يرى هنري لوفيفر أن الحداثة كلمة لا تُستهلك، على الرغم من كثرة الاستعمال. وهي كلمة لا تقدم أية إجابة محددة عن معناها، فهل هذا يعني أننا إزاء مصطلح إشكالي؟، أظن نعم، ولاسيما في فضائنا الثقافي العربي والعراقي . حيث بقيت شريحة المثقفين، تردد هذه الكلمة لعقود، كما لو أنها الرقية السحرية التي ستنتشلنا من عتمة واقعنا وانحطاطه، وتعطينا مفاتيح الحلول لمشكلاتنا العويصة الموروثة منها، وكذلك المستجدة والمرتقبة، ومن غير أن تشحنها بمدلولها الواقعي والتأريخي، بتبيئتها أولاً، وجعلها بعد ذلك مشروعاً مركباً، لا في حقل الثقافة وحسب، وانما للمجتمع والدولة لاستكمال شروط النهضة العربية والعراقية الحديثة وتجاوز عثراتها. نقول مشروعاً مركباً لأن المفهوم نفسه - الحداثة - ينطوي بالضرورة على ما هو شامل ومتعدد الأبعاد اجتماعياً وتأريخياً. بعدما تعامل معه بعض مدعي الحداثة، في حقول الآداب والفنون بخفة وسذاجة، حين اعتقدوا أن السعي للحداثة هو قرار ذاتي، مزاجي، يتخذه هذا الكاتب أو الفنان أو المفكر أو ذاك السياسي في أن يكون حداثياً، من غير الالتفات الى الشروط الواقعية والتأريخية التي تتطلبها كل عملية تحديث. فالحداثة هي إجراء تغييرات في العمق تشمل صُعد الفكر والقيم والسلوك العام والمؤسسات.
وبطبيعة الحال هذا لا يعني إنكار حقيقة أن فكر الحداثة يمكن، أو لابد من أن يرهص ويؤسس لتجربة الحداثة ويعززها ، لا أن يكون بديلاً عنها.
عربياً، وبحكم عوامل الجغرافية السياسية والتأريخ السياسي، كانت مصر سباقة في تحديث ثقافتها ومجتمعها ودولتها قياساً إلى بقية البلدان العربية. وهي حداثة عُممت عربياً لكنها ظلت قاصرة ومبتورة ومشوهة. بمعنى أنها لم تستكمل قط شروط تفتحها ونموها الطبيعي، ولم تمهد لها الأرضية الملائمة لتكون مشروعاً مجتمعياً دولتياً يدخل في نسيج عقل وضمير النخب السياسية والثقافية، ويتحول إلى جزء من الهاجس والسلوك الاجتماعيين. فعبء الماضي كان يثقل كاهل الأحياء، ومنطق التحريم والتكفير كان يحول دون أي ابداع حقيقي أو تحول جذري في الفكر والواقع يمكن أن يهدد والمؤسسات القديمة وما ترتبط بها من مصالح وغايات.
تتداخل في الفكر العربي مفاهيم الإصلاح والنهضة والحداثة، وتبدو أحياناً وكأنها، جميعاً، توحي بمعنى واحد ، وتفضي نحو غاية واحدة. وكان مفهوم الإصلاح هو أول مادخل قاموسنا الفكري والسياسي الحديث. وكما نعلم فإن لهذا المفهوم جذره في تراثنا في اشتباك مع ماهو ديني يوم لم يكن الدنيوي قد تجرأ على فك ارتباطه بالديني حتى من الناحية النظرية.
وبدأت أولى رياح التغيير بالهبوب على المنطقة بفعل الغزو الفرنسي لمصر بقيادة نابليون بونابرت (1798). والنزعة الإصلاحية لمحمد علي الذي تبوأ عرش مصر بعد الغزو بسنوات قليلة (1805). ومن ثم، التماس مع فكر الغرب وواقعه ( رحلة الطهطاوي إلى باريس وكتابه تخليص الأبريز ، نموذجاً).
هذه العوامل كلها، مع غيرها، جعلت من الإصلاح مفهوماً ضاغطاً على العقل العربي الذي راح يستيقظ من سباته الطويل أخيراً، ويحاول في البدء، أن يفهم ما جرى حقاً. وما هو الوضع في حقيقته القائمة ، قبل أن يشرع بابتداع أسئلة المستقبل.
كان ثقل الٱرث المتحدر من القرون المظلمة، والإحساس بالفجوة. الحضارية (العلمية والفكرية والمادية) بيننا وبين الغرب بعد صدمة الاستعمار، فضلاً عن نفاد الصبر، قد أوهم جيلاً شاباً حالماً بأن الوصول إلى ما وصلت اليه الحضارة الغربية في غضون سنوات أو عقود قليلة بات أمراً ممكناً. لينتعش الفكر الراديكالي بنسخه (الماركسية والقومية والإسلامية) والذي صار إيديولوجية مؤسسات سياسية (أحزاب ونقابات وقوى) منذ عقدي العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين لتتبناها حكومات وطنية قادها عسكر من أصول ريفية ، في الغالب .
لم تدخل كلمات (الإصلاح) و(النهضة) وبعد ذلك (الحداثة)، قاموس الشارع السياسي العربي مثلما دخلته كلمات من قبيل ( الإنقلاب، الثورة، النضال، الكفاح المسلح، حرق المراحل، الإشتراكية، الوحدة)، وكان الإندفاع نحو تدمير ما هو واقع وقائم أكبر بكثير من السعي لإعادة البناء والتنمية. وعمل الطابع الشعبوي للأنظمة الراديكالية على إشاعة وعي زائف أفضى إلى أن تكون السياسة انشغالاً عاماً، لكنه كان غير منتج ، في كثير من الأحيان ، وضاراً ومخرباً . وكانت تلك ثقافة (سياسية) مهلهلة ومسطحة وتبسيطية توهم حاملها بأنه يحتكر الحقيقة ، ويعرف كل شيء ، على الرغم من أنه ، في واقع الأمر لايكاد يعرف أي شيء ، وكان من نتائج انتشار تلك الثقافة :
1/ ولوج الأدعياء وأنصاف الأميين والانتهازيين والمهووسين والطامعين بالسلطة والمصابين بالعقد النفسية حلبة السياسة .
2/ افتقاد الحس السياسي السليم الذي يستطيع التعاطي مع الواقع ، ويكشف منابع إمكاناته الحقيقية . ولايعني الحس السياسي السليم ، بأية حال ، الاستسلام لواقع الحال ، وانما امتلاك الوسيلة الناجعة للتحري عن إمكاناته الحقيقية وإرساء الدعائم الضرورية لتحويله وبنائه .
3/ شيوع لغة في الخطاب السياسي والإعلام تثير الغرائز والعواطف ، وتخدر العقل . وهذه اللغة لم ترسخ أسس بناء دولة حديثة بقدر مل أعادت انتاج مفاهيم ماقبل الدولة ، وماقبل الحداثة بصورة مقنّعة ومموهة .
كانت تلك لغة للمتاجرة والمزاودة السياسية ، وليست للفعل الحقيقي الذي يحوّل الواقع ويبنيه . والغريب أن شريحة واسعة من المثقفين ، كانوا ولايزالون ، يشاركون في تلك المتاجرة والمزاودة ، مع السلطة أو ضدها .
لو نظرنا بعمق إلى إيديولوجيات ولغة الخطاب السياسي ووسائل عمل وتكتيكات وهياكل البناء التنظيمي للأحزاب والقوى السياسية المتصارعة على الساحة السياسية العربية ، ولاسيما ذات المنحى الشمولي منها ، سواء من انتمى منها الى اليمين أو إلى اليسار ، لوجدنا أنها تتشابه في نواحي كثيرة ، وتكاد تصدر ، في معظمها ، عن ، أو تستند إلى بنية عميقة واحدة متأصلة في تأريخنا الاجتماعي والثقافي . وأنها عكست العلاقات الأبوية
البطريركية ، والمنظومة المعرفية والقيمية المرتبطة بها ، بغض النظر عمّا اتخذت لنفسها وتداولت من تسميات ومصطلحات وشعارات . وهذا مايشكل أحد العوامل الرئيسة في أننا لم نشهد عربياً عملية بناء دولة حديثة ، قائمة على قواعد عصرية راسخة ..دولة منتجة ، تستطيع استثمار موارد وطاقات الأمة ، وتحقق للمجتمع الحرية والسعادة .
ظل فكر الحداثة بالأسلوب الذي تعاطى معه المثقفون منفصلاً عن فكرة الدولة حول تحديث ذاتها . وإذ لم يبد هاجس الحداثة عند شريحة واسعة من المثقفين العرب ضاغطاً لعدم استناده الى حس تأريخي مستقبلي يتمثل حركة المجتمع والعالم في تقدمه العلمي والمعرفي والتقني والاجتماعي ، مع وعي معوقاته ، ويستوعب المكتسبات الحضارية المتجددة ، فإن الدولة ( أو بالأحرى شبه الدولة العربية ) لم تحدِّث نفسها إلاّ إلى الحد ( وبالطريقة ) الذي يبقيها مستمرة في وضعها الحالي .
كانت حداثة المثقفين العرب في الغالب ، شكلية خاوية . وكانت الدولة العربية ( الخديثة ) مشوهة ، وهشة ، وعتيقة الطراز ، إذا ما أزحنا عن وجهها قناعها البراق . وباستعارة تقسيم برادبري وماكفارلن لأنواع الحداثة ، التي نوهنا عنها آنفاً ، نستطيع القول أن تبني حداثة الموضة / التقليعة هو الذي ميّز اتجاهات كثر من المثقفين العرب ، فيما استعانت مراكز قوى واسعة من السلطة العربية بحداثة التدمير الشامل الذي يترك كل شيء أنقاضاً . مع تبادل الأدوار ، بين هؤلاء وأولئك ، في بعض الأحيان .
أخيراً يبقى أي كلام (أو خطاب أو مشروع) عن الحداثة بلا معنى إذا لم يجعل محوره شذرتي الحداثة (بتعبير آلان تورين) وهما انبثاق الذات الفردية بعدِّها حرية وكرامة وطاقة عمل وإبداع . وسيادة العقل بعدِّه أداة الرؤية والفكر والممارسة . وهذا مالم يتجسد بفعالية ، لا في مشاريع المثقفين النظرية ، إلاّ باستثناءات.. ولا في مشاريع الانظمة العربية ، من غير استثناء .
اضف تعليق