نقيا طاهرا حكيما عادلا دقيقا مهنيا رحيما سلسا متفهما، كان النص الإسلامي المقدس في بداية نزوله وبدء العمل به، لكن الذين امتهنوا التدين واتخذوه صنعة حاولوا مط النص ليستنبطوا منه أمورا ليست فيه، ولم يطرقها غيرهم، لكي يتفردوا، ويشار إليهم على أنهم أعلم وأكثر إلماما من الآخرين، وهؤلاء اهتموا بأنفسهم ومستقبلهم ومكانتهم أكثر من اهتمامهم بالنص وبالدين وأتباعه. وهم حتى مع هذه الحال المائلة وجدوا من يتخذهم قدوة، ويتبعهم، ويأخذ بما جاءوا به، ويعمل بموجبه على أنه نص فقهي مستقى من نص مقدس، وأنه هو الصحيح وغيره خطأ، وقد تحول ما جاءوا به بدوره إلى نص مقدس، فحالت قدسيته الزائفة دون محاكمته وامتحانه بحجة أنه (لا يجوز الاجتهاد قبالة النص) كما تقول القاعدة الفقهية المعمول بها.

إن الأحكام التي استنبطت بهذه الطريقة، ثم حُولت مع مرور الوقت إلى نص مقدس، لم تقف عند تشويه الحقائق، أو الإساءة إلى الدين فحسب، بل وتسببت أيضا في خلق مشاكل كثيرة للمجتمع الإسلامي نفسه، أسهمت في فرقته واختلافه وتمزقه وتحوله إلى مجاميع مختلفة المناهج تكاد لا تلتقي في أي نقطة تماس، كما أنها ووفقا لرؤاها الضيقة خلقت مفاهيم جديدة للإيمان والتعبد والشرك والكفر والحكم الشرعي، تحولت هي الأخرى بدورها إلى حافات حادة ناتئة خطيرة، وأصبحت ألعوبة بيد أنصاف المتعلمين وأشباه المتعبدين، يتخذونها وسيلة للحكم على بلدان وشعوب وجماعات ومناهج وعقائد بالكفر وجواز القتل والسبي، ومن ذلك الهم الكبير، أُستنبطت مصطلحات غاية في القسوة؛ مثل (بلاد الشرك) و(بلاد الإسلام)، التي أصبحت المتحكم الأوحد بعلاقة المسلم بالمسلم الآخر وغيره من عباد الله.

لكن هذا التقسيم الجائر لم يحترم نفسه حيث وضع تعريفات غريبة لبلاد الإسلام نفسها تبدو أكثر تعقيدا من تلك التي وضعها لبلاد الشرك، هذه الأحكام هي التي أباحت للفرق الراديكالية المتطرفة فرصة تنفيذ الأعمال الإرهابية في البلدان الإسلامية كافة وبلا استثناء اعتمادا إلى ما يفهم من أقوال وأحكام الفقهاء، واعتمادا على نظرتهم إلى الحكومات التي تقود هذه البلدان، ولما كان المتطرفون يكفرون جميع الحكام العرب، فمعنى هذا أنهم يبيحون التفجير والقتل في البلدان الإسلامية بنفس درجة الإباحة التي يجيزونها مع الغير.

لفهم هذه الإشكالية المرعبة لا تحتاج سوى دقائق لمراجعة كتب الأحكام الشرعية والإطلاع على آراء الإفتائيين، حيث قال الفقهاء: قد ذكر أهل العلم الفرق والاختلاف بين بلاد الإسلام وبلاد الكفار:

فبلاد الإسلام: التي يحكمها المسلمون، وتجري فيها الأحكام الإسلامية، ويكون النفوذ فيها للمسلمين، ولو كان جمهور أهلها كفارا، فالأنبار ونينوى كانا كافرتين وبلادي شرك قبل تسلط داعش عليهما، وبعده تحولتا إلى بلدتين إسلاميتين حتى لو بقي أهلها (الكفار) على نهجهم!.

وبمعنى آخر: كل بلاد أو ديار، يقيم حكامها وذوو السلطان فيها حدود الله، ويحكمون رعيتها بشريعة الإسلام، وتستطيع فيها الرعية أن تقوم بما أوجبته الشريعة الإسلامية عليها؛ هي بلاد إسلام.

وبلاد الكفر ضدها، فهي التي يحكمها الكفار، وتجري فيها أحكام الكفار، ويكون النفوذ فيها للكفار، ولو كان بها غالبية من المسلمين.

وبمعنى آخر: كل بلاد أو ديار، لا يقيم حكامها وذوو السلطان فيها حدود الله، ولا يحكمون في الرعية بحكم الإسلام، ولا يقوى المسلم فيها على القيام بما وجب عليه من شعائر الإسلام؛ هي بلاد كفر!.

والمعنى الأشمل: إن كان الحكم للشريعة الإسلامية فالبلاد إسلامية، وإن كان الحكم بغير الشريعة فالبلاد غير إسلامية ولو كان أهلها مسلمون. وهذا ما أبانه الشوكاني بقوله: إن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام، بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره، إلا لكونه مأذونا له بذلك من أهل الإسلام، فهذه دار الإسلام، ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها، لأنها لم تظهر بقوة الكفار ولا بصولتهم، كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى، والمعاهدين الساكنين في المدائن الإسلامية، وإذا كان الأمر بالعكس فالدار بالعكس.

وفق هذا التقسيم المنحرف والمتخلف يتم التعامل مع البلدان، فالبلاد التي توصم بالكفر أو الشرك يجوز محاربتها وتخريبها وقتل أهلها حتى ولو كان فيها غالبية من المسلمين، بل حتى ولو كان جميع أهلها من المسلمين. ومن هنا أخذت داعش فكرة القيام بالعمليات الإرهابية في كثير من البلدان الإسلامية مثل العراق وسوريا وليبيا ومصر والجزائر أسوة بعملياتها في البلدان الأخرى مثل الأوربية والأفريقية.

إن منبع هذا التقسيم الشاذ هو عقيدة التكفير التي اتبعتها بعض الفرق الإسلامية بسبب تحريفها للنص المقدس أو بسبب إعادة صياغته بما يتناسب مع رؤاها المتطرفة، وقد وقعت في مصيدة هذا التطرف مجموعات من الفرق الإسلامية الأخرى عبر التاريخ مما تسبب بكل تلك المآسي التي مرت بالعالم الإسلامي، وإذا لم يتم احتواء هذه الثقافة المدعومة، فإن الإسلام سيواجه في المستقبل القريب مشاكل قد تشل حراكه وتعطل أحكامه وتلغي وجوده وتحوله إلى فكر مُحارب من جميع الأطراف.

ومعنى هذا أن العالم يحتاج منا اليوم إلى إبداء حسن نوايا على أن من يتبعون هذا المنهج من بيننا هم شرذمة لا تمثل الإسلام ولا تأتمر بأوامره، وكل عمل معاكس يتخذ ضدها سيجد تأييدا من لدنا، بشرط أن يشمل هذا الإجراء الإسلام كله أو يتهمه بالانحراف.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق