انتشرت الكاميرا الخفية في وسائل الاعلام، وحصرا المرئية، انتشارا كثيفا وسريعا، أقرب صور الانتشار لها في محاولة لتوصيفها هي ظاهرة العدوى التي تأخذ هنا شكلا تقنيا – اعلاميا ومضمونا اجتماعيا، وقد أصاب الهوس بها القنوات الاعلامية، وبنفس القدر أصاب المتلقين الشعبيين وهو جمهورها الاكثر إنتشارا في بلداننا وثقافاتنا، وهو يؤشر طبعا المادة الثقافية والاعلامية الاكثر استهلاكا في مجتمعاتنا، وهي المادة التي تشغل وظيفة إضحاك الجمهور، مما يقودنا الى الكشف عن الحاجة النفسية والاجتماعية للضحك في مجتمعاتنا، وهي وان كانت حاجة طبيعية وبديهية لدى الانسان، الا انها في هذه السياقات تعبر عن حاجة نفسية –إستشفائية وحاجة إجتماعية- وقائية بوجه التحديات الامنية والسياسية التي تمر بالبلاد، ولذلك نجد هذا الالتزام بمتابعة ومشاهدة حلقات الكاميرا الخفية بدقة زمنية قد تتوفر في شروط تناول العلاج طبيا.
وقد نجد تأويل ذلك فيما ذهب اليه عالم النفس سيجموند فرويد في تحليله النفسي للضحك لدى الانسان متوصلا الى اقتران الضحك بالبكاء في اللاوعي، ومنظّرا كذلك للضحك بأنه آلية دفاع نفسية يلجأ اليها الانسان للتخلص من حالات الخوف وآلام الحزن، محاولا مراوغة الكبت الذي يتعرض له الانسان في هذه المواقف بآلية الضحك. وقد تناولت العديد من الدراسات في تاريخ الكوميديا " الملهاة " ذلك الجذر المشترك بينها وبين التراجيديا – المأساة في الفن الاغريقي، واذا كان هذا التأويل للضحك يناسب مجتمعات الازمات وتجد فيها الكاميرا الخفية مجالا مربحا، فان مجتمعات الامن والرفاهية أيضا تغزوها هذه المظاهر من الضحك عبر الكاميرا الخفية، لكنها تنم عن قواعد أخرى في الضحك تنسجم وطبيعة الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي تعيشه هذه المجتمعات، ولذلك يغلب على برامج الكاميرا الخفية فيها أنماط المكائد الخفيفة وعدم التعقيد في أداء أصحاب المكائد من العاملين في هذه البرامج، وإختفاء المزاج المنفعل وهو تعبير عن اختفاء التعقيدات الاجتماعية والسياسية في بلدان هذه المجتمعات.
بينما تعتمد برامج الكاميرا الخفية لدينا على المكائد العنيفة والمؤذية "رامز يلعب بالنار" والتعقيد في أداء الشخصيات المتخفية وراء أقنعة ساذجة "طحت بيهه" بل وتؤكد هذه البرامج لدينا على عنصر الانفعال الذي تعده أداتها الرئيسية في إيصال رسالتها الى المشاهد أو جمهورها المتلقي "الصدمة". إن العنف والسذاجة والانفعال هي العناصر الاكثر تعقيدا في ثقافتنا وواقعنا الاجتماعي والسياسي وإندماجها في عملية الضحك لدينا يؤشر طبيعة التحولات في ثقافة الضحك لدينا.
تحولات دلالة الضحك لدينا
يؤكد هنري برجسون، وهو أهم من كتب في دلالة المضحك والضحك على البعد الجماعي في الضحك لدى الانسان وإخراجه الضحك من حيز الشعور الى حيز العقل، فالضحك يتم بإزاء حالة غير منطقية تخالف الآلية والنظامية التي تسير وفقها الاشياء في الحياة وعند الانسان، وهو بذلك ينقل الضحك الى حقل الثقافة بعد تأكيده على البعد الجماعي في الضحك ودخوله في العقلي، فالثقافة هي ذلك المنحى الاجتماعي لحركة العقل في المجتمع، ولذلك نشهد تلك التحولات في آليات الضحك ووسائله المتبعة تبعا لتحولات الشعوب وثقافاتها، لكن تظل ظاهرة الضحك الاجتماعي قائمة ومستمرة، فالإنسان لا يضحك بمفرده أو لوحده، بل ضمن مجموعة يتردد من خلالها أصداء الضحك، وبذلك ينجز الضحك وظيفته الاجتماعية في التواصل بين مجموعة من البشر، مما يكسب ذلك التواصل بعدا وجدانيا واجتماعيا عميقا يمهد الى ديمومة وتوثيق العلاقات الاجتماعية عبر قنوات الصداقة والجماعة الشخصية للفرد.
ويؤثر الضحك كثيرا في ميل الفرد الى جماعة بعينها أو الى صديق بعينه، لكن الكاميرا الخفية في إثارتها للضحك تفتقد ذلك الجانب في وظيفة الضحك الاجتماعية، مما يؤشر تحولات في دلالة الضحك لدينا، وذلك يعود الى اهتمامها بالعابر والسطحي واستغراقها باستهداف الضحك لذاته، مما يحيلها الى نوع من السخرية التي هي تعبير عن تهكم خفي تمارسه الكاميرا الخفية إزاء الاطراف المشاركة في عملية الضحك، سواء الضيوف أو المتلقين الشعبيين.
وهنا تختلف السخرية عن الفكاهة التي تكون الاطراف المشاركة فيها راضية وسعيدة بنتائجها، بينما السخرية تكون على حساب فرد أو مجموعة لا يتحقق الرضا لديها، أما لدى الاخرين المشاركين سواء المقدمين للكاميرا الخفية أو المتلقين لها فإنها تكون مدعاة للرضا والضحك، وهنا يفتقد الضحك عملية التوازن في أداء وظيفته الاجتماعية في إنجاز التواصل البناء، وبذلك تحولت دلالة الفكاهة في الضحك الى دلالة السخرية فيه.
واذا كانت الآلية والنظامية في الاشياء وافتقاد المرونة في مخالفتها يوقع الحرج والارتباك في مواجهة موقف مخالف للنظام مما يتسبب في صناعة الضحك الطبيعي والعفوي لدى الانسان عند برجسون، وهنا يدخل دور المفاجأة كعنصر رئيس في أداء الضحك، إلا انه في الكاميرا الخفية يختفي عنصر المفاجأة بالنسبة للجمهور وينحصر بالضيف، وهكذا تبدو الاطراف المشاركة في عملية الضحك غير متعادلة في المشاركة وفي نصيبها من الضحك، مما يؤدي الى افتقادها التواصل بين المشاركين الاجتماعيين في عملية الضحك، وبذلك يفتقد الضحك إنجاز وظيفته الاجتماعية ويتحول الضحك بهذا الى هدف لذاته، وهو هدف يفرغه من كل محتوى اجتماعي ويحيله الى تلك السخرية الموبوءة باستهجان ذاتنا الاجتماعية.
وقد تبدو تلك الصورة واضحة في دور المغفل أو المستغفل في مشاهد الضحك الذي تنتعش بها حلقات الكاميرا الخفية في نظر جمهورنا الاشد ميلا الى مثل هذا الضحك، وكذلك تبدو مخالفة النظامية والالية التي تسير وفقها الاشياء في الكاميرا الخفية متعمدة ومقصورة في مجال اجتماعي محدد وهو الآداب العامة، مثل تعمد الكذب أو تعمد الازراء والازدراء، فتثير حفيظة الضيف وتثير الضحك لدى الجمهور، وعند مراجعة عملية الرضا بمخالفة نظام القواعد الاجتماعية بتعمد الكذب وتعمد الازراء والازدراء وتمريره بشكل مقبول رغم الاستهجان الذي يبدو من الضيف تجاه هذه الممارسات، نجد أن الذي يحكم هذه العملية هو المردود المالي المتحقق بالنسبة لأطراف تشارك في مكائد الكاميرا الخفية وتسهم بإثارة الضحك فيها، وأهم من ذلك الربح المالي الذي تؤمنه برامج الكاميرا الخفية لمنتجيها وللعاملين في ادارتها، مما يؤدي الى توظيف الضحك في مجال استثماري–اقتصادي ليؤكد حقيقة هيمنة الاقتصاد على مجمل الساحة الانسانية وبصيغها المتعددة بما فيها ظاهرة الضحك وثقافتها الاجتماعية، وهي تؤشر دلالة تحولات الضحك لدينا باعتباره انتماء الى حيز ثقافي متغير وحيز اجتماعي خاص يتماهى وهوية المجتمعات الذي تنتجه وتوظفه باتجاه البناء الاجتماعي، لكن وفق متغيرات سياسية واقتصادية بدت شديدة وفاعلة في توظيف الضحك باتجاه الربح المادي في برامج الكاميرا الخفية...
اضف تعليق