البيروقراطية مفهوم اجتماعي وسياسي وإداري ذو وجهين: وجه يعبّر عن الكفاية والموضوعية والدقة وتحقيق الأهداف التنظيمية، والوجه الآخر يعبر عن الروتين وبطء الإجراءات الإدارية وسيطرة العلاقات الشخصية.
ترجع أصول هذه الكلمة إلى اللغة الألمانية، وتتكون من شقين: هما Bureau وتعني مكتب، وCracy وتعني حكم، والكلمة في مجملها تعني "حكم المكتب". وفي العام 1798، عرّف قاموس الأكاديمية الفرنسية "البيروقراطية" بأنها: "القوة والنفوذ اللذان يمارسهما رؤساء الحكومة وموظفو الهيئات الحكومية".
ومع بداية القرن التاسع عشر ظهرت ثلاثة معاني للبيروقراطية:
الأول: ينظر إليها بوصفها أسلوباً في الحكم والإدارة، يمكن مقارنتها بالملكية والديموقراطية والأرستقراطية.
الثاني: يركز على شكل معين من البيروقراطية بأنها السلطة والقوة، التي تُمنح للأقسام الحكومية وفروعها وتمارسها على المواطنين.
أما الثالث والأخير: فيميل إلى إبراز مخاطر البيروقراطية أسلوباً إدارياً عقيماً.
تناولها فرانز كافكا من خلال شخصية "جوزيف ك"، وهو الشخصية الأساسية في "القضية" الصادرة عام 1925، حيث اصبح اسير وحش بيروقراطي..اتهم بغلطة لايعرف شيئا عن طبيعتها، صار "جوزيف ك" اسير شبكة الة جهنمية. تم إيقافه من قبل شرطة لا وجه لها، ليجد نفسه متهما بحوافز مجهولة، يدور في متاهات المكاتب، وهو بين ايدي الموظفين الذين يقومون بتنفيذ أوامر قضاة غير مرئيين. تبدو المؤسسة القضائية في الرواية كانها تنظيم لاروح فيها، ولا احد يعرف غائياتها.. أخيرا يدان جوزيف ك ومن دون ان يعرف لماذا..
مع بداية القرن العشرين حين كتب كافكا "القضية" ثم رواية على الموضوع نفسه "القصر" كانت البيروقراطية تمد نسيجها الرمادي على المجتمع بأكمله. لقد بدت انئذ كانها عالم بارد ومغفل: انه عالم الافراط في التدوين الورقي، والقواعد الإدارية، والتنظيمات مابين الشخصية والإجراءات الطويلة والمملة.
دخل مفهوم البيروقراطية مع بداية القرن العشرين في الوقت الذي شهدت فيه اوربا إدارات الدولة الكبرى (عالم الموظفين) ونظام الإدارة والشركات الخاصة الكبرى والأحزاب السياسية والجماهير الكبرى.
البيروقراطية في مفهوم روبرت ميشيلز "عالم اجتماع ألماني كتب في السلوك السياسي للنخبوية الفكرية وأسهم في نظرية النخبة. وأكثر ما اشتهر به كان كتابه الأحزاب، المنشور في 1911، الذي احتوى وصفاً "للقانون الحديدي للأوليگاركية." لا تعدو أن تكون مجموعة من الموظفين والعمال، الذين يتقاضون أجراً لقاء عملهم، ويخضعون لسيطرة رؤسائهم وقادتهم، وأن الأوليجاركيه (حكم القلة) هي المصير المحتوم الذي ستنتهي إليه البيروقراطية. وقد أدى هذا التصور للبيروقراطية إلى الإشارة إلى فكرة إساءة استعمال القوة، وبسبب أن أعضاء التنظيم البيروقراطي لديهم قدر من القوة يتعدى النطاق المحدود لوظائفهم الرسمية.
ويعتبر ماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني، البيروقراطية وليدة التحالف بين السلطة والعقل.. ففي الوقت الذي تشعر فيه السلطة التقليدية نفسها بثقل الماضي، وفي وقت تتكون فيه السلطة الكاريزماتية حول شخصية استثنائية، تمارس البيروقراطية سلطتها "الشرعية – العقلانية" . ويؤخذ الموظف تبعا لكفاءاته، وهو يتصرف بموجب قواعد القانون مابين الأشخاص.
ويعتبر فيبر البيروقراطية بمنزلة "تايلورية" نسبة لفريدريك تايلور "مهندس ميكانيك ، ولعل من أهم الإسهامات العلمية البارزة التي قام بها في حقل الإدارة ما يعرف بدراسة الحركة والزمن (في رفع الكفاءة الإنتاجية للعمل وتخفيض التكاليف "غير أن ما يثير الدهشة أن العمال وقتئذ قاوموا "الطريقة التايلورية).
ويُدين مفهوم البيروقراطية بالكثير لماكس فيبر، الذي تناوله في ضوء مفهوم السلطة أو القوة. هذه السلطة تفترض في التنظيم البيروقراطي الرشيد وجود مجموعة من المعايير الاجتماعية تتولى تنظيم السلوك تنظيماً رشيداً، بحيث يتمكن هذا السلوك من تحقيق أهداف محددة. ومن ثم فالطاعة في هذا النمط من السلطة لا تكون لشخص بعينه، وإنما لمجموعة من المبادئ الموضوعية، التي تفرض إتباع التوجيهات والأوامر التي يصدرها الرئيس، بغض النظر عن شخصية هذا الرئيس. وقد ذهب فيبر إلى أن أهم ما يميز التنظيم البيروقراطي هو وجود قواعد محددة موضوعية، تحدد بطريقة رشيدة التسلسل الرئاسي، إضافة إلى ما تنظمه من حقوق وواجبات. ومن السمات الأخرى للبيروقراطية، فصل الإدارة عن الملكية؛ فموارد التنظيم ليست ملكاً لأفراده، كما أن وظائفه لا تُباع ولا تُورث، ولا يمكن أن تُضاف إلى الملكية الخاصة.
ومن خلال القضايا والمفاهيم التي استند إليها فيبر، يمكن تناول نموذجه المثالي للتنظيم البيروقراطي.
يرتكز النموذج المثالي للبيروقراطية على عدة محاور، أهمها وجود درجة عالية من التخصص، وبناء رئاسي للسلطة ينطوي على نطاق محدد للمسؤولية، ونسق رسمي للعلاقات بين أعضاء التنظيم. وتحدد العضوية وفقاً للمقدرة والخبرة الفنية، والفصل بين الدخل الخاص والمرتب الذي يحصل عليه الفرد بصورة رسمية. هذه هي الخصائص والسّمات التي ضمّنها فيبر نموذجه المثالي للبيروقراطية، وهي سمات وخصائص تزيد من فرص اتخاذ قرارات رشيدة تزيد من الكفاية الإدارية، التي هي الهدف الأسمى للتنظيم البيروقراطي. فالإدارة البيروقراطية تُعني، أولاً وقبل كل شيء، بممارسة الضبط على أساس العلم والمعرفة، وهذا ما يجعلها إدارة رشيدة وعقلانية.
انغرست البيروقراطية في الشؤون العامة: تقسيم للعمل مبالغ به، تمييز بين القرار والتنفيذ، مركزة المهمات. ان حركة عقلنة النشاطات عينها هي حركة تمس عالم المشروع الخاص وعالم الإدارة العامة. ويقع علم اجتماع التنظيمات البيروقراطية الكبرى على حافة التحليل الموضوعي ورفض "السلطة البيروقراطية" التي اكتسبت استقلالية معينة :"استقلالية التكنوقراط".
بعد الاربعينات بدت سلطة التنظيمات الكبرى العامة والخاصة اكثر تعززا في الغرب، اما في المشرق ومع مجيء الشيوعية فان البيروقراطية قد غزت المجتمع باسره. من هنا رأى بعض الكتاب الدينامية نفسها في الشرق والغرب. ان السيطرة في الغرب لرجال الاعمال، وفي الشرق للبيروقراطية. ثمة طبقة اجتماعية جديدة اخذت الامر على المجتمع، لقد صارت طبقة مسيطرة ترقب وتدير وتتلاعب بالجماهير المغفلة.
عام 1941 كتب عالم الاجتماع الأمريكي جيمس برنهام، عن «نظرية الانقلاب الفنى» ، كما ادرك جوزيف شومبتر (عالم أمريكي في الاقتصاد والعلوم السياسية من أصل نمساوي. اشتهر بترويجه لنظرية الفوضى الخلاقة في الاقتصاد) صعود السلطة البيروقراطية الذي لامرد له. وفي روايته عن الخيال العلمي 1984 أشار جورج ارويل الى اجتياح المجتمع عبر دولة بيروقراطية وكليانبة..
بعد الستينات شرع علماء اجتماع التنظيمات بابراز سوء عمل النظام البيروقراطي أمثال ميشال كروزييه الذي حلل في كتبه الألعاب الداخلية والالزامات التي تتوجب على التعارض بين الخدمات. كما اصر علماء الاجتماع الاميركان على اليات القرار.
لاحقا أظهرت الدراسات التي تناولت وظيفة رجال الإدارة، ان هؤلاء ابعد من ان يكونوا أدوات طيعة لايمكن تغييرها، اذ يحتفظ كل موظف بهامش معين في تطبيقه للقرارات. وبامكانه أحيانا ان يقلب القواعد، وان يفسرها ويوجهها حسب مصالحه، ومن اجل جعل الوظيفة اكثر وظيفية، باختصار، يعتبر الموظفون فاعلين لامجرد منفذين سلبيين ينفذون قاعدة لاشخصية.
منذ الثمانينات بدأت إصلاحات تحديثية قادت الإدارات نحو مرونة كبيرة وانفتاح على اهتمامات الجمهور.
اضف تعليق