بناء الرأي العام كأنه متوالية هندسية، لا تقبل الخطأ، يتم إنشاءه خطوة بعد أخرى، وكل خطوة محسوبة، تؤدي الى خطوة لاحقة، صعودا الى الذروة في توجيه الرأي، ولا يمكن أن يُبنى الرأي العام خارج القواعد المخططة، ليساهم في التغيير، ويُحدث موجات شعبية، يسهل السيطرة عليها بالتنظيم، وقد يكون التوجيه مع أو بالضد، خاسرا أو ناجحا، قائدا فاعلا في إحداث التغيير الأنسب، او العكس من ذلك، تبعاً لمن يصنع الرأي ويتحكم به، وتبعا للأدوات والأساليب المستخدَمة، قد يكون هناك ضغط سلبي لهذا الرأي، وربما يدفع الأمور في الاتجاه المناسب، إنه ببساطة نقطة انطلاق معنوية حيوية لتحقيق النجاح في معركة ما.

في كتابه (الرأي العام والإعلام)، يقول المجدد الثاني، الإمام السيد محمد الشيرازي: (ينبغي الانتباه الى أهمية الدور العام في عملية التغيير – سواء كان التغيير جزئيا أو كليا أو كان من الحالة السيئة الى الحسنة وبالعكس- لكنه القوة الخلفية والأداة الفاعلة في عملية التغيير والنهوض، فبدونه لا تتم العملية، ولو تمت لكانت ناقصة، وبالرغم من أن الرأي العام ليس أداة معركة، لكنه هو الذي يهيئ للانتصار فيها).

من دون الرأي العام يصعب الوصول الى الغاية المعلّن عنها، هندسة الرأي مهمة بالغة التعقيد، يشترك فيها الاعلام، ومؤسسات أو جهات عديدة لها حضور حيوي، كل يأخذ دوره ويؤديه على أكمل وجه، من غير الصحيح أن يتخلى أحد او يهمل دوره، الأدوار مثبتة، خطوات متتابعة، تتوالى خلف بعض، خطوة تدعم الأخرى، المثقفون لهم دور معروف، الاعلاميون يحملون الراية، الطبقة الدينية، الخطباء ورجال الدين والحوزات العلمية كل له ما يقوم به، تلتقي الأفكار وترسم الأفعال، قد يكون الرأي العام هادئا، غاضبا، حيويا أو خاملا.

في محمل الأحوال، يكون له دوره وأهميته برسم التغييرات الايجابية في تشييد منجزات اجتماعية مشهودة، تحسّن الأدوات الإنتاجية والفكرية، وتصقل العقول، وتشحذ الهمم والإرادات، تُحدث خلخلة ايجابية، تردم فجوة الركون الى الصمت او القبول بالأمر الواقع، تصنع جماعات لا ترضى بضياع الحقوق، تفكر في القادم، في النشء، في صفحات مستقبلية قادمة، إنها صناعة الغد المرتقب، تصنعها عقول تمت تربيتها جيدا، وإرادات تشحذ الفكر الخلاق، وتمضي الى ما تبتغي بلا خشية، يحدث هذا بحضور القناعة التامة، لا يمكنك صنع رأي عام بالقوة، بالقسر، بالقرار الجبري، الإقناع طريقك وليس سواه، اذا اقتنع الناس بما هو مطروح لهم، سيعملون به بسبب القناعة والقبول.

حسب قول المجدد الثاني (قدس سره) عندما يقترح أو يشير الى: (إن الإنسان الذي لا يعتقد بنشاط معين لا يقدم عليه، وإذا أُجبر على ذلك فانه لا يعمل بكل طاقاته، وإنما يعمل لإرضاء ذلك الذي يخشى منه). أي أنه لا يبذل قصارى جهده، إنما يجهد نفسه بالقليل الذي قد لا يشترك في الوصول الى نهاية مقبولة، السبب هو عدم حصول القناعة بصناعة رأي عام بمقصد محدد، والقناعة ركن من أركان بناء الرأي العام، فلا يقوم الأخير ولا ينتشر ولا يسود بين طبقات الأمة بجدارة، ما لم تؤازره قناعة الناس.

ذكاء وغباء القادة يلعب دور في توظيف رأي الناس كما هو مرتقب، كثيرون فشلوا، وقلة هم الذين نجحوا، هذا يعني أنه ليس من السهل صناعة رأي عام موافق، والأصعب قيادته ضمن رؤية الخط السياسي المرسوم، لاسيما ما يتعلق بقراءة المستقبل وتحديد سماته ومعرفة ما يضمر من خفايا، لا يمكن سبر أغوارها اذا لم تكن للسياسي معرفة بكيفية التعاطي مع صناعة الرأي العام، هناك آثار مستقبلية عميقة للأخير لا مناص من تشبيك جسور الفهم معها.

لا يمكن الركون الى الرأي الخامل، كونه لا يصلح لشيء أو لأحد، ليست هناك أية فائدة من الخمول في الرأي، فقط ربما يستفيد من ذلك النظام السياسي الشاذ او المريض، واذا توافق الشعب مع نظام حكم شاذ، يوجد خلل في ذلك الشعب، قد يكون السبب الخوف من التعذيب والمطاردة والترهيب، ولكن أي حياة هذه التي يقبل الانسان أن يعيش فيها تحت سيف الظلم!!، أمر لا يحتاج الى تفسير، الشعب برأيه الخامل لا يصلح للحياة.

ينبّه المجدد الثاني الى هذا السياق بتأكيده: (يجب على العامل بالرأي العام ملاحظة أقسامه، والعمل وفقها عند إرادة فهم المستقبل وأبعاده، فإن للرأي العام آثارا مستقبلية يجب التوجه إليها، ومن أقسام الرأي العام أيضا، الرأي العام الخامل، وذلك بأن يقف الشعب موقف اللامبالاة أمام الحكومة لضعف او خوف او ما أشبه ذلك).

بالنتيجة، الرأي العامة صناعة، ومهارة، وأدوات، وأساليب، وإرادة، وتخطيط، وهندسة متوالية محكمة، لمن يستهدف التغيير والتجديد الذي دعا إليه الدعاة من أمثال الامام الشيرازي، التهرب من هذه الصناعة ترك مجاني للدور الشعبي، ولكن القيادة هي السبب، الشعب قد لا يعرف كيف يقود نفسه، النخب هي من يمارس القيادة وهي من يؤدي دور التوجيه ورسم خارطة الطريق، التعاون بين الطرفين الشعب وقيادته، يمكنها توجيه بوصلة التغيير المستقبلي.

اضف تعليق