الإصلاح هو عملية تغيير تتم بطريقة تدريجية وتشمل مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية في الدولة، بطريقة سلمية بعيدا عن العنف، من خلال الاستجابة لمطالب الجماهير المنادية بالإصلاح بإجراءات دستورية أو خارج نطاق الدستور أحيانا من خلال إصدار قرارات لها قوة القانون، وبهذا فان المظاهرات التي انطلقت في العراق من 7 أب 2015، وشملت اغلب محافظات العراق، كانت تنادي بإصلاح الوضع السياسي والاقتصادي وإصلاح القضاء والأجهزة الأمنية في الدولة بعد ما أصابها من تدهور أدى إلى حدوث أزمات وكوارث أودت بحياة الآلاف من العراقيين، واختلاس المليارات من الدولارات من المال العام، وتقسيم الحكم على أساس طائفي وقومي، وقد تقود في نهاية المطاف إلى تقسيم البلاد.

إن أول مظاهرات انطلقت مطالبة بالإصلاح السياسي وتحسين الخدمات كانت عام 2011، مع انطلاقة ثورات الربيع العربي، فقد تظاهر عدد من المواطنين في ساحة التحرير للمطالبة بتحسين الخدمات والإصلاح السياسي وقد شملت المظاهرات معظم المحافظات، إلا إن هذه المطالب تم تسويفها والانقلاب عليها من خلال الوعود التي لم ينفذ منها شيء، إذ وعد حكومة (السيد المالكي) الثانية الشعب مدة المائة يوم لتحسين الخدمات، ولم تنفذ هذه الوعود، ثم عادت المظاهرات مرة أخرى عام 2013، للمطالبة بتحسين الخدمات ولم تكن أحسن حالا من سابقتها.

وفي عام 2014 تعرض العراق إلى هجوم شامل وواسع من قبل تنظيم داعش الإرهابي الذي تمكن من الاستيلاء على 40% من مساحة العراق خلال أيام قلائل، وانهيار الجيش العراقي بشكل غير متوقع، ولم يوقف زحف الإرهاب إلا فتوى الجهاد الكفائي التي أعلنتها المرجعية الدينية للدفاع عن الأرض والمقدسات، ثم جاءت الأزمة السياسية بعد ذلك والخلافات على تشكيل الحكومة والتي انتهت باختيار السيد (حيدر العبادي) رئيسا للوزراء، بعدها ضربت الأزمة الاقتصادية العالم كله ومنه العراق نتيجة انخفاض أسعار النفط، وتعرض البلد لأكبر أزمة اقتصادية منذ عام 2003، إذ لجأت الحكومة إلى تقليص رواتب الموظفين وتقليص الاستثمار وزيادة الضرائب والرسوم، من اجل سد العجز في الموازنة، ومن اجل توفير مستلزمات إدامة الحرب ضد الإرهاب وتحرير المدن العراقية.

هذه الأحداث كشفت عن هشاشة الوضع السياسي والعسكري والاقتصادي، وأوضحت إن العراق بحاجة إلى إصلاح شامل في كل الجوانب، وعلى رأسها السياسية، وهذا ما حفز شرائح المجتمع العراقي إلى النهوض والمطالبة بالإصلاحات والتي استمرت من شهر أب 2015، على شكل مظاهرات في جميع محافظات العراق، وكانت مطالبها بتشكيل حكومة تكنوقراط وإنهاء المحاصصة الطائفية، والمطالبة كذلك بتحسين الخدمات وتوفير فرص العمل للعراقيين، وعدم استقطاع رواتب الموظفين لسد العجز، وإنما إرجاع الأموال المهربة للخارج والتي قدرتها بعض المصادر بأكثر من 200 مليار دولار، ومحاسبة الفاسدين.

وقد دعمت المرجعية الدينية في النجف الاشرف، والتي أيدها كل علماء الدين في العراق، هذه المطالب من خلال دعمها لرئيس الوزراء للقيام بالإصلاح، وقدمت له كل الدعم الممكن للقيام بالتغيير الشامل، إلا إن مماطلة بعض الكتل السياسة، وضعف الحكومة العراقية لاستثمار هذا الدعم، والتي قامت بإصلاحات شكلية لا ترقى لمطالب الجماهير، مثل دمج بعض الوزارات وتغيير بعض المدراء العامين، شكلية إصلاحات الحكومة مع اعتراض بعض الكتل وعدم جدية الحكومة على الإصلاح الشامل، قد قاد في نهاية المطاف إلى الدعوة للاعتصام أمام بوابات المنطقة الخضراء في بغداد، والتي بدائها التيار الصدري من خلال دعوة أنصاره للاعتصام، ثم قيام زعيم التيار (السيد مقتدى الصدر) بالاعتصام داخل المنطقة الخضراء من اجل الضغط على الحكومة لإجراء إصلاحات شاملة وتشكيل حكومة تكنوقراط غير حزبية، ووصل الأمر بالتهديد باقتحام المنطقة الخضراء في حالة عدم استجابة الحكومة لمطالب الشعب بالإصلاح، عندها شكلت الحكومة لجنة من اجل اختيار الكابينة الوزارية المستقلة، قبلها تم إعداد قائمة من 90 شخصا من قبل التيار الصدري لتشكيل حكومة التكنوقراط الجديدة فيما إذا رفضت الحكومة الإصلاحات، وهي جزء من الضغط على الحكومة.

وفي 31 آذار 2016، أعلنت الحكومة العراقية عن التشكيلة الحكومية الجديدة وعددها 18 وزارة، 16 من التكنوقراط، باستثناء وزيري الدفاع والداخلية اللذان استثنيا من الإصلاحات لأسباب الحرب ضد الإرهاب حسب إعلان الحكومة، إذ تم دمج بعض الوزارات من اجل تقليص عددها، كما تعهدت الحكومة بالقيام بتغيير وكلاء الوزارات ورؤساء الهيئات المستقلة خلال مدة شهر، وقد قدمت للبرلمان للتصويت عليها خلال عشرة أيام.

إن ما يميز مرحلة الإصلاحات هذه (أي مرحلة أب 2015) عن سابقاتها من مطالب الإصلاح أنها جاءت مترافقة مع عدت أسباب سياسية واقتصادية وعسكرية مر بها العراق، والتي عجلت بها وهي:

1- الصراع السياسي بين الكتل السياسية، الذي وصل إلى مراحل لا يمكن السكوت عليها، وقد تقود إلى تمزيق البلاد، إذ أصبحت كل كتلة سياسية تبحث عن مصالحها فقط، وتدير وزاراتها بما يلبي مصالحها واستمرارها بالمنصب، والتقسيم الطائفي والقومي للحكم، والذي أدى إلى اتساع ظاهرة الفساد المالي والإداري، مما انعكس هذا الصراع على الشارع العراقي الذي أصبح يعاني من اتساع الإرهاب وقلة الخدمات، والإهمال.

2- سوء الخدمات، وخاصة الخدمات الأساسية وهي الكهرباء والطرق، يضاف إليها الأزمة الاقتصادية الناتجة عن انخفاض أسعار النفط، إذ تعتمد الميزانية العراقية على تصدير النفط بشكل أساسي في تمويلها، هذا قاد الحكومة باللجوء إلى أساليب عديدة في سد العجز فيها، ومنها زيادة الضرائب والرسوم وتقليص رواتب الموظفين، هذه الإجراءات قد أثرت بشكل أساسي على معيشة المواطنين وعلى الحياة الاقتصادية في البلاد بشكل عام، هذا ما زاد من غضب الشارع العراقي على الحكومة العراقية، خاصة وان هناك عدد كبير من المسؤولين العراقيين متهمين بالفساد المالي، بسرقة مئات المليارات من أموال العراق وتهريبها للخارج.

3- أزمة الإرهاب التي تضرب بالبلاد منذ الاحتلال ولحد الان، والتي أدت إلى خسائر جسيمة بالأرواح والممتلكات، والتي قادت إلى اتساع الإرهاب واستيلائه على أجزاء واسعة من البلاد، وانهيار الجيش العراقي، وتهجير ملايين العوائل، وقتل الآلاف، وسبي النساء والأطفال، كل هذه اظهرت ضعف الحكومات العراقية المبنية على أسس طائفية وحزبية ضيقة، وقادت إلى المطالبة بحكومة قوية تعيد الأمور إلى نصابها.

4- كذلك إن بعض الكتل والأحزاب السياسية أدركت خطورة المرحلة، خاصة وان العراق يواجه أزمات حادة جدا متمثلة بالإرهاب والأزمة الاقتصادية، وأدركت كذلك جدية الجماهير واستمرار بالتظاهر من اجل التغيير، لهذا لجأت هذه الأحزاب والكتل إلى النزول للشارع والمطالبة بالإصلاح وقيادة الجماهير وان يكون الإصلاح من داخل الحكومة، خوفا من انزلاق الأمور في العراق إلى مستوى أعمق مما هو فيه، لهذا بدأت بالمطالبة بالإصلاح الشامل لإدراكها بأحقية المطالب وإنها الطريق الوحيد لإصلاح الأوضاع في العراق.

5- دعوة المرجعية الدينية للإصلاح، فمنذ اليوم الأول للتظاهر أعلنت المرجعية الدينية تأييدها لمطالب المتظاهرين، ودعم الحكومة للقيام بالإصلاح، هذا قد أعطى زخما مضافا للشعب للاستمرار بالتظاهر، والضغط على الحكومة، وحتى مع وقف المرجعية لخطبة الجمعة السياسية واقتصارها على الدينية، إلا إن هذا لا يعني إن المرجعية تخلت عن مطالب الإصلاح، بل لجأت إلى وسائل أخرى لتحقيق هذا المطلب ومنها دعم الاعتصام أمام المنطقة الخضراء.

إن تقديم الكابينة الوزارية الجديدة للبرلمان للتصويت عليها، ودعمها من قبل الكتل المؤثرة في البرلمان ومنها كتلة الأحرار، ودولة القانون، وموافقة الشارع عليها، قد يقود إلى إقرارها في البرلمان، خاصة وإنها ضمت شخصيات شملت كل الطيف العراقي من جهة، وذات توجهات غير حزبية من جهة أخرى، ولكن إقرارها لا يعني إن المشاكل قد انتهت، لان مشكلة العراق ليس سياسية فقط، وإنها سوف تحل من خلال تشكيل حكومة تكنوقراط كما هو معلن، فالبلد يواجه عدة مشاكل منها ما يتعلق بالحرب على تنظيم داعش الإرهابي وتحرير المدن من قبضتها، كذلك الأزمة الاقتصادية الحادة هي الأخرى بحاجة إلى معالجات قصيرة وطويلة الأمد، لان حل المشكلة الاقتصادية يتطلب سياسات اقتصادية قد تجبر الحكومة الجديدة على اللجوء إليها، وهي نفسها التي خرج الشعب للمطالبة بالغاها، كذلك إن بعض الكتل السياسية هي الأخرى معارضة لهذه الإصلاحات، وتطالب بضمان بحصتها الوزارية، كما إن الأكراد قد رفضوا اي تغيير وزاري يخص وزاراتهم بدون موافقتهم، بل ان بعض الوزراء لازالوا متشبثين بالمنصب ولا يرغبون بتركه، كذلك إن المتظاهرين قد وجهوا إنذارا للحكومة بقبول هذه التشكيلة الوزارية وفي حالة رفضها سيكون هناك تصعيد للموقف، والذي قد يشمل إسقاط الحكومة، كذلك هناك بعض المشاكل الدستورية والقانونية التي سوف تعترض طريق الحكومة الجديدة وأعمالها، خاصة وان البرلمان سوف يشدد مراقبته عليها، من اجل الانتقام منها، أو إفشالها.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
www.fcdrs.com

اضف تعليق