q

في تصريح حديث لرئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي، دعا الى اعتبار "الكذب" السياسي "جريمة مخلة بالشرف".

رئيسة كتلة ارادة في مجلس النواب، حنان الفتلاوي، لم تتاخر في الرد على تلك الدعوة، ووصفت العبادي بأنه “اول من تشمله هذه الجريمة”.

وقالت الفتلاوي” دولة الرئيس لان انت أول واحد راح تنشمل بهذه الجريمة وخير مثال اكذوبة ” تبسيط الاجراءات الحكومية التي اعلنتها قبل سنة وثلاثة اشهر والتي اعلنت ان فيها (٣٢٠) خدمة ستطبق في أكثر من عشرين وزارة وهيئة ولم يطبق منها شيء لحد الآن!!!! وشعارها كان ” ابدأ معاملتك في بيتك”. و“القائمة تطول ….”.

الدعوة والرد عليها، ولدى استقراء التجارب السابقة في العهد السياسي الجديد لما بعد العام 2003 ، تشير الى كذب الاثنين، لسبب بسيط لا يحتمل التأويل او إيجاد المبررات له، فالسياسة تقترن بالكذب، وهذا الاقتران لا يقتصر على الأنظمة المستبدة والديكتاتورية، بل يتعداه حتى الى الأنظمة الديمقراطية العريقة منها او متوسطة العراقة او حديثة العهد بالديمقراطية.

يمكن تعريف الكذب بكونه علاقة متنافية بين القول والفكر. فالكاذب هو من يقول ما لا يفكر فيه، أو هو "من يُخفِي شيئا ما في فكره، ويقول شيئا آخر" ، أو كما جاء في تعريف كانط هو " مَن لا يؤمن بما يقوله"، أو الكاذب هو من يقول ضد ما يعرفه ويفكر فيه.

والكذب أيضا يعني "التقول والإفك والتضليل والخداع والإيهام والغش والمخاتلة والنصب والاحتيال والتزوير والتزييف والمكر والدهاء والإيقاع في الأحابيل وإخفاء الأسرار والغدر والخيانة" وغير ذلك.

والكذب "يكون إما بتزييف الحقائق جزئيا أو كليا أو خلق روايات وأحداث جديدة، بنية وقصد الخداع لتحقيق هدف معين وقد يكون ماديا ونفسيا واجتماعيا وهو عكس الصدق، والكذب فعل محرم في اغلب الأديان. الكذب قد يكون بسيطا ولكن إذا تطور ولازم الفرد فعند ذاك يكون الفرد مصابا بالكذب المرضي. وقد يقترن بعدد من الجرائم مثل الغش والنصب والسرقة. وقد يقترن ببعض المهن أو الادوار مثل الدبلوماسية أو الحرب النفسية الإعلامية". ونقيض الكذب ليس هو الحقيقة او الواقع، بل الصدق. والكذب على الاخرين يتضمن الرغبة في خداعهم..

وهناك عدد من العوامل التاريخية والثقافية تساهم في بلورة الممارسات والأساليب والدوافع التي تتعلق بالكذب، والتي تختلف من حضارة الى اخرى، بل وحتى داخل الحضارة الواحدة نفسها. فالكذب سلوك متعلم تحدده البيئة.

وقد جنحت بعض المقاربات المعتمدة في جملة من الأبحاث الأكاديمية والعلمية نحو إيجاز الدوافع إلى الكذب، فذهبت إلى أن الدافع قد يكون اجتناب العقاب أو توفير الحماية أو بلوغ المنفعة أو كتمان السر أو كسب الإعجاب أو تجاوز وضعية حرجة أو ممارسة السلطة على الآخرين عبر مراقبة المعلومات التي يتوفر عليها الهدف (إيكمان.1989).

توجد أوجه للقرابة بين الكذب ومفاهيم أخرى.. فهناك علاقة عضوية تربط الكذب بالوعد ومن ثمة بالحنث. فالكذب هو في خاتمة التحليل اخلال بالوعد الذي أعطاه الكاذب ضمنيا للأخرين بقول الحقيقة لهم، وبالتالي فهو يسعى الى توجيه سلوكهم، أي ان الكذب يتضمن بعدا انجازيا غير قابل للاختزال.

يقترح جان جاك روسو تصنيفا شاملا لمختلف أنواع الكذب. فالى جانب الخديعة يوجد التدليس والافتراء وهو اسوأها جميعا. بالإضافة الى هذا، فهو يلفت الانتباه الى ان الكذب الذي لا يلحق اذى بالذات ولا بالأخرين، أي الكذب البريء لا يعتبر كذبا، فهو على حد تعبيره تخيلات، ولا يمكن لنا اعتبار هذه الأخيرة على انها كذب، والشيء نفسه يمكن ان يقال، حسب رايه، عندما نقوم باخفاء حقيقة لسنا مؤمنين بالتصريح بها..

والشخص الكذاب حسب ارسطو "ليس هو الذي يملك القدرة على الكذب، بل هو الذي يميل الى الكذب" ، وبناء على هذا فهو يختار الكذب ويأتي به عن قصد ، الامر الذي يجعله اخطر من ذلك الذي يكذب من دون ان يقصد ذلك، هذا اذا افترضنا إمكانية وجود كذاب من هذا النوع.

لان من البديهي ان الكاذب يعرف الحقيقة، وان كان لايعرف كل الحقيقة فهو على الأقل يعرف حقيقة مايفكر فيه، ويعرف مايعزم على قوله، ويعرف كذلك الفرق الموجود بين مايفكر فيه وما يقوله، أي انه يعرف بانه يكذب.

تبعا لبارنس (1994) الذي اهتم بسياقات الكذب في ثقافات وديانات وتقاليد أخلاقية متنوعة واعتنى بأدلته التداولية وبكيفية كشفه وبتجليات عواقبه – بأن الأكاذيب تعابير تهدف في مجملها إلى التضليل وأنها ضعف إنساني لا يتأسف عليه المرء إلا بعد بلوغ المقصود.

وإذا كان الكذب يعتمد على التقنيتين الشائعتين المتمثلتين في الكتمان والتزييف، فإن إيكمان (1985) يطرح ثلاث تقنيات أخرى يدرجها في ما يلي : أولا، قول الصدق بطريقة مضللة إذ يعمد الكاذب إلى التكلم عن شيء صادق بشكل يعني ويفيد عكس ما يريد قوله ؛ ثانيا، قول نصف الحقيقة على أنها الحقيقة كاملة حيث لا يكتمل الصدق بمعلومات ناقصة ومجزأة ؛ ثالثا، المراوغة الاستدلالية الخاطئة التي تتم عن طريق تقديم معلومات عادية مع التكتم المقصود والسرية المبالغ فيها. وعلى هذا الأساس، تستبعد مجموعة من الأشكال التعبيرية عن دائرة الكذب من قبيل الانخداع حينما لا يدرك الإنسان أنه يخدع نفسه ولا يعرف دافعه الخاص لتضليل نفسه، والوعد المخلوف إن لم يحصل العلم به، والعجز عن التذكر، والاعتقاد بأن الخاطئ صحيح، والتعبير الخاطئ غير المقترن بالقصد المتعمد للتضليل. أحمد العاقد / السياسي والكذب ..اللغة المخادعة في الخطاب والتواصل

تعتبر السياسة مجالا طبيعيا وخصبا للكذب، وقد اشارت الى ذلك حنة ارندت في مقالتها "السياسة والحقيقة"المنشورة في مجلة نيويوركر 1967:

"يمكن اعتبار اللجوء الى الكذب احدى الوسائل الضرورية والمشروعة، ليس فقط لمن يمتهن السياسة او يمارس الديماغوجية، بل وكذلك لممارسة الحكم" . وهي في نفس الوقت تبدي قلقها من التضخم والتنامي المفرط للكذب في عالم السياسة، ومن بلوغه الى حده الأقصى، أي الكذب المطلق.

وقد انتهت حنة ارندت إلى تقسيم تاريخ الكذب إلى مرحلتين كبيرتين، المرحلة الكلاسيكية والمرحلة المعاصرة، التي أصبح فيها الكذب كليانيا عولميا بفضل تقنيات الصورة والتواصل والإشهار والدعاية المعاصرة.

والفرق كبير، كما تقول أرندت، بين الكذب التقليدي بوصفه فعلا لإخفاء الحقيقة، والكذب الحديث بوصفه تدميرا لها. فالكاذب ما بعد الحداثي يعرف أنك تعرف الحقيقة، ولكنه يصرّ على أن يدمرها بكل وقاحة أمام ناظريك ليضع في محلها "حقيقة" أخرى ملفَّقة بواسطة أفاعيل الخيال المسلح بتقنيات الصورة والتواصل والإعلاميات الحديثة. إن العمل على تنصيب "حقيقة" الدولة الضخمة مكان "حقيقة الواقع" المتواضعة، والعمل على "تبييضها" بواسطة التقنيات الحديثة، صار صناعة نافقة في الديكتاتوريات كما في الديمقراطيات على حد سواء. وهذا التكالب الهائل على الحقيقة يشكل خطرا كبيرا على الإنسان، على الحرية، وعلى الديمقراطية. "محمد المصباحي / هل يمكن الكلام عن "الحق" في الكذب في المجال السياسي؟ محمد المصباحي / هل يمكن الكلام عن "الحق" في الكذب في المجال السياسي؟

وتقول ارندت أيضا بأن الكذب "لم يعد تسترا يحجب الحقيقة، وإنما غدا قضاء مبرما على الواقع، وإتلافا فعليا لوثائقه ومستنداته الأصلية"،

فالكذب لم يعد إتلافا للحقيقة، وإنما أصبح إتلافا للمعنى. وهذا بالضبط هو الشكل الجديد للكذب السياسي الذي أصبحنا نعيشه، والذي تكرسه وسائل الإعلام الحديثة التي تعمل على تغييب الواقع، فتلاحق تطور الأحداث لتجعل منها راهنا دائما ، ووقائع جزئية متلاحقة. عبد السلام بنعبد العالي / في الكذب السياسي

وكان ألكسندر كويري قد لاحظ في كتابه "تأملات في الكذب السياسي" بأننا "لم نكذب قط بالقدر الذي نكذبه اليوم. كما أننا لم نكذب بهذا النحو السفيه والنسقي والراسخ كما نكذب اليوم".

ويرى المؤلف أن الأنظمة السياسية المعاصرة قد أبدعت في الكذب إبداعاً لم يسبق له "مثيل وأسهمت في الدفع به إلى أعلى درجاته".

أما عن نوعية هذا الكذب المعاصر، والمقصود النوعية الفكرية، فقد تطورت باطِّرادٍ عكسي بالنسبة إلى حجمها. فالكذب اليوم يتم إنتاجه بالجُملة وهو موجهٌ للجماهير وللاستهلاك الجماعي. ومعلوم أن كل إنتاج بالجملة وكل إنتاج موجه للاستهلاك الجماعي، لا سيما الإنتاج الفكري، لا بد أن يعمل على تخفيض معاييره. وبالتالي، فبقدر تقدم التقنيات الحديثة التي تخدم بروباغندا الاستبداد المعاصر، بقدر سوء مضمونها وقُبح الأمور التي تؤكد عليها. وما هذا برأي كويريه إلا "احتقار مطلق وكامل للحقيقة، بل ولأبسط الحقائق. احتقار لا يضاهيه إلا احتقار المَلَكات العقلية لأولئك الذين توجه إليهم تلك الأكاذيب".

ولعل هذا ما عبر عنه النازي جوبلز حين قال: "يكفي أن تكرر نفس الأكذوبة مرات عديدة وعلى نحو متواطئ لتتحول إلى حقيقة".

كما أن الكذب يلتقي في استعمالاته السياسية، بالإيديولوجيا، خصوصا حينما تتخذ معنى قلب الحقائق وتحريفها عن معناها الأصلي، سواء تعلق الأمر بالفكر أو بالعمل ، وبالديماغوجيا والدعاية.

لماذا يكذب السياسي ولماذا يصدقه الجمهور؟

من المعلوم أن هناك تراثا طويلا في احتقار أهل النظر والفلاسفة ورجال السياسة للجمهور. ولعل أفلاطون هو أول من نظّر لهذا الاحتقار وفي كتاب سياسي، هو كتاب الجمهورية، مُرجِعا سبب احتقاره للجمهور إلى عداء هذا الأخير للحقيقة ولأهلها. فالجمهور ليس محبا للحقيقة، أي للمعرفة في ذاتها، أولا لأن إدراك الحقيقة تتطلب منه مجهودا مضنيا لا طاقة له به والتي لا تتجاوز حدود خياله وعقله العملي؛ وثانيا لأن الحقيقة تهدد توازنه العَقَدي وتزعزع استقراره النفسي؛ وثالثا لأن الخروج من كهف المعتقدات والظنون والآراء والأحكام المسبقة إلى ضياء الحقيقة يُعمِيه للوهلة الأولى، فيهرب منها إلى الأبد .

أن الكذب السياسي لم يعد ينطلي فقط على الجمهور، بل وحتى على الخاصة من المثقفين والسياسيين الذين يبدو أن انخداعهم بالكذب يكون أسرع وأفدح، لأنهم لا يكتفون بالتأثر والانفعال به، بل ويعملون على ترويجه، والدفاع عنه، والدعوة إليه بالحجة والدليل .

وللكذب السياسي، كما هو معلوم، مقاصد متعددة، فهو ليس موجها دائما لخداع العدو أو الخصم، بل قد يكون موجَّها للاستهلاك الداخلي، أو للدعاية الخارجية، أو لخداع المؤسسات التشريعية المحلية لاستدراجها إلى استصدار أمر بالحرب أو بالسلم ( أو الاستسلام). ويضطر السياسي إلى الكذب لأنه منحاز إلى جهة معينة، فهو لا يستطيع قول الحقيقة طالما أنه متورط في التزامه بحزب أو بسلطة أو بدولة، أي أنه لا يستطيع الوقوف على مسافة واحدة من كل التيارات والأحزاب - كما هو الحال بالنسبة للقاضي أو الأستاذ الجامعي- ليقول الحقيقة. محمد المصباحي / هل يمكن الكلام عن "الحق" في الكذب في المجال السياسي؟

تأسيسا على ما سبق ذكره، يمكن القول إنّ استعمال الكذب السياسي عادة ما يقود السياسي إلى استمالة الجمهور وتكريس نفسه في السلطة دونما اهتمام بالحقيقة الأخلاقية لأنّ السياسة بطبيعتها لا أخلاقية.

....................
* الآراء الواردة بالمقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق