قيل قديما "أطلب العلم ولو في الصين" وعند الحديث عن انتشار ظاهرة الفساد المالي في العراق وعدم نزاهة النظام القانوني فيه يرد البعض بالقول "خذوا العبرة من اسرائيل". ويشار بهذا الصدد الى الحكم الذي اصدرته المحكمة العليا الاسرائيلية قبل سنوات بسجن رئيس جمهوريتها موشيه كاتزاف ومن بعده بسنوات رئيس الوزراء الأسبق ورئيس حزب كاديما ايهود أولمرت. لقد حكم على الأول بالسجن لمدة طويلة لمحاولته اغتصاب سكرتيرته الشخصية أثناء العمل، كما حكم على الرجل الثاني بتهمة فساد مالي ويقضي السياسيان السابقان عقوبة السجن معا في نفس السجن. وقد سادت نكتة داخل المجتمع الاسرائيلي حول الشخصيتين تقول، "ان حفلة موسيقية أقيمت داخل السجن للترفيه عن السجناء حضرها كافة النزلاء بما فيهم كاتزاف وأولمرت. وفي نهاية الحفل أعلن حراس السجن أن على جميع الحضور البقاء في مقاعدهم الى حين خروج رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء من القاعة".
كنا نستعيد تلكم الحادثتين كلما طرح موضوع الفساد الاداري والمالي المستشري في العراق في الفترة التي تلت تغيير النظام السياسي فيه بعد الغزو الأمريكي له عام 2003. فلم تسبق للمحاكم العراقية أن حاكمت مسئولا كبيرا واحدا بتهمة فساد خلال كل الفترة منذ 2003 وحتى اليوم برغم ان الناس تتداول أخبارا يومية عن فضائح الفساد المتفشي بين رجالات السلطة الحاليين. فيذكر على سبيل المثال ان هذا الرئيس او الوزير يمتلك قصورا وأراضي داخل العراق وفي دول أخرى لم يكن يمتلكها قبل تقلده المناصب الحكومية الحالية. وهو أمر مؤسف ويحز في نفس كل من عاش فترة ما قبل الغزو الامريكي عند سماعه تلك الأخبار حتى لو كان بعض ما يتردد مبالغا فيه.
لكن قبل أن نعزي أنفسنا ونلطم جباهنا بسبب آفة الفساد الشائعة في بلدنا يجدر بنا التذكير ببعض فضائح الفساد داخل النظام السياسي الاسرائيلي الذي تضرب الأمثلة بنزاهته. ويمكن القول بعد ذلك ان ظاهرة الفساد السياسي المنتشرة في دول الشرق الأوسط لم تستثني دولة من دوله غنية أو فقيرة بما فيها اسرائيل. ان التعامل مع الظاهرة البالغة السوء هذه تعلمنا بأن أسوء السياسيين وأكثرهم فسادا هم أولئك الذين يمارسون الفساد ويعرفون ان مصيرهم لن يكون أفضل من أولئك السياسيين الذين لم يفلتوا من العقاب ويقبعون حاليا في السجن. قبول الرشوة في أي مكان وزمان هي جريمة مخلة بالشرف يصبح بعدها المدان غير مؤهل لتقلد أي مناصب سياسية وخاصة تلك التي يمثل بها دولته في المحافل الدولية.
الكاتب الاسرائيلي البارز Uri Avnery صاحب المجلة الاخبارية المشهورة بمكافحة الفساد Haolam Hazeh قد تعرض للفساد السياسي في دولة اسرائيل منذ تأسيسها في مقال نشره قبل اسبوع تحت عنوان: " Will Petty Corruption Bring Dawn Netenyahu?? " هل فساد طفيف سيطيح بنتنياهو ". سأحاول ترجمة ما أورده السيد الكاتب في مقاله لاطلاع القارئ العزيز وبالأخص القارئ العراقي على ما جاء فيه. يقول الكاتب أفنيري:
قبل سنوات مضت استلمت مكالمة تلفونية من مكتب رئيس الوزراء الأسبق اسحاق رابين بأن رابين يرغب في مقابلتي شخصيا. مجلتي كانت حينها تقود حملة ضد الفساد وقد اتهمت اثنين من قيادي حزب العمل بالفساد أحدهما الرئيس الجديد للبنك المركزي والثاني وزير الاسكان. الاثنان يعتبران من الجناح المعتدل في الحزب. وكان رابين يحاول مناقشة الموضوع بخصوصهما معي اثناء لقائه المرتقب. ذهبت الى هناك وقد فتح الباب لي بنفسه وقادني الى مقعد مريح ثم قام بعده بإعداد كاسين من الويسكي لي وله وباشر الحديث دون مقدمات قائلا: Uri, have you decided to destroy all the doves in the Labor Party لقد شرحت لرابين بان صراعي مع الفساد لا يستثني أحدا من السياسيين حتى المقربين من منظوري السياسي فالفساد كان سببا بحد ذاته لكتاباتي. ويتحدث السيد الكاتب عن الفساد وفضائحه في بلاده فيقول:
الرعيل الاول من قادة اسرائيل اتسموا بالنزاهة وحينها لم يخطر الفساد ببال أحد وكانت النزاهة قد روعيت الى أقصى الحدود. ففي حادثة انتقد فيها أحد قادة حزب العمل لتشييده فيلا في ضواحي القدس ولم يكن في الأمر أي أثر للفساد فالمال الذي أنفقه السياسي المذكور كان ميراثا شخصيا، لكن القضية اعتبرت فضيحة بالنسبة لقائد من الحزب أن يسكن في فيلا خاصة. وقد قررت محكمة خاصة داخلية في حزب العمل طرده من الحزب وانتهت بنتيجة ذلك حياته السياسية. في الوقت نفسه تم تشييد مقر لاقامة وزير الخارجية يكون مناسبا لاستقبال ضيوفا اجانب في بيئة مناسبة. الوزير المعني كان موشي شاريت حيث اعتقد حينها انه من الخطأ تملك سكنا آخر بنفس الوقت وقد اضطر من ذاته لبيع شقته الخاصة وتبرع بقيمتها لعدد من المنظمات الخيرية.
الجيل التالي كان مختلفا حيث اعتقد بأن ما يمتلكه هو حق حصري به وحده. وكان النموذج لذلك الجيل موشي دايان. لقد ولد دايان في البلاد وقد عينه بن غوريون قائدا للجيش. ففي عهده نفذت عدة عمليات عسكرية على الحدود وبعدها شارك في الهجوم على مصر اثناء حرب عام 1956 بمساعدة البريطانيين والفرنسيين واحتلت نتيجتها قناة السويس. كان لدايان اهتماما بجمع الآثار وقد اقتنى الكثير من التحف التاريخية التي كان ينقب عنها في طول البلاد وعرضها ويحتفظ بها في فيلته حيث كان مسموحا عندها السكن في فيلا. كان يقوم بالحفريات بحثا عن الاثار برغم علمه ان مثل هذا التصرف يعتبر عملا غير مشروع لأن الحفر من قبل غير المختصين يسبب تلف الاثار وضياع معالمها التاريخية مما جعل من الصعب الانتفاع منها علميا ومع ان الكثيرين تحدثوا عن الموضوع لكن لم يتجرأ أحد على الاعتراض لأن دايان يعتبر بطلا قوميا.
ويذكر الكاتب أفنيري أن مجلته قد تولت الكتابة عن الموضوع وبأن دايان لم يكتف فقط بالاحتفاظ بالتحف في حديقة بيته بل زاول التجارة بها عبر العالم وكان يضع توقيعه عليها مما رفع أسعارها أضعافا. الكتابة عن هذا الموضوع أثارت فضيحة كبرى مسببة الكثير من الكراهية ضده شخصيا. وفي استطلاع للرأي نشر في العام نفسه وضع الكاتب أفنيري في المرتبة الثانية بعد قائد الحزب الشيوعي الاسرائيلي في كراهية الناس له. لسنين عديدة كانت هذه التصرفات ظاهرة عامة. فأريال شارون على سبيل المثال هو من عائلة فقيرة سكنت احدى القرى التعاونية أنهى دراسته في المدرسة العسكرية وفجأة أصبح ملاكا لمزرعة واسعة منحت له من قبل مليونير أمريكي يهودي اسرائيلي سابق. والاشاعة التي تم تداولها ان المال الذي دفعه المليونير الامريكي قد اقتطعها من الضرائب التي كان سيدفعها للخزانة الأمريكية.
كل الجنرالات الاسرائيليون (باستثناء أيزر وايزمان الذي جاء من عائلة غنية) نشأوا في ظروف جد صعبة ومن عائلات معدمة جدا. شارون نشأ في مزرعة تعاونية فقيرة كان يذهب سيرا على الاقدام لحوالي نصف ساعة ذهابا وايابا كل يوم ليوفر ثمن تذكرة الباص. كانت هذه الحالة شائعة في أوساط الجيل التالي من القادة فايهود أولمرت انحدر من عائلة فقيرة جدا والحال نفسه مع رئيس الدولة الذي يقضي حكما بالسجن مع أولمرت. وايهود باراك قائد الجيش ورئيس وزراء سابق من حزب العمل هو الأن من الأثرياء. ويذكر الكاتب وهو ايضا عاش فقيرا في اسرائيل بداية حياته بعد هجرة مسقط رأسه ألمانيا ان كل هذه الأسماء والأحداث التي تم سردها ترددت في ذهنه في وقت لا يمر يوم دون سماع فضائح رئيس الوزراء نتنياهو وزوجته سارا.
سارة التي يعرفها عامة الناس كانت تعمل مضيفة طائرة تعرف عليها نتنياهو في احدى رحلاته الى الخارج، يعرف عنها انها هي من يدير شئون مكتب زوجها وعن تعاملها الخشن مع موظفي المكتب. وقد أقام احد موظفي المكتب دعوى قضائية متهما اياها بالتصرف بالمال العام خدمة لأغراض خاصة ومع انها ليست منتخبة من أي جهة تتصرف وكأنها صاحبة السلطة في مكتب زوجها ولا تجرى أية مواعيد مع زوجها الا بموافقتها هي. وقد قامت بتعيين ثلاث شخصيات لمناصب عامة عليا قانونية وأمنية بينها المدعي العام القانوني ورئيس الشرطة وان الثلاثة مسئولين عن مناقشة الوضع المالي لعائلة نتنياهو على ضوء أخبار الفضائح التي تظهر بين حين وآخر واتخاذ الاجراءات للتعامل معها لتجنب اية مسئولية جرمية للعائلة عنها.
ومن فضائح نتنياهو وزوجته التي نشرتها مجلته ان نتنياهو الذي يسافر كثيرا الى الخارج تغطي تكاليف سفره عدة جهات ويحدث ان يستلم تكاليف تذاكر رحلة واحدة مرتين أو أكثر التي كانت في الدرجة الأولى ويحقق حاليا بتلك الممارسات. ومن ممارسات الفساد الأخرى قبوله رشوة مقدارها مليون يورو من مليونير يهودي فرنسي يحاكم حاليا في فرنسا بتهمة التزوير. وقد مولت الحكومة الاسرائيلية رحلة لزوجة نتنياهو الى نيويورك كانت بهدف القاء خطبة في الاجتماع العام للامم المتحدة كلفت ستمائة ألف دولار بما يعادل مائة الف دولار في اليوم بما فيها 1600 دولار نفقات صالون حلاقة و1750 دولارا لصالون تجميل زارته اثناء اقامتها. وتكررت مثل هذه النفقات في رحلات أخرى آخرها لفرنسا. نتنياهو ذو ذكاء متميز فهو قادر على التأثير على الناخبين الفقراء اليهود واستغلالهم.
وفي نهاية مقاله يقول، لابد لي ان اعترف باني تعاملت مع مخالفات نتنياهو بعدم اكتراث فهذا الكم من الفضائح التي ارتكبها ويرتكبها نتنياهو لا تشكل شيئا مقارنة بما فعله ويفعله تجاه مصير اسرائيل. اني اعتبره حفار قبر دولتنا، انه الرجل الذي أعد المسرح للكارثة فهو الذي دمر كل فرصة للسلام. فقط هذا الاسبوع قال لبعض اصدقائه من حزبه بانه لن يوافق أبدا على تنظيم مفاوضات تقوم على مبادرة السلام العربية لعام 2002 التي تتضمن انهاء الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية واجلاء المستوطنات. العديد من الناس يعتقد ان مثل هذا الرفض فظيع وأمام هذه الفظاعة لن تعني أمثلة الفساد التي يمارسها نتنياهو أي شيء.
اضف تعليق