تشبه العواصف البحرية غير المحسوبة.. بزغت بغتةً تحت سقف البرلمان وخارجه.. هذه الفئة تدعو لاستجواب ذاك الوزير.. ولك الجبهة تدعو لاستجواب هذا المسؤول.. وكأنها مباريات بين فرق متصارعة.
دخلت السياسة في موسم الاستجواب من أوسع أبوابه.. حتى صار الاستهداف السياسي عنوانا عريضا لكل محاولات ودعوات الاستجواب المعلن والمبطّن.. يتساءل كثيرون.. يهمهم الأمر ولا يعنيهم.. يقولون أين مهنية السلطة التشريعية.. لماذا لم يتعلّم النواب خلال اكثر من عشر سنوات.. الفصل بين السياسة وبين العمل التشريعي.
هل يعلم النواب أنهم مصدر السلطات كلها.. لأن الشعب هو الذي خوّلهم بهذه السلطة.. فإذا كانوا أول من يسيء استخدام السلطة.. واذا فضلوا مكاسبهم على القوانين والتشريعات.. كيف تتعلم مؤسسات الدولة الاخرى الانضباط.. كيف يتعلم الشعب احترام القانون.. كيف يمكن معالجة الثقوب في قاع السفين.. من يحمي البلاد من الانحدار نحو الغرق في بحر من المشاكل التي لا أول لها ولا آخر؟!.
بعضهم يستكنه وجهةَ أخرى.. فيقول أن جميع الاستجوابات هي زوبعة في فنجان.. بعيدة عن العمل الجاد.. هي نوع من أنواع ذر الرماد في العيون.. وهي تكريس للصفقات التي تعد في الخفاء.. فيما ينشغل الشعب بطاحونة الفقر والجوع والمرض والتفجيرات.. ويبتعد قسرا وإجبارا عن متابعة مصالحه وحقوقه فيتم إشغال الشعب بهدف موهوم.. او بما لا يستحق الانشغال.
ينسى أو يتناسى أعضاء السلطة التشريعية.. أن غرق البلاد في الفوضى.. يعني غرقهم أيضا.. هل هناك فرص متاحة لإعادة المهنية لعمل المجلس؟، بلى هناك مئات الفرص التي يتم قتلها عن عمد.. وقد يأتي زمن تنتهي وتضمحل فيه هذه الفرص.. وهو ليس ببعيد.. العودة الى العمل التشريعي المهني هو الذي ينقذ البلاد من الغرق.
كيف يعود النواب الى عملهم الصحيح.. بعضهم يقول أن الاستجواب من صميم عمل ومهنية المجلس.. ولا يختلف معهم احد.. ولكن اذا دخل الصراع السياسي في موجة الاستجواب.. وتحالف كتل وأحزاب ضد اخرى.. فلا داعي عند ذاك للتبجح بأحقية المجلس بالاستجواب.. ولدينا تجربة لا تزال رائحتها الحريفة تزكم الأنوف.
هي تجربة استجواب خالد العبيدي الذي كان وزيرا للدفاع.. أصبحت التحالفات في أوجها.. واشتعلت نيران الصراع.. وعُقدت اتفاقات وصفقات.. حتى القضاء الذي يبت بحالات الاتهام صار هو نفسه متَّهما.. يا للعجب.. دعامتان يستقر عليهما كامل البلاد.. القضاء والتشريع.. تبدوان مهزوزتان.. ولكَ أن تتصور دولة يهتز قضاؤها وتشريعها.
لم يكتف النواب بزوبعة خالد العبيدي.. واستمر موسم الاستجواب.. وهذه المرة وزير المالية.. ولكن هناك من يقول أن لحميَ مر.. وأنني مقاتل مخضرم.. يتقن ألاعيب السياسة.. وفنون القتال.. وله مؤونة من الصبر والمطاولة.. تكفيه لكي يخرج من هذه الزوبعة منتصرا.. نعم كل هذه المفردات قيلتْ.. وهي إن عبرت عن معنى.. فإن الصراع بين ساسة العراق هو عنوانها العريض.
هل يجب مغادرة النواب والكتل والأحزاب هذه المرحلة السقيمة؟ ألا بات مهما أن يدخلوا جميعا مرحلة النضوج.. ألم يكتفوا لأكثر من عقد وهم ضائعين في الفوضى ونسيان الشعب وتشييد أركان الدولة.. نعم ينبغي الآن غلق أبواب المراهقة السياسية.. وفتح النوافذ كلها على مرحلة عنوانها النضوج السياسي المطرّز بالحرص على الشعب والدولة وعلى النفس.. وفتح صفحات جديدة.
أول صفحة العمل التشريعي المهني.. ثاني صفحة.. النضوج السياسي.. ثالث صفحة وضع قواعد واضحة للعمل السياسي والتمسك بها لضبط إيقاع المنافسة المشروعة وليس الصراع.. رابع صفحة وهي من أهم الصفحات.. تعويض الشعب عن حقب الحرمان والفقر والقهر السياسي والإنساني.
مَنْ المرشّح للبدء بملء هذه الصفحات بما يجعل منها ناصعة البياض.. يفخر بها الشعب.. وينشدها السياسيون أجمل إنشاد.. للحاضرين.. وللقادمين أيضا من نفوس وأجيال.. ستأتي تتبع بعضها لتعيش فوق هذه الأرض بأمن ورفاه وسلام.. كأنها صرخة أخيرة قد تعيد أعضاء التشريع والقضاء والتنفيذ الى سواء السبيل!.
اضف تعليق